فرشت باريس السجاد الأحمر تحت أقدام الرئيس الأميركي وزوجته طيلة يومين واستضافته ضيف الشرف في العرض العسكري التقليدي في جادة الشانزليزيه.
ومن الناحية البروتوكولية لم يكن باستطاعة الرئاسة الفرنسية تقديم أكثر ما قدمته لدونالد ترمب. لكن على المستوى الإنساني، لم يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون في وصفه بـ«الصديق» واعتبار العشاء الذي جمعه وعقيلته بريجيت مع الثنائي الرئاسي الأميركي في مطعم يقع في الطابق الثاني من برج إيفيل «عشاء بين أصدقاء».
كذلك فإن ماكرون وترمب تصافحا بحرارة أمام كاميرات العالم أجمع وذهب ماكرون إلى حد القول في الكلمة المختصرة التي ألقاها عقب انتهاء العرض العسكري بمشاركة جنود أميركيين بأن «لا شيء يمكن أن يفرق» فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
كل ذلك جميل ومؤثر. لكن ليس هناك شيء مجاني في السياسة، والرئيس الفرنسي يريد من غير شك «استثمار» العلاقة الجديدة مع رئيس أميركي يعاني مشاكل داخلية. وبحسب الناطق باسم الحكومة الوزير كريستوف كاستانير، فإن ما يفعله ماكرون هو «إعادة ترمب إلى الدائرة بحيث لا تُستبعد الولايات المتحدة التي لا تزال القوة العظمى في العالم».
وتشرح مصادر فرنسية ذلك بالقول إن الرئيس الفرنسي يريد أولاً أن «يكسب ثقة» نظيره الأميركي حتى يتمكن لاحقاً من «التأثير» على السياسة الخارجية الأميركية في الكثير من المواضيع منها البيئة والإرهاب والأزمات المشتعلة في الشرق الأوسط خصوصاً في سوريا والعراق، وربما أيضاً في الملف الفلسطيني حيث سيستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غداً الأحد بعد أن تحادث مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قصر الإليزيه الأسبوع الماضي.
وشغل الملف السوري حيزاً مهماً من المحادثات التي جرت الاثنين بين ماكرون وترمب وكانت مناسبة للأول ليعرض «أفكاره» وليحدد سياسة فرنسا «الجديدة» إزاء الملف السوري.
وقالت مصادر فرنسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط» إن ماكرون يعمل وفق «خطة» ستمكنه لاحقاً من «إعادة فرنسا» إلى دائرة الاتصالات الأولى بالنسبة إلى قرار حل الأزمة في سوريا بعد أن وجدت نفسها مهمشة منذ نهاية صيف عام 2015، فهو من جهة، تقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفضل دعوته إلى قصر فرساي نهاية شهر مايو (أيار) الماضي وخصوصاً لأنه «سار خطوات» الثوابت الروسية من موضوع محاربة الإرهاب ومصير النظام ومستقبل الرئيس بشار الأسد.
ومن جهة ثانية، فإنه نجح في نسج علاقة قوية مع ترمب وبالتالي فإنه سيكون قادراً إما على لعب دور «الوسيط» بين الطرفين أو لترويج الأفكار التي يطرحها.
وأول من أمس، خطا ماكرون خطوة إضافية في الكشف عن بعض تفاصيل «خطته» لسوريا وعمادها تشكيل «مجموعة اتصال» يمكن أن تتكون من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومن عدد من الدول الإقليمية. وبحسب باريس، فإن المرتجى هو ضم دول في المنطقة إلى ممثلين عن النظام والمعارضة. وفائدة مثل هذه المجموعة أنها تعيد لم الأطراف المؤثرة في قاعة واحدة وتتخطى محادثات آستانة (المقتصرة على روسيا وتركيا وإيران) أو مجموعة الدعم الدولية لسوريا التي غابت عملياً عن الوجود.
وبحسب ماكرون الذي يريد الإسراع في إطلاق المبادرة «في الأسابيع القادمة»، فإن المطلوب «بناء الاستقرار على المدى البعيد» والتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب في سوريا. ويريد الرئيس الفرنسي الذي أكد أن ما يعلنه تم بالتوافق مع ترمب، حلاً «جامعاً»، أي ألا يُترك أحد على الهامش.
في السياق ذاته، استفاد ماكرون من المناسبة ليعترف بتغير في سياسة باريس قياساً للسياسة التي اتبعها سلفه الاشتراكي فرنسوا هولاند، مكررا ما سبق له أن أعلنه وهو التخلي عن المطالبة برحيل الأسد شرطاً مسبقاً.
وبرر التغيير بالرغبة «في الوصول إلى نتائج والعمل بشكل وثيق مع شركائنا وتحديدا الولايات المتحدة». لكن، عملياً، التحول الفرنسي يخدم خصوصاً روسيا. ويريد الرئيس الفرنسي صياغة «خريطة طريق» لمرحلة ما بعد الحرب، في إشارة إلى مستقبل سوريا السياسي وإلى الحاجة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. وكانت باريس تربط بين إعادة الإعمار وبين حصول «عملية انتقال سياسية» يتعين اليوم إعادة تعريفها لأخذ التحولات في الموقف الفرنسي بعين الاعتبار.
وحتى اليوم، لم يعثر الفرنسيون على «رؤية أميركية متكاملة» لمستقبل سوريا ولكيفية إدارتها، إذ إن الاهتمام الأميركي ما زال منصباً على الجوانب العسكرية أي محاربة «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى. وعن طريق التقارب مع واشنطن تستطيع باريس إيصال «رؤيتها» وتحريك العمل الأنشطة الدبلوماسية خصوصاً على ضوء التفاهمات التي حصلت بين ماكرون وبوتين في قمتهما في فرساي.
في أي حال، يرى ماكرون أن صورة الوضع السياسي الحالي تمكن باريس من استغلال «نافذة» دبلوماسية بسبب الغياب الأوروبي (انشغال بريطانيا بالبريكست وألمانيا بالانتخابات التشريعية بعد شهرين) وخصوصاً بسبب حاجة ترمب إلى إطلالة خارجية تبعده عن مشاكله في الداخل. كذلك ترى باريس أن الرئيس الروسي يسعى هو الآخر إلى حل في سوريا وأنه يمكن مواكبة هذه «الرغبة» خصوصاً أن تنظيم داعش ينهار وأن الرقة ومناطق سيطرته الأخرى ستسقط تباعاً.
لذا، تعتبر المصادر الفرنسية أنه يتعين النظر ليس فقط إلى كيفية الانتصار في الحرب ولكن أيضاً إلى فيما سيتبعها لتلافي تفكك الدولة السورية واستنساخ التجربتين العراقية والليبية.
ماكرون يحاول إعادة فرنسا «المهمشة» إلى دائرة القرار في الحل السوري
ماكرون يحاول إعادة فرنسا «المهمشة» إلى دائرة القرار في الحل السوري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة