العالمية... تلك القيمة الملتبسة

تتحقق لمن يستحقها ومن لا يستحقها والعكس

آسيا جبار - عبد الرحمن منيف - ليلى أبو العلا - أهداف سويف
آسيا جبار - عبد الرحمن منيف - ليلى أبو العلا - أهداف سويف
TT

العالمية... تلك القيمة الملتبسة

آسيا جبار - عبد الرحمن منيف - ليلى أبو العلا - أهداف سويف
آسيا جبار - عبد الرحمن منيف - ليلى أبو العلا - أهداف سويف

احتفى موقع «غوغل» في 30 يونيو (حزيران) الماضي بالذكرى الحادية والثمانين لميلاد الكاتبة الجزائرية الفرنكوفونية آسيا جبار المتوفاة عام 2015 عن 79 عاماً. واحتفاء «غوغل» لا يتعدى كالعادة التنويه بالكاتب بما يدعو المتصفح للقراءة له أو عنه، أو التعرف عليه بوسيلة ما. وآسيا جبار تستحق دون شك أن ينوه بها بعد أن حققت مكانة كبيرة في الإنتاج الروائي والأدبي الفكري، لا سيما في الفضاء اللغوي الثقافي الذي اختارته - أو الذي اختارها - وهو الفرنسية التي نالت بسببها تقدير فرنسا وانتخابها لها عضوة في الأكاديمية الفرنسية (الأكاديمي فرنسيز) التي تعنى بشأن اللغة الفرنسية، وكل ما من شأنه أن يعمق حضورها وينشره في العالم. كانت الكاتبة الجزائرية أول كاتبة من شمال أفريقيا تدخل الأكاديمية الفرنسية الشهيرة، وهي شأنها شأن كثير من الكتاب العرب الذين أجادوا الفرنسية أكثر من إجادتهم للغة بلادهم الأصلية، سواء أكانت الشمال الأفريقي أم لبنان أم غير ذلك، كرست إنتاجها ليكون بتلك اللغة، فاحتلت مكانة رفيعة، ليس فقط بسبب اللغة وإنما لمستوى ذلك الإنتاج أيضاً.
لكن لا شك أن للغة دوراً ودوراً لا يستهان به أيضاً. وموضوع اللغة يأخذنا إلى الموضوع الأوسع وهو موضوع العالمية أو الانتشار. الفرنسية ليست اليوم اللغة الأوسع انتشاراً، أو البوابة الأكبر للدخول إلى رحاب العالمية أي تحول الكاتب إلى كاتب مقروء في أنحاء كثيرة من العالم. البوابة الأكبر هي بوابة الإنجليزية كما هو معروف، فلا لغة اليوم تضارعها انتشاراً، بل إن لغات كثيرة، ولغات كبرى وواسعة الانتشار نسبياً كالفرنسية والعربية والإسبانية، باتت في موقع الدفاع عن النفس في مواطنها الأصلية. ومن يسعى لانتشار حقيقي من أهل تلك اللغات وغيرهم لا بد له من أن يترجم إلى الإنجليزية، فهي اليوم منبر هائل من منظور الكثيرين أو وحش مفترس، من منظور كثير من اللغات، وحش يلتهم المحلي الصغير ويزاحم الدولي الكبير. لذا صارت الإنجليزية اليوم المعيار الأدق لقياس العالمية، بمعنى الانتشار وسهولة الوصول إلى أكبر قاعدة من القراء فيما يتعلق بالمنتج الثقافي أياً كان نوعه. هي لغة الإنترنت ولغة المطارات والطائرات والتعاملات الدولية من سياسية وتجارية بل وحتى المحلية، وزد على ذلك أنها باتت لغة الأدب لدى كثير من الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا. آداب كثيرة غير الأدب الإنجليزي تنتج بالإنجليزية، من نيوزيلندا شرقاً حتى كندا والولايات المتحدة غرباً.
لكن الوصول إلى العالمية عن طريق الفرنسية أو الإسبانية أو أي لغة أوروبية هو دون شك أسهل من الوصول إليها عن طريق لغات أخرى كالعربية مثلاً، لأن تلك اللغات مقروءة في أماكن كثيرة، ولكن الأهم هو أنها معبر إلى الإنجليزية، فهي التي ستلفت نظر المترجمين والناشرين. آسيا جبار وأمين معلوف وغيرهما ممن يكتبون بالفرنسية حققوا قدراً لا بأس به من الانتشار؛ نتيجة لحضورهما في الفرنسية ومنها إلى لغات أخرى تأتي الإنجليزية في طليعتها. وكذلك فعل كتاب عرب يكتبون بالإنجليزية مثل أهداف سويف، وليلى أبو العلا وغيرهما. غير أن انتشار هؤلاء لا يعني بالضرورة تحولهما إلى العالمية، فالانتشار جزء من العالمية التي تعني أو تتطلب أشياء أخرى قد يكون الانتشار أوضحها وأكثرها تأثيراً.
العالمية قيمة تتحقق بالانتشار ومن دونه. قد ينتشر الكاتب أو المفكر ولا يكون عالمياً من حيث قيمة منتَجِه، وقد يكون عالمياً، بمعنى أنه جدير بالانتشار، لكن لا يعرفه أحد سوى أهل لغته أو بعضهم. اللغات الأوروبية حققت الانتشار لكثير من كتابها القدامى والمعاصرين، ليس لأنهم جميعاً جديرون بالعالمية أو حتى بالانتشار، لكن ذلك حصل إما بسبب التفوق الحضاري أو الهيمنة السياسية الاستعمارية أو بهما معاً. الطلاب العرب أو الهنود أو الصينيون الذين يقرأون كاتباً فرنسياً من القرن الثامن عشر أو العشرين أو شاعراً إنجليزياً أو إسبانياً من عصر ما لا يفعلون لأن ذلك الكاتب جدير بأن يقرأ بغير لغته، وإنما لأن لغة الكاتب حققت انتشاراً ناتجاً عن هيمنة غربية عرفها العالم مع عصر الاستعمار. بعض أولئك يستحق أن ينتشر وبعضهم لا يستحق. الكاتب الكيني نغويي وا ثيونغو لفت أنظار العالم حين كتب بالإنجليزية كتاباً يهاجم فيه تعلق كتّاب أفارقة باللغتين الأوروبيتين، الفرنسية والإنجليزية، وقرر أن يكتب إنتاجه الإبداعي باللغة المحلية. كما أن نقده لانتشار الإنجليزية امتد إلى تدريس أدبها على حساب الآداب المحلية في أفريقيا.
وفي كتابه «جدل العولمة» «غلوباليكتيكز» - الذي صدر بالإنجليزية 2012 ثم بترجمتي له عام 2015 - تحدث عن استعمار لغوي ثقافي يفوق الاستعمار السياسي العسكري خطورة: «إن استعمار العملية الإدراكية كان التجربة اليومية في قاعات الدرس الاستعمارية حيثما كانت». لكن ذلك لم يحل دون عمل «وا ثيونغو» على ترجمة رواياته إلى الإنجليزية وكتابة أعماله الأخرى بتلك اللغة مباشرة.
استعمار العملية الإدراكية يعني منح منتج ثقافي مكانة وأهمية تفوقان غيره، فقط لأنه صادر عن لغة بعينها بحيث يصعب حتى مناقشة أهمية ذلك المنتج أدباً كان أم غيره. ونتيجة ذلك الاستعمار يتحقق لذلك المنتج انتشاراً مؤكداً وعالمية قد تكون متوهمة. هو منتشر فعلاً لكنه ليس جديراً بالضرورة بذلك الانتشار، والأمثلة أكثر من أن تحصى من الآداب المترجمة عن الإنجليزية والفرنسية إلى لغات العالم.
وفي الوقت نفسه يظل كثير من كتاب العالم المهمين خارج دائرة الإدراك، ناهيك عن المعرفة والتذوق. المفكر الباكستاني البريطاني طارق علي أشار إلى هذه المفارقة المحزنة في محاضرة ألقاها قبل سنوات قليلة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن.
تحدث طارق علي عن العالمية بوصفها مفهوما بالغ التحيز وشديد الالتباس. تحدث عن كتاب فرضتهم الإنجليزية على المسرح العالمي وآخرين لم ينالوا تلك المكانة بسبب تواريهم عن الوعي اللغوي الإنجليزي. تحدث عن عبد الرحمن منيف، مشيراً إلى أنه كاتب عالمي بمقاييس التميز الأدبي، بقدرته على تناول قضايا بالغة الأهمية في الثقافة العربية والثقافات الإنسانية كلها، قضايا مثل الاضطهاد والاستعمار، وكذلك بمهاراته السردية، وكيف أن كل ذلك لم ينل إعجاب الروائي الأميركي جون أبدايك حين استعرض «مدن الملح» في مجلة «النيويوركر» عام 1988، ولم يتوقف أمام القصة بقدر ما استوقفه اكتشاف البترول وتأثيره على منطقة الخليج، كما يشير مترجم الرواية بيتر ثيرو الذي يعبر عن خيبة أمله من كيفية تناول أبدايك للرواية. أبدايك الذي حققت له الإنجليزية والانتماء الأميركي مكانة قد لا ينالها لو كتب بلغة أخرى، حسب طارق علي.
نحن إذا إزاء مفهوم ملتبس: تتحقق العالمية لمن يستحقها ومن لا يستحقها والعكس، فهي قيمة كامنة قد يحققها الانتشار وقد لا يفعل، في حين أن الانتشار حقيقة ظاهرة ومتحققة، لكنه ليست قيمة، وبالتالي هو مجرد شهرة، وما أكثر ما تكون الشهرة لأسباب خاطئة.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!