أن تحب القصص من دون أن ترى الظلال

في الأوساط الفقيرة إعادة حكي وقائع الفيلم ضرورة حياتية وفنية

الروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير
الروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير
TT

أن تحب القصص من دون أن ترى الظلال

الروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير
الروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير

«ما نفسكش، كده يعني، تروح سيما؟»، يسأل الشيخ حسني صديقه الشيخ عبيد الذي يرد مندهشاً: «سيما؟!». لكن دهشة الصديق لم تثنِ الشيح حسني، إذ تنتقل الكاميرا مباشرة إلى مشهد الكفيفين داخل صالة السينما.
مغامرة أخرى للأعمى الجسور، في فيلم داود عبد السيد «الكيت كات» لا تقل عن مغامرة قيادة الدراجة النارية أو التجديف في مركب بعرض النيل. المشهد مدجج بالدلالات. الشيخ حسني يرى الظلال المتحركة على الشاشة، والمشهد المعروض لا يتضمن حواراً، يُسهل المهمة، فكان عليه أن يخترع القصة صورة وصوتاً، وبينما تعرض الشاشة مشهداً لشاب يطارد حماراً أو حصاناً يصف الشيخ حسني لصديقه مشاجرة في شارع تشهدها من الطابق الأعلى فتاة شديدة الجمال. همْس الشيخ حسني في أذن صديقه شوَّش على المبصرين المحيطين به، وسط دهشتهم من اختراعه لمشهد مغاير لما تراه عيونهم.
المشاهد المختَرَعَة ليست مجرد قصة يواصل من خلالها الشيخ ادعاء الإبصار وخداع الكفيف الآخر، فقد روى ما بداخله هو، أو ما يتوافق مع مزاجه: الحد الأقصى من الإثارة متمثلة في مشاجرة عنيفة تتابعها امرأة جميلة، وبعبارته هو: «قمر... لهطة قشطة».
العمى ليس السبب الوحيد الذي يجعل وجود الراوي ضرورة في صالة السينما. الأمية سبب آخر.
روت لي إحدى الصديقات أن أختها الكبرى كانت تصطحب أمها وخالاتها، في ستينات القرن الماضي إلى السينما التي اندثرت الآن في مدينتها السورية الصغيرة. تقول: «كانت غالبية الأفلام هندية، وكانت أختي تجلس في المنتصف وتقوم بالمهمة السامية، تلاحق سطور الترجمة على الشاشة وتقرأها على الشقيقات اللائي ينخرطن في البكاء. كن يحملن المناشف من البيت، قبل أن تنتشر المحارم الورقية».
في أجواء بلادنا الحارة، كانت صالات السينما أسبق الأماكن العامة إلى استخدام نعمة مكيف الهواء، ما جعلها مكاناً مثالياً لقيلولة ممتعة، كذلك يجد العشاق في عتمتها ملاذاً آمناً لبعض أشواق الجسد، ويتخذها الباحثون عن مغامرة عابرة مكاناً مثالياً للاصطياد. وكل هؤلاء يدخلون السينما ويخرجون دون اكتراث للأفلام، بينما يعوض بعض الرواد إحباطهم من الفيلم بالبحث عن قصص تحدث حولهم أكثر إمتاعاً مما تعرضه الشاشة.
نحتاج إلى القليل من شجاعة الاعتراف ليكتشف كل منا أنه لم يحرم نفسه من متعة التلصص في الصالة المعتمة، ولو لمرة واحدة في حياته، حيث لا يمكن الفرار من إغراء بناء قصص كل امرأة ورجل بالجوار، أو الاستغراق في تسلية فرز علاقات العشق من علاقات الزواج، من خلال درجات الولع، أو رصد توازنات القوة في كل علاقة.
ومهما اختلفت دوافع الذهاب إلى السينما، فإن كل روادها يخرجون محملين بالقصص، ويريدون جمهوراً آخر يختبرون دهشتهم فيه. حتى من يدخلون بقصد النوم، لا يستطيعون مقاومة رغبتهم في الحكي، ويشرعون في إعادة اختراع الفيلم استناداً إلى اللقطات التي اقتنصوها في لحظات الصحو بين إغفاءة وأخرى. في الأوساط الفقيرة تتحول إعادة حكي وقائع الفيلم إلى ضرورة حياتية وفنية. الكثير من الفتية في العالم الثالث جربوا هذا الاحتيال على الفقر. يتشاركون في ثمن بطاقة واحدة، يدخل بها أحدهم الفيلم، ويعيد روايته للآخرين.
وقد رأيت بنفسي في بداية الألفية الثالثة صبية من أبناء بوابي العمارات، يتعلقون بثغرة صغيرة في بناء قاعة سينما داخل الحديقة الدولية بمدينة نصر، يتلصصون على «هذيان الحائط»* بينما يجلس أحدهم داخل الصالة بالقرب من الثغرة ينقل إليهم الحوار.
ولم تقتصر الرغبة في إعادة رواية الأفلام على مبادرات فردية لعشاق السينما، فقد وجد الراديو في إذاعة الأفلام وسيلة للاحتفاظ بجمهوره. برنامج «من الشاشة إلى الميكروفون» كان من أهم برامج إذاعة البرنامج العام المصرية في سبعينات القرن الماضي. كان يبث مسامع من الأفلام الجديدة، ويستضيف أحد أبطال الفيلم لتلخيص القصة، ثم تطور الأمر وأصبح هناك بث شبه كامل للأفلام، يقوم فيه الراوي الإذاعي بوصف الصورة، في لحظات صمت الحوار، ويقدم اسم البطل متبوعاً باسم الممثل أو العكس للتذكير «الآن يدخل أحمد، عبد الحليم حافظ».
أقلعت الإذاعة عن بث الأفلام في عصر توحش وتسيد الصور، لكن شبكة الإنترنت أعادت إحياء هذه الذكريات ببث تسجيلات برامج السينما القديمة عبر موقعي «يوتيوب» و«ساوند كلاود» بينما التقط التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير ظاهرة الراوي في المجتمعات الفقيرة وجعلها ثيمة روايته «راوية الأفلام» التي ترجمها صالح علماني.
اختبر الأب المولع بالسينما قدرات أبنائه واحداً فواحداً على رواية الأفلام، وفي النهاية وجد أن الصغيرة ماريا مرغريتا هي الأكثر تميزاً بما تملك من قدرة آسرة على سرد ما تتذكره، وسرعة في تدارك خيانات ذاكرتها بالتأليف الفوري الذي ينقذ الحكاية. اختار الأب الصبية لتكون مندوباً دائماً للأسرة في صالة السينما الوحيدة بالمدينة، كلما وصل فيلم جديد يجمعون بمشقة قطع النقود التي تكفي ثمن بطاقة دخولها. مع الوقت اتسع نطاق جمهورها ليضم الجيران، ثم كثيراً من سكان القرية، وبدأ فرض رسم دخول زهيد على المشاهدين الذين يتوافد بعضهم إلى بيت الراوية لأنهم لا يملكون ثمن بطاقة السينما، بينما يقصدها البعض الآخر لأنهم وجدوا أن رواية ماريا مرغريتا أمتع من النسخ الأصلية للأفلام!
ليس غريباً أن تتفوق التشيلية الصغيرة في روايتها على الفيلم الأصلي، فالراوي المحلي عليم بجمهوره الضيق، يعرف ما يثير اهتمامه بأكثر مما يعرف صُنّاع الفيلم البعيدين.
وجود راوٍ من لحم ودم لا يحمي الجمهور من إحباطات الفيلم السيئ فحسب، بل ومن إحباط هشاشة الظلال المتحركة وزوالها السريع. يتذكر القاص العراقي إبراهيم أحمد السينما المتجولة التي كانت تجوب العراق بمبادرة من «النقطة الرابعة» في مشروع مارشال وتعرض أفلامها على الحوائط في الساحات: «كنا نعود في الصباح، نتلمس الجدار في محاولة يائسة لاقتفاء أثر الخيل التي كانت تركض عليه في المساء». المشاهد عبر وسيط، لن يكون عرضة للإحباط الذي يتعرض له من يقتفون أثر الهذيان الليلي للحائط بعد أن بددته الشمس.
* هذيان الحائط، والضلال اللذيذ، كنايتان عن السينما استعرتُهما من جان بول سارتر في سيرة طفولته «الكلمات» ترجمة د. خليل صابات



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم مساء السبت، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

وبعد اختتام مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي أُقيم بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر «بيت الفلسفة» بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة؛ اجتمع أعضاء «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» في مقرّها بـ«بيت الفلسفة»، وأصدروا بياناً دعوا إلى تأسيس نواة «اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية»، ومقرّه الفجيرة، وتشجيع الجمعيات على الانضمام إلى «الفيدرالية الدولية للفلسفة».

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وأكد البيان أهمية مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج العربي، مثل مشكلة الهوية وتعزيز الدراسات حولها.

ودعا للسعي إلى «الإضاءة على الفلسفة في العالم العربي وتمييزها من الفلسفة الغربية؛ لأنّ هدف بيت الفلسفة المركزي تعزيز الاعتراف بالآخر وقبوله».

كما دعا البيان إلى تعزيز دائرة عمل «حلقة الفجيرة الفلسفيّة»، بما يضمن تنوّع نشاطها وتوسّع تأثيرها؛ بدءاً بعقد جلسات وندوات شهريّة ودوريّة من بُعد وحضورياً، ومروراً بتعزيز المنشورات من موسوعات ومجلّات وكتب وغيرها، وانتهاء باختيار عاصمة عربيّة في كلّ سنة تكون مركزاً لعقد اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» بإشراف «بيت الفلسفة».

وأكد توسيع دائرة المشاركين خصوصاً من العالم الغربي؛ بحيث يُفعّل «بيت الفلسفة» دوره بوصفه جسراً للتواصل الحضاري بين العالمين العربي والغربي.

كما بيّن أهمية إصدار كتاب يجمع أعمال المؤتمرات السابقة. وبدءاً من العام المقبل سيعمد «بيت الفلسفة» إلى تعزيز الأبحاث المطوّلة في المؤتمر ونشرها في كتاب خاصّ.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة هو الأول من نوعه في العالم العربي، وتشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان: «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام التي بدأت يوم الخميس الماضي واختُتمت السبت، إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً بتعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة؛ مثل: الفلسفة، والأدب، والعلوم.

وتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطوّر الفكر المعاصر.

وخلال مؤتمر هذا العام سعى المتحدثون إلى تقديم رؤى نقدية بنّاءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث، ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي، ومفاهيم مثل «نقد النقد»، وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وعملت دورة المؤتمر لهذا العام على أن تصبح منصة غنيّة للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

وشملت دورة هذا العام من مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتُتح اليوم الأول بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد «بيت الفلسفة»، وكلمة للأمين العام للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتضمّنت أجندة اليوم الأول أربع جلسات: ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أما الجلسة الثالثة فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما ضمت الجلسة الرابعة محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، وترأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما ضمّت أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش، وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

جانب من الحضور (الشرق الأوسط)

وتكوّن برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) من ثلاث جلسات، ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، وترأست الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وضمت الجلسة الثالثة محاضرة للدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم أي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

وتكوّن برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تناولت الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي في طلاب الصف الخامس»، شارك فيها الدكتور عماد الزهراني، وشيخة الشرقي، وداليا التونسي.

وشهدت الجلسة الثانية اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفية» ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.