هل هناك ثقافة ثابتة للعنف؟

هل هناك ثقافة ثابتة للعنف؟
TT

هل هناك ثقافة ثابتة للعنف؟

هل هناك ثقافة ثابتة للعنف؟

كثيراً ما تلصق صفات معينة بشعب ما، وكأنها جينات تتناسل من جيل لجيل. فيقال مثلا إن الشعب الفلاني شعب عنيف، منذ فجر التاريخ حتى يومنا الحاضر، وإن دورات عنفه الداخلي والخارجي لا تنتهي حتى تبدأ. كتب كارل ماركس في القرن التاسع عشر عن الشعب الجزائري بهذا المعنى، ولا يزال كثير من العرب في أيامنا هذه يعتبرون الشعب العراقي، مثلاً، شعباً عنيفاً، ولو على مستوى الانطباع الشعبي. وفي التاريخ القديم والمعاصر تولدت خرافة أن هذا الشعب، كما الشعوب الأخرى التي تكرست فيها ما يسمونه بـ«ثقافة العنف» لا يمكن أن يحكم إلا بالقوة، كما فعل الحجاج وسليله المعاصر صدام حسين.
ولكن هل هناك ثقافات عنيفة، وأخرى نقية، بيضاء، مسالمة؟ أو لنطرح السؤال بشكل آخر: هل هناك ثقافة للعنف في تاريخ هذا البلد أو ذاك؟ إنها أسئلة قديمة - جديدة، وهي بلا شك أسئلة كبرى، لكنها في الوقت نفسه أسئلة ملغومة، بمعنى أنها يمكن أن تقود إلى نتائج كارثية. وقبل أن يمضي المرء في طرح أسئلة من هذا النوع، وطرح سؤال أصعب من الإجابة عليه غالبا، لا بد أن نحدد ماذا نعني بكلمة ثقافة. فمن الواضح أننا نستخدم هذا المصطلح غالبا بمعناه الضيق، ونعني به الشعر والقصة والنقد.. إلخ، وليس مجموع القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية والتقاليد والعادات والأكل واللبس وأنماط السلوك الموروثة وغير الموروثة.
إننا نفتقد في العربية إلى مصطلح يجمع كل هذه الظواهر البشرية كمصطلح Culture في الإنجليزية أو بكلمة أدق، إننا نمتلك هذا المصطلح، وهو «ثقافة» لكنه بقي قاموسيا، وارتبط في أذهاننا بالنتاج الأدبي شفاهياً كان أم كتابياً. وحتى ترجمتنا لـCulture لم يتفق عليها، من الدكتور علي الوردي الذي استخدمها استخداماً أقرب إلى المعنى الحقيقي لها، وهو مجموع القيم والعادات والتقاليد والسلوك، إلى آخر منظرينا في علم الاجتماع.
وإذا كانت الثقافة هي كل هذا، فمن الصعب، إن لم يكن من الخطأ الجسيم، أن نسمها بسمة معينة، لأننا بذلك نحولها من قيمة محسوسة تتغير مع الزمان والمكان إلى قيمة مجردة تتعالى على الشروط التي أنتجتها، وهي شروط متبدلة، متغيرة لا تكف عن التفاعل مع بعضها بعضاً، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وقد تنتج نقيضها في لحظة زمنية معينة.
نعم، هناك عناصر عنف في كل ثقافة بشرية، يمكن أن تنمو وتزدهر إذا توفرت لها العوامل الملائمة، كما حصل في ألمانيا النازية، وكما يحصل في عدد من بلداننا العربية. وهناك كتاب مجدوا العنف، والحرب أقصى أشكاله، كحالة إنسانية راقية لا بد منها لإنتاج الإنسان الكامل! لكن هذه العناصر سرعان ما ذابت مع ذوبان مسبباتها، على الرغم من الخراب المهول الذي أحدثته، ولم تستطع أن تتحول إلى ثقافة سائدة لحقب زمنية طويلة لأنها ضد الطبيعة الإنسانية ذاتها، الطبيعة المجبولة على الخير والحب والجمال، حلم الإنسان منذ فجر الخليقة حتى يومنا هذا. وبالطبع يمكن أن تعيش هذه العناصر طويلاً في قلب كل ثقافة بشرية، حالها حال الإنسان الذي يتصارع فيه الخير والشر في كل لحظة. وربما هذا السبب الذي يقود البعض إلى التعميم. ولكن التعميم مظهر من مظاهر المنطق الشكلي الذي لا يرى من الأمور سوى ما هو عائم منها، عافياً نفسه من مهمة الغوص إلى الأعماق ودراسة الدوافع الإنسانية والعوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجتها في هذا البلد بالذات وليس سواه، وفي هذا الزمن بالذات وليس سواه.



حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب
TT

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

سافرت عام 2012 ورجعت إلى دمشق، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تعم المدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمشق أحاول أن أساعد بجهد شخصي أبناء الريف المتضرر والمحاصر، فهناك الكثير من المهنيين والمعارف الذين تضرروا وبحاجة لكثير من الطعام والمستلزمات. كنت أحملها بسيارتي وأحمل معها روحي وأمضي وفي رأسي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة على كل احتمالات الحواجز والشبيحة وعناصر الأمن، عما كنت أكتب بحس ساخر على فيس بوك وأناهض الفساد والقتل. أنا امرأة متمردة بطبعي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والسفر لأعود إلى بلدي بشوق أكثر. هناك تحديات كثيرة كانت أمامنا في بلد كل زاوية فيها حاجز أمني وشبيحة. كانت رعاية ملائكية تنقذني دوماً من رش للرصاص على سيارتي في حاجز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب البندقية عليَّ في تأبين باسل شحادة. هربت بأعجوبة. هذه ليست بطولات أرويها ولكن كان حماساً وواجباً علي. ويوماً كنت على حدود لبنان للسفر إلى المغرب لإقامة معرض. أخذوني من الحدود وبدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صفحتي بفيسبوك. وانتهى التحقيق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لي: رسمتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فقال لي: أعرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير».

ثم قال لي: نريدك أن ترسمي لنا صورة المعلم، فقلت له: أنا أرسم مناظر وزهوراً لا أرسم حيوانات ولا بشراً واسأل عني مرة باسل الأسد فقد طلب مني ومن مجموعة من الفنانين رسم أحصنته فرفضت لأني لا أعرف، فأجابني: لا أنت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سأطلب من أحد يجيد رسم البورتريه، فقال لي: لا أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك.

بقيت أشهراً أماطل ويسألني دائماً على الهاتف: ما خلصتِ، ألاقي الأعذار كل مرة بالكهرباء والتدفئة وعدم جفاف الألوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضاً. أحياناً أفكر أن أرسم حماراً وفوقه أرسم صورته بألوان تزال بالماء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد المعلم». المهم كان هذا مسلياً لي في أوقات القلق والتوتر إلى أن قدمت استقالتي من عملي وطلبت من الأمن موافقة أمنية للسفر لمرة واحدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها.

قبل يومين من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدةٍ العودة. وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأن وضعي في أميركا جيد وصرت مواطنة أميركية وعندي جواز سفر مثل جناحين أطير به بين البلدان بكل سلاسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الذين لم يبق منهم إلا القليل في دمشق. أخوتي قاطعتهم لاختلافي معهم في المبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام.

وزاد فقداني لابني الذي قُتل عام 2014 كرهاً لتلك البلاد التي لفظتنا ولم تقدم لنا إلا العنف والنبذ والقتل والتهميش. أنا قدمت الكثير لسوريا، وكنت أقوم بأعمال تطوعية مع الأطفال والشباب لتأجيج روح الفن والحب والحياة والحرية. كنت أعيش مع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها.

تحرير حلب كان فرحاً مشوباً بالخوف... أتابع ليل نهار كل وسائل التواصل. لم أعد أنام. عاد الأدرنالين للصعود مثل بدايات الثورة عام 2011 والترقب والحماس، وكنت أقول لنفسي إن لم يصلوا إلى دمشق لن أفرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع لأن دموعي كانت لا تتوقف.

فجأة الحلم عاد، واليأس اختفى، وصار عنا مستقبل مختلف. صار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود لأعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعود لأقبل بناته حفيداتي اللاتي لم أرهن منذ سافرت.

* فنانة تشكيلية