ترمب ينتقد سلوك روسيا «المزعزع للاستقرار»

أشاد ببولندا وحكومتها بصفتها نموذجاً للحرية وصادق على التزام «الناتو» بالدفاع عن الحلفاء

الرئيس الأميركي يلقي خطابه في ساحة كراسينسكي في وارسو (رويترز)
الرئيس الأميركي يلقي خطابه في ساحة كراسينسكي في وارسو (رويترز)
TT

ترمب ينتقد سلوك روسيا «المزعزع للاستقرار»

الرئيس الأميركي يلقي خطابه في ساحة كراسينسكي في وارسو (رويترز)
الرئيس الأميركي يلقي خطابه في ساحة كراسينسكي في وارسو (رويترز)

انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الخميس، في مستهل جولته الأوروبية في بولندا سلوك روسيا «المزعزع للاستقرار»، عشية لقاء مقرر مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة مجموعة العشرين في ألمانيا. وأعلن ترمب في وارسو، المحطة الأولى في جولة أوروبية تستغرق أربعة أيام بدأها مساء الأربعاء، أن الولايات المتحدة تعمل مع حلفائها للتصدي «لأعمال روسيا المزعزعة للاستقرار».
كم أشاد الرئيس ترمب ببولندا وحكومتها بصفتها نموذجا للحرية. وقال أمام حشد من آلاف الأشخاص في ساحة كراسينسكي في وارسو: «إنني هنا اليوم ليس فقط لزيارة حليف قديم (للولايات المتحدة)، ولكن لإبرازه نموذجا يحتذي به الآخرون الذين يسعون إلى الحرية». وقال ترمب: «إنكم شعب يعرف القيمة الحقيقية لما يدافع عنه... لم نتخل أبدا عن الحرية كحق ومصير للشعب البولندي ولن نتخلى أبدا». كما صادق الرئيس الأميركي خلال تصريحاته في بولندا على التزام حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالدفاع عن الحلفاء ضد أي هجوم، وهي المرة الأولى التي يعلن فيها مثل هذا التعهد وهو على أرض أوروبية بعد أن رفض القيام بذلك في قمة للناتو في بروكسل. وتعد المادة الخامسة في معاهدة الناتو هي البند الرئيسي بها. وبموجب المادة الخامسة، يعد أي هجوم ضد أي من الأعضاء هجوما على جميع الأعضاء في الحلف.
وأقر الرئيس الأميركي في مؤتمر صحافي أيضا بأن روسيا ربما تدخلت في انتخابات الرئاسة 2016 التي أتت به إلى السلطة، إلا أنه قال: إن دولا أخرى ربما تدخلت أيضا. كما انتقد سلفه باراك أوباما بسبب مزاعمه بالتدخل في الانتخابات، وقال: «سؤالي الكبير هو لماذا لم يفعل أوباما أي شيء حيال الأمر من أغسطس (آب) حتى نوفمبر (تشرين الثاني)؟».
وهذه الانتقادات النادرة من ترمب لروسيا تأتي عشية أول لقاء يعقده مع بوتين خلال قمة العشرين في هامبورغ في ألمانيا. وهذا اللقاء موضع ترقب شديد، وخصوصا في الولايات المتحدة على خلفية تحقيق حول روابط محتملة بين فريق حملة ترمب وروسيا. وقال ترمب، كما ورد في تقرير الوكالة الفرنسية: «لقد قلت ببساطة شديدة. أعتقد أن روسيا ربما تكون (تدخلت). وأعتقد أن دولا أخرى ربما (تدخلت). لا أستطيع التحديد. ولكنني أعتقد أن الكثير من الناس تدخلوا».
وقال: «في الحقيقة لا أحد يعلم. ولا أحد يعرف بالتأكيد»، في تصريحات تناقض ما قالته أجهزة الاستخبارات الأميركية التي تشتبه في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظم حملة واسعة لترجيح كفة الانتخابات لصالح ترمب.
اكتفى ترمب حتى الآن بالتنديد بـ«أخبار زائفة» من دون التمكن من وضع حد للتكهنات حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عبر قراصنة معلوماتيين أضعفوا فرص منافسته هيلاري كلينتون.
وتؤكد واشنطن أنها تريد علاقة «بناءة» أكثر مع موسكو، لكن العلاقات وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ تشديد العقوبات على موسكو بسبب دورها في الأزمة الأوكرانية ودعمها النظام السوري.
واعتبر الرئيس الأميركي أن مستقبل الغرب مهدد إذا لم تتحل شعوبه ودوله بالعزيمة.
وقال ترمب في الخطاب: إن «خبرة بولندا تذكرنا بأن الدفاع عن الغرب يستند في نهاية المطاف ليس فقط على الإمكانات، وإنما أيضا على عزيمة شعبه».
وصرح مستشار الأمن القومي إتش. ار. ماكماستر، في تصريحات للوكالة الفرنسية، بأن ترمب وفي كلمته في ساحة كراسينسكي التي شهدت انطلاق انتفاضة وارسو ضد الاحتلال النازي: «عرض رؤيته ليس فقط بالنسبة لعلاقة أميركا المستقبلية مع أوروبا، ولكن كذلك تحالفنا المستقبلي بين جانبي الأطلسي وما يعنيه لأمن أميركا وازدهارها».
ورغم أن وارسو ربما تكون المحطة الأقل تعقيدا في جولة ترمب، فإنها لا تخلو من الصعوبات؛ نظراً لأن البولنديين كانوا يترقبون رؤية ما إذا كان بإمكانهم الاعتماد على التزامه المتردد تجاه أمن أوروبا.
وتعتبر بولندا والكثير من الدول الأخرى في شرق ووسط أوروبا، حلف شمال الأطلسي واتفاقه المتبادل للدفاع المشترك رادعا لروسيا وضمانة لاستقلال هذه الدول. وكان ترمب قال: إنه لا يزال يؤيد مبدأ الحلف للدفاع المشترك عن الجميع، إلا أنه انتقد حلفاءه الأوروبيين بسبب عدم إنفاقهم أموالا كافية للدفاع عن أنفسهم.
وفي العلن، يقول المسؤولون الأوروبيون إن الشراكة المستمرة منذ عقود بين جانبي الأطلسي مهمة ومصانة. إلا أنهم يخشون فيما بينهم ما إذا كان الحلف سيبقى قائما لمدة الأربع أو الثماني سنوات التي سيتولى فيها ترمب الرئاسة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟