«أوكجا» عن وحش مختلف برسالة إنسانية

بتوقيع مخرج كوري... وعرضه في صالات السينما يبدأ بعد ضجة «كان» الكبرى

لقطتان للجميلة والوحش
لقطتان للجميلة والوحش
TT

«أوكجا» عن وحش مختلف برسالة إنسانية

لقطتان للجميلة والوحش
لقطتان للجميلة والوحش

بالنسبة للبعض، فإن «أوكجا» (أو «أوكيا» في بعض أوروبا)، فيلم ترفيهي كبير جرى إنتاجه من قِبل شركة «نتفلكس» التي وجهته للعرض في مهرجان «كان» الماضي ما أحدث ارتباكاً كبيراً لجميع المعنيين عندما انتقدت نقابة أصحاب الصالات المهرجان الشهير لقبوله فيلماً لم يحدد له موعد عرض في صالات السينما الفرنسية ولن يعرض فيها مستقبلاً.
هذا الاعتبار صحيح وكل ما يرد فيه كذلك. لأن الفيلم بالفعل أحدث ضجة كبيرة، كما سبق لهذا الناقد أن ذكر في إحدى رسائله من هناك، وعرف قدراً كبيراً من السمعة السيئة حتى من قبل أن يعرض على المشاهدين.
لكن الحال تغير بعدما عُرض. أولئك الذين لا يحكمون على الأمور على نحو من أنتج، ولماذا وكيف سُمح به أو لم يسمح وجدوا فيه، عموماً، مادّة غير مشاعة لفيلم فانتازي حول فتاة صغيرة وخنزير ضخم (وضخم جداً). شركة «نتفلكس» المنتجة التي تتعامل مع العروض غير المخصصة لصالات السينما والمنافسة الأولى لشركة «أمازون» الضخمة، أنتجت هذا الفيلم بميزانية تقدر (كون أحد لم يفصح تحديداً عن الرقم الصحيح) بخمسين مليون دولار. وإليه جلبت المخرج الكوري جون - هو بونغ ليمارس فيه طرح رؤيته للموضوع كونه كتب القصّة الأساسية والسيناريو، قبل أن يقوم بإعادة الكتابة ضمن شروط المخرج جون رونسون لأمركة الفيلم. ورونسون هو كاتب سيناريوهات خمسة من قبل أشهرها «الرجل الذي حدّق بالماعز»، ذاك الذي أنتجه وقام ببطولته سنة 2009 جورج كلوني.
جينات
«أوكجا» فيلم فانتازي غير مُشاع بمعنى أنه لو أسند لمخرج أميركي أمر تحقيقه لجاء مختلفاً وإن ليس بالضرورة أفضل أو أسوأ. المادة المثارة هنا مندمجة بثقافة المخرج وملاحظاته الخاصة وبثراء العناصر المكوّنة لكل مشهد. ستيفن سبيلبرغ كان سيصنع فيلماً مختلفاً من النص ذاته. كذلك جو جونستون («جومانجي»)، غارث إدواردز («غودزيللا») والآخرون.
هناك طرح مهم في «أوكجا» قد يفوت المشاهد وحتى المخرج الآخر فيما لو تصدّى له: كيف نمارس عاطفتنا على بعض الحيوانات ونأكل بعضها الآخر؟
الرجل ذاته الذي يربي كلباً أو المرأة التي تفضل القطّة، أو أي شخص آخر مشدوه لفكرة تربية حيوان أليف من أي نوع ومنحه البيت الآمن ليعيش فيه، هو ذاته، اللهم إذا كان لا يأكل اللحم مطلقاً - هو من يضع على طاولة العشاء دجاجاً أو لحماً بقرياً. معظمنا لا يفكر في ذلك، لكن جون - هو بونغ يفكر في ذلك (اقرأ المقابلة معه أدناه). الفكرة هنا هي أن الإنسان لا يستخدم كل مداركه حين يقوم بالشيء وعكسه تحت أي مبرر. هل البقرة أقل إثارة للعطف من الكلب أو ألا يعاني الحمل مصيراً أكثر بؤساً من الكلاب التي تعيش في كنف الإنسان؟
في مطلع الفيلم إثارة لموضوع آخر قريب ومنفصل معاً: تيلدا سوينتون تصعد منصّة تحيط بها جماهير حافلة (تذكرك بمنصات المرشحين لرئاسة البيت الأبيض وقت الانتخابات) وتخطب طويلاً ذاكرةً أن العالم فيه من الجياع ما لا يحصى وسيكون هناك جياع أكثر مع فقدان مصادر الغذاء. لهذا السبب فإن مؤسستها ملتزمة بالبحث عن حلول مثل «صنع» حيوانات أليفة كبيرة الحجم لدرجة أن الواحد منها سيساوي عشرين أو أكثر من الخنازير الأخرى. وأن هناك مسابقة في هذا الصدد والرابح (أو الرابحة) بجوائز مالية عالية.
نقفز من أميركا إلى كوريا الجنوبية (تم افتتاح الفيلم سينمائياً هذا الأسبوع). هناك في قرية جبلية عالية. هناك فتاة في الرابعة عشرة من عمرها اسمها ميا (آن سيو هيون) تعيش مع جدها في مزرعته ولديها خنزير من تلك التي قامت المؤسسة الأميركية بتوفير الجينات الخاصة بها لكي تكبر وتنتفخ ويثقل وزنها. «أوكجا»، وهو اسم هذا الحيوان، ليس خنزيراً فحسب بل يداخل جيناته عناصر حيوانية أخرى لذلك يبدو طيّعاً مثل كلب أليف ويحمل مظهر جاموس أو فرس بحر.
ما لم تحسبه المؤسسة هو الرابط العاطفي الكبير المتبادل بين هذا الحيوان والفتاة التي تربيه. هو صديقها الوحيد وهي ملاذه اليتيم من عالم هو وحيد فيه. هذه العلاقة تقطعها المؤسسة النيويوركية أو هكذا يخيّل لها عندما تختطف «أوكجا» لتنقله إلى نيويورك. ميا لا تستطيع قبول ذلك ولا الحيوان يبدو سعيداً دونها. وما يلي مباشرة فصل مبهر من المطاردات يحتوي على مشهد يدخل أوكجا وميا فيه محلاً للعب الأولاد كما مطاردة في نفق للسيارات قبل أن تدخل جمعية الرأفة بالحيوان لتساعد ميا (كما يتبدّى في البداية) استعادة حيوانها المحبوس في شاحنة كبيرة.
مضامين مضادة
لكن الجمعية لها «أجندتها» الخاصة التي لا ترضى عنها ميا على أي حال وفي كل ما سبق من حالات، وهنا على وجه التحديد، يقوم المخرج برسم ملامح ساخرة على ازدواجية الحياة التي نعيشها: العلم مفيد ومضر، الإعلام يوحي بعكس ما هو واقع، الجمعيات المفترض بها أن تعمل لصالح العناية بالحيوانات لديها برنامجها الخاص. هذا كله لجانب ما يتبدّى منذ البداية حول ازدواجية السلوك الفردي حيال الحيوان بصفة عامّة.
المؤسسات مدانة هنا لخلو مساعيها من الفائدة العامّة واستثمار أعمالها لخدمة القائمين عليها ولجني الأرباح. لعدم اكتراثها بأي مبادئ أخلاقية تقف في مواجهة المنافع الذاتية. المخرج بونغ يفرّغ العالم الذي بين يديه من الأخلاقيات ويحصر ما تبقّى منها في بطلته ميا التي لا هدف لها سوى إنقاذه والاحتفاظ به.
الناحية الإنسانية ملحوظة ومشروطة. ميا هي الإنسان (داخلنا ربما) والعالم الخارجي هو الفعل المادي السائد. وبونغ يعالجه بنقد محسوس وإن ليس موجعاً خشية تحويل عمله إلى دراسة وعظية.
بونغ لا يمكن له أن يكون قاطعاً في مبادئه. لا أحد يستطيع. حتى شعراء السينما من أنطونيوني إلى كوروساوا وصولاً إلى تاركوفسكي كان لا بد لهم من التعامل مع الجوانب المرفوضة للحياة النظامية التي ينتقدونها. تفجير مايكل أنجلو أنطونيوني للبيت الكبير الذي يرمز إلى الرأسمالية الأميركية في نهاية «زابريسكي بوينت» (1970) هو مثل مرثاة العالم المنتهي عند «درسو أوزالا» (1975) أو المآسي الواردة في ترجمته لرائعة شكسبير «الملك لير» (1985). كذلك تلتقي مع الحريق الذي يلتهم البيت الكبير في فيلم أندريه تاركوفسكي «تضحية» (1986) تعبيراً عن مستقبل مخيف كنا سمعنا احتمالاته النووية خلال الفيلم.
بونغ، كهؤلاء وسواهم، يحتاجون إلى المؤسسات ذاتها التي ينتقدون وجودها ممثلة في شركات الإنتاج والتوزيع التي ستتعامل مع المشاريع، حتى الانتقادية، على أساس أنها توليفة تجارية في المقام الأول.
لا بأس بذلك إذا كانت الغاية لدى المخرجين، في نهاية المطاف، شيوع العمل علماً بأن وسائط العروض اليوم تختلف عما كان سائداً في كل سنوات القرن الماضي أو معظمها. في البداية تم الاستثمار في أسطوانات أفلام تدار بالليزر وبأشرطة فيديو قابلة للعطب السريع. ثم دخلت الأسطوانات الصغيرة على الخط مباشرة قبل انتشار الإنتاجات المتوجهة مباشرة عبر الأثير إلى أجهزة الإنترنت كما حال «أوكجا» وسواه.
ومن اللافت هنا المقارنة بين اختلاف وسائل الاستفادة من تقنيات اليوم تبعاً لمن يسعى فعلياً للحفاظ على الإرث السينمائي أكثر من سواه. ففي أيامنا هذه يتم إطلاق الفيلم على أسطوانات بعد 3 أشهر من إطلاقه في صالات السينما، أي قبل أن يبرد الاهتمام به ويتكلف الموزع ضعف ما سيتكلفه من ميزانية الدعاية لو تركه لمدة أطول.
هذا في الولايات المتحدة، أما في فرنسا، فإن القانون يفرض مرور 3 سنوات ما بين عرض الفيلم في الصالات وتوفيره على الفيديو. خلالها يكون الفيلم قد شبع عروضاً وجسد التعامل مع السينما فنّاً وثقافةً وترفيهاً منفصلة عن الغايات الأخرى، وقبل أن يتحوّل إلى علبة تفتحها وتعرض ما فيها.
رعاية
ضمن هذا، يجد مخرج اليوم نفسه مداناً إذا ما أسهم في إنجاح العروض البديلة ومداناً إذا لم يستثمرها في سبيل تحقيق فيلم مختلف يرضي به نزعته الانتقادية.
لكن «أوكجا» ليس مجرد معضلة أخلاقية. بل فيه من التحديات الفنية ما يمكن الكتابة عنه في صفحات. أخرج بونغ 14 فيلماً حتى الآن وتقدم من كل فيلم إلى آخر صعوداً خطوة خطوة. أحد أفضل أفلامه «أم» وأحد أكثر أفلامه رواجاً «سنوبيرس». الأول حققه سنة 2009 والثاني 2013 وفي كليهما رسالات اجتماعية وقدر من المعالجة الفنية التي تحفظ للنص قيمته. «أوكجا» هو الفيلم الثاني له الذي يتعامل فيه مع شخصية أنثوية في المقام الأول. لا يعني ذلك أن المرأة في باقي أفلامه كانت غائبة أو ثانوية، بل يعني أنه وجد في ملامح الممثلة هاي - جا كيم في «أم» وفي ملامح الفتاة الشابة سيو - هيان آن، بطلة «أوكجا» ما يجعله يتعلق بقدرة كل من الممثلتين توفير ترجمة تعبيرية على وجهيهما لما يتفاعل في داخلهما.
هذا بالغ الضرورة في كلا الفيلمين، لأنه من الصعب حث المشاهد على التفاعل تأييداً لهما (لكل منهما هدفاً لا يمكن التنازل عنه) من دون أن تخلق تعابير الوجه ما يستدعي التعاطف. لذلك، وعلى عكس معالجات بونغ لنساء أخريات في أفلامه) هناك تخصيص للقطات قريبة وقريبة متوسطة لكل من بطلتيه.
لجانب ذلك، يأتي هذا الفيلم مصحوباً برعاية فنية ملحوظة من مصدرين: مدير التصوير الفرنسي داروش كوندجي وفن تصميم وتحريك المؤثرات الخاصة التي أشرف عليها إريك - جان دي بووَر، الذي اشتغل على أفلام لترنس مالك («سفر في الزمن: رحلة حياة») ولأنغ لي («حياة باي») وهو الذي بدأ العمل كمصمم كومبيوتر غرافيكس على فيلم أنطوني مانجيلا «المريض الإنجليزي».
يتعرض الفيلم لهزات مصدرها الانتقال من نوع لآخر لفترة قصيرة. هو فانتازيا ثم تشويق ثم أكشن ومغامرة ثم فانتازيا مرّة أخرى. على ذلك، تنتصر، في نهاية الفيلم الرسالة كما الفن الذي يحويها. الفتاة تمضي مع أوكجا بعدما أنقذته من مصير (شبيه نظرياً بمصير كينغ كونغ) لكن هناك مئات الخنازير المعدة للإعدام لإطعام آكليها. بونغ يعرف أنه لن يغيّر العالم، وأن فيلمه مهما انتشر قد يؤثر في حزمة من البشر، لكن عليه توفير رسالته هذه لأن الرسالة وليس النتيجة هي ما يهم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)