«كريستيان ديور» تحتفل بمؤسسها في معرض «مصمم الأحلام» بباريس

70 سنة مرت على تأسيس دار «ديور». تعرف جيدا أنها ليست بقدم الأهرامات مثلا، ومع ذلك تستشعر كما لو كانت كذلك. فهي هرم بالنسبة للفرنسيين، كما أن الجيل الجديد من عشاق الموضة فتحوا أعينهم وذائقتهم على أسلوبها. 70 عاما تختزل إرثا غنيا بدأه كريستيان ديور في عام 1947 بما أصبح يُعرف بالـ«نيو لوك» وطوره كل من تسلم المشعل من بعده، وهم 6 مصممين لحد الآن؛ من الراحل إيف سان لوران الذي تقول كتب الموضة إنه كان أصغر مصمم يتسلم مقاليد مؤسسة بحجم «ديور» إثر موت أستاذه المفاجئ في عام 1957، مرورا بمارك بوهان، وجيانفرنكو فيري، وجون غاليانو، وراف سيمونز، إلى ماريا غراتزيا كيوري التي أصبحت أول امرأة تدخل الدار بصفتها مصممة في عام 2016.
بهذا التاريخ المميز، يحتفل متحف الفنون الزخرفيّة بباريس من 5 يوليو (تموز) 2017 حتى 7 يناير (كانون الثاني) 2018؛ نظم معرضا شاملا يدعو فيه الزوار إلى خوض رحلة استكشافيّة تجمع الماضي بالحاضر بخيوط من الترف والإبداع. فـ«ديور» اليوم ليست مجرد دار أزياء عالمية؛ بل مؤسسة ثقافية تفتخر بها فرنسا كلها، وأسلوبها الرومانسي لا يزال يؤثر على أذواقنا وحياتنا بشكل أو بآخر. هذه الرومانسية قد تبدو جد مألوفة على يد مصممين شباب لا يزالون يغرفون من نبعها، إلا أنها في زمنها كانت ثورة بكل المقاييس.
فكريستيان ديور، كما يؤكد المعرض، لم يكن مصمما عاديا. صحيح أن شخصيته كانت هادئة، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بعملية الإبداع، كان يميل فيها إلى خض التابوهات، مدفوعا بحبه للمرأة من جهة؛ وتعامله مع الـ«هوت كوتير» بصفته فنا قائما بذاته من جهة أخرى. ولعل الـ«نيو لوك» أكثر ما يرتبط باسمه ويحدد مدرسته. وهو «لوك» لم يأت من فراغ أو تبخر فيه بعد موسم أو موسمين فقط. فقد كان ثورة أعادت للمرأة أنوثتها بعد أعوام طويلة من الحرب وما تطلبته من تقشف. عوض الأقمشة الخشنة التي كانت مستعملة طوال سنوات الحرب، استعمل أقمشة مترفة. وبدلا من متر أو مترين فقط، لم يبخل على القطعة الواحدة بأمتار طويلة أثارت عليه نقمة البعض. الرافضون كل الثورات استنكروا فعلته: كيف لهذا الفرنسي البورجوازي أن يسمح لنفسه بأن يقدم للمرأة كل هذا البذخ؟ هل يعيش في معزل عن الواقع ولا يعرف ما يجري من حوله؟
بالنسبة لعاشقاته كان هذا الاتهام أبعد ما يكون عن الحقيقة. فهو لم يكن يصمم بمعزل عما يجري من حوله، بل العكس تماما. عايش معاناة المرأة، وكان نعم المنصت لها. لم يُعجبه أن تضيع رومانسيتها بسبب حرب كانت من صنيعة الرجل وهو من شب في وسط يقدر الجمال. كانت طفولته سعيدة بين أحضان عائلة بورجوازية تعشق الطبيعة، الأمر الذي شكل شخصيته وأسلوبه في الوقت ذاته. لهذا نجد أن الطبيعة لا تزال جزءا من رموز الدار إلى اليوم. وتقول القصة إنه كان يساعد والدته على شذبها وغرسها والعناية بها في حديقة بيت العائلة في غرانفيل. وبما أن الطفل هو أبو الرجل، فإن حب الورود رافقه إلى مماته وورثه لخلفائه من بعد. كان يتفاءل بها فكانت تظهر دائما في عروضه وفي عطوره.
بالقدر نفسه الذي أغدق فيه الرومانسية والأنوثة على المرأة، بادلته هي الأخرى التقدير ولم تنس له جميله في إخراجها من حالة البؤس التي كانت تعيشها الموضة في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. فقد أتاح لها معانقة أنوثتها من جديد عندما أعاد لها خصرها الذي ضيعته التصاميم العملية والأقمشة الخشنة.
ورغم أن الموت غيبه بشكل مفاجئ إثر سكتة قلبية في عام 1957، فإن الدار أكملت مسيرته متقيدة بمبادئه؛ فقد عينت تلميذه الموهوب إيف سان لوران خليفة له آنذاك، ليكون أصغر مصمم يتولى قيادة الدار. لم يخيب آمال عشاق الموضة والإبداع الذين يتوقعون الجديد في كل موسم، لكنه أثار حفيظة زبونات الدار المخلصات بجموحه للتغيير. كان بإمكان امرأة «ديور» أن تغفر له جموحه هذا وتفسره على أنه فورة الشباب، وأن الزمن كفيل بترويضه، لكنها لم تستطع أن تغفر له أن يسرق منها خصرها ثانية. ما قام به أنه استقى تصميمه المثير للجدل «ترابيز» Trapèze، من مجموعة «كورولا» Corolla التي أبدعها أستاذه تكريماً منه لمفهوم «المرأة - الزهرة»، لكن نفذه بشكل عكسي، أي مقلوب... جاء الفستان منسدلا من الأكتاف إلى الركبة مبتعدا عن الخصر بشكل واضح. لم تمر التشكيلة مرور الكرام، كما يعرف كل متابع للموضة. وكما أثار إعجاب عُشاق الموضة والفنانين على أساس أنه كان سابقا لأوانه، أثار حفيظة زبونة «ديور» المخلصة للمؤسس. والنتيجة أنه لم يُعمر في الدار طويلا، إلا أنه أصبح جزءا من تاريخها، كما يؤكد المعرض.
مع اقتراب حلول فترة الستينيّات، كان قد فتح الأبواب أمام أسلوب «الموجة الجديدة» New Wave. هذه الموجة هي التي حددت عهد خليفته المصمم مارك بوهان. على العكس من إيف سان لوران لم يكن منجذبا نحو إحداث الصدمة وفرض نفسه بابتكار إطلالات قوية تخض المجتمع أو تطرح تساؤلات فكرية. كان يفضل الفخامة على كل هذا، ولم يخرج كثيرا عن النص الذي كتبه كريستيان ديور، مع أخذه بعين الاعتبار التغييرات الاجتماعية التي شهدتها حقبتا الستينات ثم السبعينات.
طوال سنواته الـ29 في الدار، قدّم بوهان مجموعات رائعة، تارة من خلال أسلوب «سليم لوك» Slim Look الذي يتميز بالبساطة والخطوط البعيدة عن أي مبالغات، أو بابتكاره شعار «ديور» الذي بدأت الدار باستخدامه على الإكسسوارات والأزياء في عام 1968. لكن لكل شيء نهايته، وفي أواخر الثمانينات تنحى عن عرشه وعينت الدار بديلا له هو الإيطالي جيانفرنكو فيري. اختيار إيطالي لقيادة مؤسسة فرنسية في 1989 أثار عاصفة إعلاميّة كبيرة في فرنسا. كيف تختار الدار مهندسا معماريا من ميلانو؟ هل قلت المواهب الفرنسية؟ وما شابه من تساؤلات واستنكارات.
لحسن الحظ أن جيانفرنكو فيري نجح سريعا في تذويب مقاومة الفرنسيين له بموهبته وقدراته الهندسية الفذة على تفصيل كل قطعة. كان مثل المؤسس يعشق الأحجام الهندسية والترف. والأهم من هذا جاء هذا الترف والتفرد في وقت كانت فيه الـ«هوت كوتير» في أمسّ الحاجة إليه مضادا أمام الهجمة التي تعرض لها هذا القطاع من قبل الأزياء الجاهزة. إعجابه بفن الباروك تحديدا منح الأقمشة الفاخرة والتصاميم المنسدلة والزخرفات المسرحيّة بُعدا جديدا استحضر أسلوب الراحل ديور وعشقه للفن والهندسة على سواء. وهكذا أفحم هذا المصمم الإيطالي معارضيه.
بيد أن كل ما حققه من نجاح وإثارة لا يقارنان بما حققه البريطاني جون غاليانو عند تسلم المشعل منه عام 1997، فقد عزز أنوثة الدار وارتقى بفنيتها لمرحلة غير مسبوقة من الرومانسية والدراما. لم يضاه حب المصمم البريطاني لتقمص الأدوار والشخصيات الدرامية سوى عشقه لاستكشاف ثقافات بعيدة؛ زمنيا وجغرافيا. أعاد في مرة من المرات الـ«نيو لوك» New Look الذي أسسه ديور في عام 1947 بلمسة ذات طابع يابانيّ. ومرة أخرى كرم مادلين ديور، والدة المؤسِّس، بجمعه الزي التقليدي لمحاربي الماساي بالأنسجة المخرّمة ومشدّات «الكورسيه» من القرن العشرين، ومرة ثالثة أخذنا إلى الحضارة الفرعونية... وهكذا. كانت موهبته فذة، كما كان صعب المراس لا يعرف الحلول الوسطى. للأسف لم تكن نهايته في الدار ودية، وغادرها فاتحا المجال لدخول راف سيمونز، الذي لم يكن الاختيار المتوقع.
فهو من الحركة المينيماليّة التي ترفع شعار «القليل كثير» بينما «ديور» قائمة على الفخامة والتفاصيل الباذخة. ما يُحسب له أنه كان متحمسا ويُدرك أنها فرصة العمر، لهذا غاص في أرشيف الدار وفهم جيناتها الرومانسية. ترجمته هذه الرومانسية تجسدت في آلاف الزهور التي كانت تستقبل الحضور في كل عروضه لتُذكر بعشق كريستيان ديور لها وتفاؤله بها. بعد 3 سنوات، استقال مفضلا أن يتفرغ لداره والابتعاد عن الأضواء. لم تتسرع الدار بتعيين خليفة له. كان مهما بالنسبة لها أن تتوصل إلى المصمم المناسب للزمن المناسب. وهكذا في عام 2016 اختارت أن تقودها امرأة لأول مرة. وبعد موسمين فقط، أكدت الإيطالية ماريا غراتزيا كيوري أنها كانت خيارا موفقا. أعطت الأنوثة معنى جديدا بإطلاقها ما أصبح يُعرف الآن في أوساط الموضة بـ«الحركة النسوية». مجموعتها الأولى تضمنت مثلا «تي شيرت» أبيض كتبت عليه قولا للروائيّة النيجيريّة شيماماندا نغوزي أديشي: «كلنا ناشطات نسويات». وصلت رسالتها سريعا إلى عاشقات الموضة في كل أنحاء العالم. لكنها وفي خضم هذه الثورة النسوية، لم تتجاهل إرث الدار؛ بل العكس طورته بلغة العصر؛ تارة بإضافتها أغطية للرأس على بدلات مفصلة أو أقنعة من الريش، وكأنها تريد أن تُذكرنا بالحفلات التنكّرية التي كان يقيمها أو يحضرها المؤسس، وتارة بإعادة صياغة تصميم جاكيت الـ«بار» المحدد عند الخصر، الذي كان سلفها راف سيمونز قد وسعه بعض السنتيمترات. وفي كل الحالات كانت الرسالة قوية تعكس الأحداث التي نعيشها. فكما أعاد كريستيان ديور للمرأة أنوثتها في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، نجحت ماريا غراتزيا كيوري في أن تعيد لها صوتها ورغبتها في الحفاظ على ما اكتسبته من حقوق.
فقد تختلف اللغة ومصادر الإلهام والوجهات وقصص الحياة، إلا أن الأساس لم يتغير، والنتيجة التي تستخلصها من المعرض أنه لا فرق بين الماضي والحاضر؛ فمنذ 70 سنة بدأت القصة بحق المرأة في الحفاظ على أنوثتها، والآن تنادي بحقها في التمسك بقوتها واستقلاليتها، أو هذا ما يؤكده على الأقل نحو 300 فستان تم تصميمها من 1947 إلى اليوم. أما في حال لم تكن هذه الفساتين كافية لتقدم قراءة وافية عن كل التطورات الاجتماعية والثقافية التي مرت بها المرأة، فإن لوحات فنية وصورا فوتوغرافية ومئات الرسومات والصور الوثائقية، والرسائل والملاحظات والوثائق الإعلانية، من شأنها أن تساعد في تسليط مزيد من الضوء على مسيرة دار أسسها رجل كان يحلم بأن يصبح مهندسا، وانتهي به الأمر أن يكون مصمما، مخلفا لنا إرثا لم نشبع منه بعد.
يقام المعرض في متحف الفنون الزخرفيّة The Musée des Arts Décoratifsبباريس من 5 يوليو 2017 حتى 7 يناير 2018.