«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين

أمام خلفية الخزان البشري... وإشكاليات التنوع والاختلاف والتشدد

«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين
TT

«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين

«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين

أعلنت السلطات العراقية خلال الأسبوع تحرير مدينة الموصل من احتلال تنظيم داعش المتشدد، وذلك في الذكرى السنوية لسقوطها تحت احتلاله، وإعلانه فيها «دويلته» المزعومة. ولكن، بينما مُني التنظيم بنكسة كبرى في شمال العراق، وبات يواجه انحساراً كبيراً في مناطق سيطرته على الأراضي السورية، ولا سيما، معقله مدينة الرّقة، فإن امتداداته و«ذئابه المنفردة» ما زالت ناشطة في أنحاء العالم الأخرى. وبعد سلسلة الهجمات الإرهابية في عدد من المدن الأوروبية، يخوض مسلحو «داعش» معارك شرسة في جزيرة مينداناو، ثاني كبرى مدن الفلبين.
يبدو أن العالم على موعد مع فصل جديد من فصول «داعش»، في موقع وموضع آخر بعيد عن الشرق الأوسط والعالم العربي. فخلال الأيام القليلة المنصرمة نجح مسلّحو التنظيم المتشدد في الاستيلاء على مدينة ماراوي في الجزيرة الكبيرة الواقع في جنوب أرخبيل الفلبين. وللعلم، توفر هذه المنطقة مزايا كثيرة له ولمسلحيه. ذلك أنها من جهة تعدّ ملاذاً آمناً من الناحية الجغرافية بسبب قربها من دول آسيوية إسلامية كبرى، ومن جهة ثانية تقدّم الفلبين وما يجاورها من إندونيسيا وماليزيا نقطة جذب لخزان بشري حيث أكبر وجود إسلامي في شرق آسيا.
للوهلة الأولى يدرك الناظر للمشهد أن مخططات «داعش» الخاصة بالانتقال إلى جنوب آسيا وشرقها إنما جاءت كردات فعل بعد تعاظم الخسائر الميدانية التي لحقت بالتنظيم في الشرق الأوسط على أكثر من صعيد. وكما سبقت الإشارة أعلاه، بدأ في العراق العد التنازلي للقضاء على «داعش» في أعقاب طرده من قلب «المدينة القديمة» في الموصل، كما أن وضعه في سوريا ما عاد وضعه مريحاً مع اقتراب ما يتوقع أن يكون «معركة حسم» في الرّقة، بتعاون دولي ومشاركة أميركية بنوع خاص. أيضاً، في ليبيا وشمال أفريقيا يبدو التضييق على الميليشيات الداعشية سيد الموقف.
بناءً عليه بات البحث عن ميادين «لوجيستية» جديدة تزخم وتدعم الحضور الداعشي، هو ما يشغل الدواعش لنقل أساليبهم الوحشية إليها. وهنا، يتبادر إلى الأذهان السؤال: لماذا اختار القائمون على التنظيم جنوب شرقي آسيا، تحديداً، لانطلاقتهم الإرهابية الجديدة، ولم يختاروا أوروبا أو أفريقيا أو أي بقعة جغرافية أخرى حول العالم؟

الخزان الآسيوي البشري
في تقرير لها نشر أخيراً، ذكّرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية بأن قارة آسيا تضم من المسلمين أكثر مما في العالم العربي. وعلى سبيل المثال فيها إندونيسيا، كبرى دول جنوب شرقي آسيا من حيث عدد السكان، إذ يقطنها أكبر من 250 مليون نسمة غالبيتهم العظمى مسلمون، وهي أيضاً أكبر بلد إسلامي في العالم من حيث عدد السكان.
على صعيد آخر، فإن غالبية دول جنوب شرقي آسيا تعاني من حالة تراخٍ أمني كبير، ربما لأنها لم تعهد مثل هذا النوع من الإرهاب الداعشي على مرّ تاريخها. ولهذا كان وما زال من اليسير على الدواعش استجلاب المزيد من العناصر الجديدة المتطرفة وتجنيدها لصالح التنظيم، وبالذات، من إندونيسيا.
والمؤكد أيضاً أن المنطقة الجغرافية التي نحن بصدد الحديث عنها تعد ذات أهمية استراتيجية كبرى للمصالح الاقتصادية الغربية. ووفق العقيدة الفكرية والقتالية لـ«داعش»، تعد هذه المصالح أهدافاً يسيرة في الوصول إليها وتحقق لـ«داعش» عوائد أدبية ومالية معاً.
ولعل «داعش» تدرك أن تلك المنطقة من آسيا، لا سيما، الفلبين تعاني من إشكاليات صراع هويات تاريخية وثقافية استغرقت أجيالاً كثيرة، مما يجعل اللعب على المتناقضات فيها أمراً سهلاً. وهذا ينطبق - تحديداً - على جزيرة مينداناو، كبرى جزر جنوب البلاد، التي شهدت تمرداً مسلحاً في الشهر الماضي. وهذا ما حدا بالرئيس الفلبيني المثير للجدل رودريغو دوتيرتي لاعتبار الأمر «تمرداً داعشياً بحتاً»، حسب تعبيره، لافتاً إلى أنه حذّر منذ وقت طويل، من قرب وصول «داعش» إلى بلاده.
أمر آخر يجعل من جنوب شرقي آسيا محل جذب لـ«داعش» هو سهولة التمويل عبر الحصول على أوال تجارة المخدرات. ومثلما موّلت «داعش» عملياتها في العراق وسوريا من النفط المهرّب وبيع الآثار، فإن تهريب المخدرات في جنوب شرقي آسيا يُعد الطريق الأيسر للتمويل. وثمة جهات غربية تتهم الشقيقين عبد الله وعمر ماوتي، اللذين تحمل اسمهما «جماعة ماوتي» (أو «دولة لاناو الإسلامية») التي بايعت «داعش»، بالتورط في هذه التجارة.
غير أن ما تقدم ما كان ليدعم نشوء وارتقاء «داعش» في جنوب شرقي آسيا عموماً، والفلبين بصفة خاصة، لو لم تكن هناك جذور فكرية متشددة هيأت تربة مناسبة تتقبل مثل هذا التشدد الذي تحول إلى التوحش في مرحلة لاحقة.

عن الأصولية في الفلبين
ما يتوفر من معلومات يشير إلى أن إشكالية التشدد في الفلبين - بوجهيه الإسلامي والمسيحي - لديها اتجاهان تاريخيان. ذلك أن الأزمة هناك قائمة بين الغالبية المسيحية الكاثوليكية والأقلية المسلمة منذ الاحتلالين الإسباني والأميركي للأرخبيل الفلبيني، وهما احتلالان أنهيا هناك حكم السلطنة الإسلامية، وأجبرا شعب المورو على الاندماج في الجمهورية الفلبينية الحديثة. والمورو مجموعة عرقية ودينية مسلمة تعيش في جنوب الفلبين، وعرفوا عالمياً في مسرح السياسة في أعقاب تأسيس أطلق عليه «جبهة تحرير مورو الإسلامية». وهو ما يعني أن الصراعات العرقية والدينية كانت حاضرة في الأصل، ولاحقاً أَضحت حاضنة جاهزة للصدام.
أما الاتجاه الآخر فتبدو إشكاليته أكبر من مجرد الخلاف والاختلاف بين الغالبية والأقلية وصراعاتهما. إذ تلقى عدد من قادة جبهة مورو الإسلامية علومهم الدينية في الأزهر الشريف خلال ستينات القرن المنصرم. وفيما بعد تأثر عدد منهم بأفكار وآراء أبو الأعلى المودودي، ثم سيد قطب، وبخاصة كتابه الأشهر «معالم على الطريق»، الذي غلبت عليه فكرة «الحاكمية» بالمعنى المعروف «ما الحكم إلا لله». وبالتالي، فإن كل الأنظمة الحاكمة الحالية «أنظمة كافرة «يتوجب إسقاطها ومحاربتها».
ولم تتوقف أرضية التشدّد في الفلبين عند هذا الحد. بل كانت الحرب الدائرة في أفغانستان خلال ثمانينات القرن المنصرم، منطلقاً آيديولوجياً لتأثر البعض هناك بأفكار أكثر تشدداً، واحتكوا هناك بجماعات خرج منها تنظيم القاعدة وجماعة طالبان. ومن ثم، بعد عودتهم إلى الفلبين غدت «خارطة التشدد» والتشدد المضاد أكثر حدة، مع العلم أن التنظيمات المتشددة تعرّضت للانشقاقات عدة مرات.

جماعة «أبو سياف»
كانت بداية التوجّه العملياتي المسلح في الفلبين على يد جماعة «أبو سياف» المتشددة التي انشقت عن «جبهة مورو للتحرير الوطني» عام 1991. ولقد أسس هذه الجماعة عبد الرزاق جنجلاني، المشهور بكنيته «أبو سياف»، وبعدما قتل عام 1998، تولى أخوه الأصغر قذّافي جنجلاني قيادة الجماعة بعده، غير أنها تفتتت في عهده إلى زمر متفرقة.
الخبراء يقدّرون تعداد جماعة «أبو سياف» ببضعة آلاف، ولا تختلف آليات أفرادها كثيراً عن آليات عمل «داعش»، بما في ذلك الاغتيال والخطف وابتزاز الشركات ورجال الأعمال الأثرياء في البلاد. ويضاف إلى ذلك، الإغارة على الجزر القريبة، واستهداف الأجانب، وخصوصا من الأوروبيين والأميركيين. ولقد نسب إلى الجماعة كثير من عمليات الخطف والهجمات بالقنابل التي وقعت عام 1998.

مبايعو «داعش»
مما تقدم، نلحظ أن فكر تنظيم «القاعدة» التي تبلوَر لاحقاً في العراق والشام فتحول إلى «داعش» كان حاضراً وبقوة في مدينة ماراوي، بجزيرة مينداناو الفلبينية. أكثر من ذلك، كان «أبو سياف» يسعى فعلياً إلى تأسيس «دولة إسلامية» في غرب الجزيرة (التي تعد ثاني كبرى جزر الفلبين بعد جزيرة لوزون التي تقع فيها العاصمة مانيلا، في شمال البلاد). وعلى هذا الأساس فإن تبني «داعش» فكرة «دولة الخلافة» كان لا بد أن يلقى صدى طيباً، وترحيباً كبيراً من الجماعات الفلبينية المتشددة.
في مقدمة تلك الجماعات «جماعة ماوتي» («دولة لاناو الإسلامية») وهي مجموعة منشقة من «جبهة مورو الإسلامية» وتضم عدة مئات من المقاتلين المتشددين، ثم تبعها تنظيم «أبو سياف» نفسه، بدليل مشاهدة أحد قادته السابقين إيسنيلون هابيلون في ماراوي أخيراً. ووفق التقارير فإن هابيلون مصنف في الولايات المتحدة كقيادي إرهابي ولقد وضعت واشنطن مكافأة مالية هائلة لمن يرشد عنه عليه، في أعقاب اتهامه بارتكاب جرائم قتل واغتيال، وكان من بين ضحاياه أميركيون.
عطفاً على ما سبق، ظهر تسجيل مصور من جزيرة مينداناو يظهر فيه عدد من قادة الإرهاب المحليين في المنطقة، يقدمون فروض الولاء والبيعة لزعيم داعش «أبو بكر البغدادي»، ويتردد أن عددها أربع جماعات. ولهذا فإن «داعش» روّج أخيراً لتقارير عن نشاطات زعم أنها للجماعات التابعة له في الفلبين، ويزعم «داعش» أن قواته هناك تضم عشر كتائب، وأن مسلحيه قتلوا نحو 300 جندي فلبيني منذ بداية المواجهات.

أزمة لإندونيسيا وماليزيا
تدفق المعلومات من الفلبين للعالم الخارجي ما زال في بداياته، لكن حتى تلك البدايات تقودنا إلى القول بأن «معركة ماراوي» أثبتت أن الفلبين باتت مكان جذب للراغبين في الانضمام إلى «داعش». ولقد ذكرت وزارة الدفاع الإندونيسية أن نحو 12 ألف مقاتل أجنبي ينشطون اليوم على الأراضي الفلبينية، ومن بينهم عشرات من الإندونيسيين. وتجدر الإشارة إلى أن المسافة الفاصلة بين ماراوي، ومناطق شمال أرخبيل إندونيسيا تقطع في خمس ساعات فقط. ولذا أفاد مصدر إندونيسي من قطاع مكافحة الإرهاب وكالة «رويترز» للأنباء أن السلطات الإندونيسية شدّدت المراقبة على المناطق الشمالية من جزيرتي كاليمانتان (بورنيو) وسولاويسي (سليبيز) لمنع توجه مقاتلين محتملين من السفر بحراً إلى جنوب الفلبين.
ولا يتوقف المشهد مع إندونيسيا، بل يتجاوزها إلى «جارتها» ماليزيا، التي هي أيضاً «جارة» الفلبين. إذ حدد رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة الماليزية أيوب خان أسماء عدد من الماليزيين، سافروا بالفعل إلى جزيرة مينداناو الفلبينية (التي تعادل مساحتها مساحة كوريا الجنوبية ويسكنها 21 مليون نسمة) وهدفهم الانضمام إلى المقاتلين المتشددين هناك. وأوضح أن بين هؤلاء محمود أحمد، المحاضر الجامعي الماليزي، الذي يُقال أنه من المتوقع أنه يتولى قيادة التنظيم في جنوب الفلبين إذا ما قتل هابيلون.
في هذه الأثناء، أشار اللفتانت كولونيل جو هيريرا، الناطق باسم الجيش الفلبيني، إلى أن كثيرين من المقاتلين المتشددين الأجانب جاءوا إلى ماراوي تحت ستار مهرجان إسلامي عقد في المدينة الشهر الماضي. وأحضر هابيلون معه عدة مئات، في حين أحضرت جماعتان أخريان هما «جماعة مقاتلي بانجسا مورو الإسلاميين من أجل الحرية»، وجماعة «أنصار الخلافة» في الفلبين المئات من جانب آخر.
وبالتالي، قد يصدق ما ورد على لسان مسؤول في جهاز الاستخبارات المركزية الأميركي (سي آي إيه)، حين ذكر أن فرع «داعش» في جنوب الفلبين، قد دعا أتباعه للإحجام عن الذهاب إلى سوريا، وأنه بدأ يستقطب عناصر من مناطق أخرى، فيما يبدو أن ثمة خطة جديدة للتنظيم لبناء شبكة جديدة له في جنوب شرقي آسيا، وتحديداً في جنوب الفلبين. ويعتقد على نطاق واسع، داعش يسعى الآن لزرع أتباعه في المناطق التي لا تخضع لسيطرة الحكومات المركزية.
من جانبه، يقول جوزيف شينونغ ليو، خبير الحركات «المتشددة الإسلامية» في جنوب شرقي آسيا، أن «داعش» ومؤيديه في جنوب شرقي آسيا يستخدمون الآن شبكات التواصل الاجتماعي بشكل متطور من أجل بث رسائله وتجنيد مقاتلين من المدارس الإسلامية في ماليزيا.

انتفاضة آسيوية
في أي حال، تخشى الدول الآسيوية من أن يضرب فيروس التشدد الإرهابي القاتل أنسجتها الاجتماعية المتماسكة، وتخاف من أن يؤدي الإرهاب إلى وقف نموها وازدهارها الاقتصادي الذي أدركته بعد عدة عقود خلت.
أيضاً، تدرك دول المنطقة أن «داعش» يعمل لجعل الهجمات الانتحارية «عملة» المنطقة وديدنها، إذ كشفت تايلاند عن معلومات استخباراتية أميركية تفيد باعتزام مقاتلين تابعين لـ«داعش» شن عمليات انتحارية في مناطق حيوية من البلاد، أما صحيفة «إل موندو» الإسبانية فأشارت خلال الأسبوع الماضي إلى أن خبراء أمنيين في سنغافورة حذّروا بقوة من الدمار الذي يمكن أن يجلبه «داعش» إذا تمكن من البقاء والنماء في الفلبين.
هل تحركت دول الجوار والدول الكبرى، بالفعل، كي لا تتكرر أزمة الشرق الأوسط مع «داعش»؟
يبدو أن الجواب إيجابي. فلقد أعربت روسيا عن استعدادها لاتخاذ ما ينبغي من إجراءات لمساعدة السلطات الفلبينية في مانيلا في حربها ضد «داعش»، بما في ذلك إرسال مستشارين عسكريين وآليات ومعدات عسكرية. وقد تجد موسكو في المشهد فرصة تاريخية لاقتسام النفوذ مع الولايات المتحدة، الحليف المتقدم للفلبين تاريخياً.
ثم تأتي الصين بعد روسيا في إدراكها خطورة انتشار «داعش» في آسيا، فهي تعرف أن الإيغوريين الترك قد تسربت منهم أعداد كبيرة إلى الشرق الأوسط، وعليه فإن «ولاية» لـ«داعش» في وسط آسيا ستكون مسألة قاتلة بالنسبة لبكين. ولذا أعلنت القيادة تأييدها عمليات الجيش الفلبيني ضد «داعش».
وطبعاً، لم تتغيب الولايات المتحدة عن المشهد، إذ أعلنت السفارة الأميركية في مانيلا أن قوات أميركية خاصة تساعد الجيش الفلبيني في عملياته المستمرة في ماراوي. والمثير هنا أن الصين، العدو التقليدي لأميركا في آسيا، رحبت بهذا التدخل «طالما أنه جاء على أساس رغبة الحكومة الفلبينية».
أما إندونيسيا وماليزيا، الدولتان المسلمتان الكبيرتان في المنطقة، فقد أعلنتا أنهما بصدد إطلاق دوريات جوية مشتركة هذا الشهر على حدودهما المشتركة في بحر سولو (غربي مينداناو وشمال بورنيو) بالإضافة للدوريات البحرية الحالية. وحثت السلطات في عموم المنطقة على تعزيز التعاون بين الدول لمكافحة تبعات المعركة المستعرة مع المتشددين الدواعش في جنوب الفلبين، في تحذير جدّي من أن التنظيم يؤسس قاعدة له في جنوب شرقي آسيا.

تأخر رد فعل واشنطن
في الأيام القليلة الماضية كان وزير الدفاع الأميركي الجنرال جيمس ماتيس يتحدث أمام الكونغرس، ووسط ذهول الأعضاء تحدث عن إلغاء إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عملية عسكرية أميركية طويلة الأمد لمساعدة القوات الفلبينية على احتواء خطر المتشددين قبل ثلاث سنوات. وفيما بدا تغيراً في توجه واشنطن إزاء انتشار «داعش» في آسيا، أضاف ماتيس: «يجب أن نعمل معاً لمنع هذا التهديد من النمو».
ولكن، في تقرير أخير صادر عن الاستخبارات الكندية، ثمة خلاصة غاية في الأهمية مؤداها أن «داعش» بأنماطه الجديدة لا ينمو إلا داخل بيئات تمزقها الخلافات العرقية والدينية، ما يسمح باستغلال الظروف الأمنية المتردية والمتعلقة بانتشار الميليشيات في البيئات المنقسمة على ذاتها «هوياتياً»، إن جاز التعبير. ولهذا، سيشكل الإرهابيون والمتشددون الدواعش تهديداً أمنياً لسنوات كثيرة قادمة.
من هنا يفهم الزحف الداعشي على مناطق فلبينية موبوءة بمثل تلك الثقافات العرقية والدينية المتعادية. ومن ثم، حتى إذا نجحت القوى الآسيوية الكبرى المحيطة بالفلبين في التعاطي عسكرياً مع إرهاب «داعش» فإن الإشكالية الداعشية لن تتبخر وتتلاشى. وهو ما يعزز الحاجة إلى تأطير فكري يجابه انتشار أفكارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».