دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

بعد ما حدث في فنزبري بارك

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)

هل دخلت بريطانيا وربما أوروبا برمتها دائرة مفرغة قاتلة من الفعل ورد الفعل؟ ثم علامة الاستفهام الأصعب من سبق الآخر... هل الإرهاب الذي قام به بعض المنتمين إلى الإسلام اسما لا نفسا هو السابق على رهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا»، أم أن هذه الظاهرة هي قديمة في التاريخ الأوروبي سابقة على العمليات الإرهابية والتي لم تعرفها بريطانيا خاصة وأوروبا عامة إلا في العقدين الأخيرين على أبعد تقدير تاريخي؟
حكما أن ما جرى في مسجد فنزبري بارك شمال لندن الأيام القليلة الماضية هو ما يقودنا إلى طرح مثل هذه التساؤلات في محاولة لإثارة التفكير في أزمة جعلت من النهار مدعاة للقلق والليل طريقا إلى القلق.
لعل الواقع يستدعي مراجعة أولية لما يجري سيما أن العاصمة البريطانية تحديدا شهدت وتشهد ارتفاعا واضحا في جرائم الكراهية منذ الهجوم الإرهابي الذي دهست فيه حافلة بعض المارة في منطقة لندن بريدج، ثم توجهت نحو منطقة «برو ماركت» ونزل منها ثلاثة مهاجمين علم ومن أسف لاحقا أنهم مسلمون، طعنوا بعض المارة أيضا، ما أسقط عشرة قتلي، بينهم المنفذون، و48 جريحا.
ارتفعت ردود الفعل «الإرهابية» بدورها، وهذا ما رصدته شرطة لندن وبلديتها فمنذ بداية عام 2017 كان معدل جرائم الكراهية في العاصمة البريطانية ثلاث جرائم ونصف جريمة في المتوسط يوميا، إلا أنه ارتفع لاحقا ليضحى 20 جريمة يوميا منذ هجوم لندن، الأمر الذي رصده عمدة بلدية لندن صادق خان في تصريحات له قال فيها إن «هناك زيادة كبيرة في ظاهرة الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية في المدينة عقب هجوم لندن بريدج».
وبحسب أرقام حكومية، فإن عدد البريطانيين الذين اعتقلوا لارتكابهم جرائم تتعلق بالإرهاب هو 91 من 260 شخصا العام الماضي، في زيادة بنسبة 28 في المائة مقارنة مع عام 2015 وهي الفئة الإثنية الوحيدة التي شهدت زيادة.
على أن الأرقام والنسب المتقدمة هي النتائج لا المقدمات، وضمن تلك الأخيرة كانت إشكاليات الهجرة واللاجئين التي عرفتها أوروبا العامين الأخيرين سببا مباشرا ضمن أسباب تصاعد مد الإسلاموفوبيا، وهذه مسألة في حاجة إلى إلقاء المزيد من الضوء وتحليلها تحليلا سيوسولوجيا شافيا وافيا.
كانت أحداث الربيع العربي وانهيار بعض الدول لا سيما سوريا وليبيا دافعا لموجات من الهجرة لعشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من المضطهدين والمعذبين في الأرض الساعين لملجأ إنساني، هؤلاء ولسوء حظهم كان قد اندس بينهم وهذه معلومات ثابتة لدى أجهزة الاستخبارات الأوروبية عناصر إرهابية بعضها ينتمي للقاعدة وأخرى لـ«داعش»، بعضها على درجة عالية من التدريب العسكري ولديها مهارات في أعمال التفجيرات والإرهاب، والبعض الآخر مؤدلج فكريا، وغير مدرب عملياتيا، ولهذا كان الفصيل الأخير يمثل مفتاحا لولوج تيارات اليمين الأصولي الأوروبي الكاره تاريخيا للإسلام والمسلمين للعودة إلى ساحة الأحداث السياسية أوروبيا.
من هذه النوعية ما أشارت إليه صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية مؤخرا عن شاب ينتمي لإحدى دول شمال أفريقيا وطالب لجوء تم القبض عليه بعد أن رصدت تحركاته وتوزيعه منشورات تدعو للانتماء لـ«داعش»، ثم تم تسجيل مكالمة هاتفية له مع شقيقه يخبره فيها أنه يجب معاقبة الكفار بالذبح، ويبدي فرحا بالغا في أعقاب الهجوم الذي نفذه انتحاري مانشستر وأسفر عن مقتل 22 ضحية من بينهم أطفال في حفل غنائي.
لعل أخطاء وخطايا التيارات الأصولية، بمختلف أشكالها وصنوفها وتوجهاتها قد فتحت الباب واسعا أمام الإعلام اليميني الأوروبي والبريطاني والذي أضحى يتناول خطاب التصنيف المانوي الكريه، بين الذين معنا والذين ضدنا، الأخيار والأشرار، وهذا ما جعل وسائل الإعلام البريطانية أو البعض منها مدخلا لزخم التطرف وشعلة لإضرام نيران الإسلاموفوبيا في نفوس جموع المحايدين وتحويلهم إلى معسكر الكارهين، عبر استخدام الصحافة الصفراء، وأصحاب الإذاعات الغوغائية الذين يرون في المسلمين «الأعداء الحقيقيين» داخل البلاد.
على سبيل المثال, لا الحصر وفي أعقاب حادث التفجير الانتحاري الذي شهدته مدنية «مانشستر» الشهر الماضي، قالت الكاتبة الصحافية في «ديلي ميل» البريطانية «كاتي هوبكنز» ما نصه: «أيها الرجال الغربيون، هؤلاء هن زوجاتكم وبناتكم وهؤلاء أولادكم... قفوا وانتفضوا وطالبوا بالتحرك لا تستمروا في حياتكم وكأن شيئا لم يحدث».
ولعل المتابع للصحافة والإعلام الأوروبيين يدرك إلى أي حد ومد تذهب الحوادث الإرهابية بأصحاب الأقلام والميكرفونات مذهبا بعيدا عن العقلانية في التعليق والتحليل، وعادة ما تخرج الصحف بعناوين ومقالات يسمح فيها لكتابها بأن ينفثوا كل ما هو أكثر إثارة واستفزازا، وربما لا يكون الهدف الدفاع عن موقف آيديولوجي أو حمية وحماس وطنيين بقدر ما يكون الهدف هو رفع نسبة التوزيع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الأوروبية المتردية... هل من مثال على ما نقول به؟
خذ إليك عنوان صحيفة «الصن» البريطانية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015 والذي خرج كالتالي «استطلاع صادم... واحد من كل خمسة مسلمين بريطانيين يتعاطفون مع المنظمات الجهادية الإرهابية»... إلى أين يقود مثل هذا الخطاب الإعلامي غير النزيه ولا الموضوعي؟
الجواب نجده عند رافائيلو بانتوتشي الخبير في مكافحة الإرهاب في معهد الخدمات الملكية المشتركة, والذي يرى أن ما تجري به الأقلام على مواقع اليمين المتطرف ووصوله إلى الإعلام العادي والسياسة العامة هو نوع من الخطاب المسموم، والذي سيولد ولا شك ردود فعل متطرفة عند بعض المسلمين، وفي وسط مثل هذه الأجواء المحمومة، يضحى الأمر حلقة جهنمية مفرغة من الكراهية لا تنتهي ولا تتوقف فصولها السيئة.
والشاهد أن الذين تابعوا التغطية الإعلامية لحادثة مسجد منطقة «فينزبري» الأخيرة قد وقر لديهم أن هناك حالة من حالات «الازدواجية الأخلاقية» في التغطية والتمايز كان واضحا جدا، فعندما يقوم أحد المتطرفين من الجانب الإسلامي بعملية ما، لا تسكت أبواق التنديد والعويل، وترتفع الرايات الفاقعة، وتتعالى صيحات الأصوات الزاعقة، وفي الوقت ذاته عندما يذهب متطرف يميني بريطاني إلى دهس مصلين خارجين لتوهم من الصلاة تكون التغطية مغايرة بالمرة في رياء واضح لا تقبله أي نفس لديها كرامة واقعية في التغطية الإعلامية.
صبيحة حادثة «فينزبري» كانت صحيفة «الديلي ميل» البريطانية، ذات التوجهات اليمينية التي لا تخفى على لا أحد تخرج بعنوان أقل ما يوصف بأنه «بارد واستفزازي ولا يعكس حقيقة وكارثية ما جرى»... العنوان يقول: «السائق كان رجلا أبيض حالقا لحيته».
أما صحيفة الـ«ميرور» فبدورها بدت مرائية إلى مدى غير محدود وتخلت عن مهنيتها إذ خرج العنوان وكأنه يوجه اللوم للشاحنة لا للسائق، فجاء العنوان على النحو التالي: «اعتقال رجل وعدد من الإصابات بعد إصابة شاحنة لمشاة كانوا يخرجون من المسجد بعد الصلاة».
ولعل وكالات الأنباء العريقة في الداخل البريطاني قد سقطت في فخ التمييز العنصري، ذلك أنها لم تكف عن التمييز في تناول حادثة دهس المصلين من حيث الكم فقط، بل من حيث المضمون أيضا، ففي الخبرين المنشورين على موقعي وكالة الأنباء العريقة «رويترز»، وكذلك هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» طيلة الساعات العشر التي أعقبت الحادث، لم تشر إلى أنه حادث إرهابي، الأمر الذي جعل الجميع هناك يتساءل أي تغطية مليئة بالتمييز والعنصرية تلك؟
لفترة طويلة اشتهر مسجد «فنزبري بارك» بين مساجد بريطانيا بأنه «مسجد الأصوليين» ولعب فيه «أبو حمزة المصري»، دورا محرضا على التطرف والعنف بين الشباب، قبل أن ينتهي به الأمر بتسليمه للولايات المتحدة بغرض محاكمته من قبل السلطات الأميركية، في اتهامات متعلقة بالإرهاب.
غير أن المسجد وفي السنوات الأخيرة نفض عنه غبار التطرف، وانضوى ضمن شراكة لمنتدى إنساني وفكري ومجتمعي عرف باسم «المنتدى الإيماني لآيزلينغتون» وهو عبارة عن شراكة مجتمعية من المنظمات الدينية التي تعمل معا للمساعدة في تنمية المجتمع المحلي، وذلك في خطوة تحاول التخلص من الإرث السيئ الذي تركه فيه وعليه بعض غلاة المتطرفين.
غير أن ذلك ربما لم يكن كافيا بالنسبة للأصوات المتشددة من اليمين الأوروبي، والتي وضعت المسجد نصب أعينها طوال السنوات الماضية، فواجه اختبارات إنسانية قاسية ففي يونيو (حزيران) 2011 اشتبه في تلقي المسجد رسالة بها جرثومة مرض «الجمرة الخبيثة» القاتل وفي 2010 ألقى بعض الكارهين للمسلمين والإسلام برأس خنزير على بوابة المسجد من الخارج، وفي يونيو 2017 كان الحادث الأخير والشهير.
يستلفت النظر هنا أن الإعلام البريطاني وكما فعلت «الديلي ميل» لم يتوقف عند فداحة المشهد الإرهابي بامتياز، بل حاول استحضار التاريخ السيئ لبعض الأشخاص وكأنه يحاول تبرير ما جرى، فقالت: «10 أصيبوا على الأقل بعد ما قام رجل أبيض في شاحنة صغيرة بدهس مصلين كانوا يخرجون من مسجد قام الشيخ المتسم بالكراهية أبو حمزة بإلقاء خطاب ديني سابقا فيه».
وكالة «رويترز» من جهتها وفي بياناتها الإخبارية عزفت اللحن الإسلاموفوبي عينه قائلة: «إن مسجد فنزبري بارك الذي كان مسرح الحادثة قد اكتسب سمعة سيئة قبل أكثر من عشر سنوات بسبب خطب المتشدد أبو حمزة المصري، في محاولة لتكريس فكرة «الانتقام العادل»، إن جاز التعبير من رواد المسجد، وعليه فقد تساءل كثير من البريطانيين في صدق وموضوعية، أي إعلام هذا وأي مصداقية له وأي دور داعم لأصول الإسلاموفوبيا؟ بل خلص بعضهم إلى أن الدوائر المتطرفة فكريا هناك الآن باتت تصنف المشهد كالتالي: «إذا كان المعتدي مسلما»، فإذن الجاني إرهابي، وإذا كان أسود فهي جريمة، وإذا المعتدي أبيض فالأمر حادث عادي وكأن المشهد مرتبط في التوصيف باللون والدين والعرق.
هل كان دارين أوزبورن سائق الشاحنة التي افتعلت حادثة مسجد فينزبري رمزا لليمين البريطاني المتطرف الذي يتصاعد مداه في سماوات بريطانيا مؤخرا، مخلفا وراءه حالة كارثية من الإسلاموفوبيا القاتلة؟
لعل شهادات الشهود التي حصلت عليها وكالة «برس أسوسييشن» من جيران «أوزبورن» تضعنا أمام مسألة كارثية، فقد وصفه جيرانه من المسلمين بأنه كان أبا طيبا وجارا صديقا، لا يتوانى عن تقديم العون لجيرانه... وعليه فالسؤال مفتاح البحث عن جذور الأزمة... ما الذي دفعه للإقدام على مثل هذا الحادث الإرهابي ولأن يصيح بأعلى صوته مطالبا بقتل المسلمين كافة قبل لحظات من إلقاء القبض عليه، ومطالبا جموع المصلين بأن يقتلوه... لولا حصافة وحكمة إمام المسجد الذي تحول إلى بطل في عيون البريطانيين؟
الجواب لا بد أن يكون لدى الحكومة البريطانية والتي باتت تخصص برنامجا يعرف باسم «القناة»، لرصد ظاهرة التطرف ومتابعة المتطرفين اليمينيين، من جهة، وأصحاب النزعات الإسلاموية والإرهابية المحتملة من جهة ثانية.
في تقرير أخير لها تقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن أرقام المتطرفين اليمينيين المسجلين في برنامج الحكومة الرئيسي لمكافحة الإرهاب قد ارتفعت بنسبة 30 في المائة عن العام الماضي، كما أن ثلث المسجلين في البرنامج الحكومي الوقائي الذي وضعته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عندما كانت وزيرة للداخلية، لمكافحة التطرف، هم من أعضاء أو أنصار تيارات اليمين المتطرف.
هنا ثمة من يحاول ربط سلسلة الهجمات التي تعرضت لها لندن وبقية المدن البريطانية منذ 7 يوليو (تموز) عام 2005 إثر الهجوم الذي استهدف عددا من محطات قطار الأنفاق وحافلة نقل عمومي، وصولا إلى مأساة لندن بريدج الأخيرة، دافعا في ارتفاع درجات التطرف اليميني في الداخل البريطاني الذي عرف طوال مئات الأعوام بالسلم والاستقرار الأهليين؟
نؤكد أننا إن قلنا إن تلك الهجومات هي السبب المطلق فنحن نرتكب خطأ فادحا، فهناك عوامل وعناصر أخرى لعبت بشكل من الأشكال دورا في ظهور القوميات، وصحوة الشعبويات، غير أن هذا لا ينفي أن إرهاب الجماعات المعروفة بأصوليتها، وعمليات الذئاب المنفردة والمعتنقة لآيديولوجيات العنف والإرهاب، أذكى للأسف شهوة الإسلاموفوبيا وتحديدا في نفوس التيارات اليمينية البريطانية، وبخاصة في ظل شح المعلومات عن هؤلاء، وكونهم في بعض الأوقات أقرب إلى الأشباح، ما يجعل من أي مسلم وكل مسلم في الداخل البريطاني إرهابيا أو مشروع إرهابي في نظر أصحاب النزعات اليمينية، ومن هنا تستمر دائرة العنف المفرغ ما بين شكوك تولد إرهاب، وإرهاب يولد كراهية.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.