ماكرون... والتفويض التاريخي

إثر انتصاريه في انتخابات فرنسا الرئاسية والبرلمانية

ماكرون... والتفويض التاريخي
TT

ماكرون... والتفويض التاريخي

ماكرون... والتفويض التاريخي

في 27 من الشهر الحالي يجتمع مجلس النواب الفرنسي الجديد للمرة الأولى منذ انتهاء الانتخابات التشريعية (18 يونيو/ حزيران) التي حملت إلى الندوة البرلمانية جيلاً جديداً من النواب والنائبات على صورة رئيس الجمهورية الشاب إيمانويل ماكرون (39 سنة) ومثاله. 75 في المائة من نواب الندوة البرلمانية الجديدة يتخطون عتبة قاعة «الجمعية الوطنية» للمرة الأولى. إنهم يمثلون فرنسا وليس طبقة سياسية منغلقة على نفسها. وجوه جديدة غالبيتهم من المجتمع المدني الذين لم يسبق أن عملوا في حقل السياسة سابقاً ولم يسبق لهم أن شاركوا في انتخابات محلية، ولا مستوى الإقليم أو المناطق.
هكذا أرادهم ماكرون الذي دأب على القول منذ أن أعلن تأسيس حركته السياسية «إلى الأمام»، التي تحولت لاحقاً إلى حزب سياسي «الجمهورية إلى الأمام»، أنه يريد ضخ دماء جديدة إلى المشهد السياسي الفرنسي، ويريد كذلك تخطي الانقسامات التقليدية بين اليمين واليسار.
في شهر أبريل (نيسان) من العام الماضي. وحينذاك لم يكن أحد مستعداً للمراهنة يورو واحد على حظوظ إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد الشاب، في أن يكون يوماً الرئيس الثامن للجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958 وفصل مؤسساتها على مقاسه.
وفي شهر أغسطس (آب) استقال ماكرون من الحكومة ليعلن بعدها سريعاً عن ترشحه لخوض المنافسة الرئاسية.
كان مرشحاً من نوع جديد: ذلك أنه لا يستند إلى حزب تاريخي ولا ماكينة انتخابية وراءه توفّر له التنظيم والتأطير والتمويل. ورغم ذلك، في 11 مايو (أيار)، فاز ماكرون بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية متغلباً على مارين لوبان، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» ومرشحة اليمين المتطرف، التي تأهلت كما والدها جان ماري لوبان في العام 1992 للجولة الثانية. غير أن «السقف الزجاجي» ما زال يحول دون أن يخطف اليمين المتطرف الرئاسة رغم التقدم الكبير الذي حققته آيديولوجيته في المجتمع الفرنسي.
في الجولة الحاسمة من الانتخابات الرئاسية حصلت مارين لوبان على 34 في المائة من الأصوات وعلى عشرة ملايين صوت. وفي الطريق إلى قصر الإليزيه الرئاسي، تخلّص ماكرون من رئيس الحكومة السابق فرنسوا فيّون مرشح اليمني المعتدل وحزب «الجمهوريون»، ومن بونوا هامون مرشح الحزب الاشتراكي، ناهيك عن مرشح اليسار المتشدد جان لوك ميلونشون.
الأول خرج من المنافسة منذ الدورة الأولى وهو أمر لم يعرفه اليمين الفرنسي في تاريخه الحديث. والثاني فشل في الوصول إلى عتبة الـ10 في المائة من الأصوات مع أن الاشتراكيين كانوا يحكمون فرنسا منذ خمس سنوات وكانوا يمسكون بكل مفاصل السلطة فيها باستثناء مجلس الشيوخ. أما الثالث، ورغم حملته الانتخابية الناجحة وبراعته الخطابية وقدرته على مخاطبة جيل الشباب، فإن حلمه في التأهل للجولة الثانية تبخّر يوم الامتحان.

مطلوب غالبية برلمانية
لم يكن الفوز بالرئاسة كافياً للرئيس الجديد، بل كان بحاجة إلى أكثرية نيابية يعتمد عليها لوضع برنامجه الانتخابي موضع التنفيذ. والحال أن المراهنين الذين كانوا يعتبرون أن إيمانويل ماكرون غير قادر على ضمان هذه الغالبية كثر. وكانت حجتهم الأبرز أن الانتخابات النيابية غير الرئاسية. فالأولى هي قصة علاقة بين المرشح والشعب بينما الثانية تعتمد على علاقة النائب أو المرشح بدائرته وبالخدمات التي يقدمها. كذلك ذهب البعض إلى اعتبار أن حركة «إلى الأمام» التي أصبحت حزبا قبل أيام قليلة من جولة الانتخابات النيابية الأولى ستعجز عن توفير عدد كافٍ من المرشحين في الدوائر النيابية الـ577، وأنها ستكون مضطرة لترشيح «مجهولين» سيتنافسون مع نواب لهم تجذّرهم العميق في مناطقهم.
أما الرأي الآخر فكان يدافع عن تحلي الفرنسيين بـ«المنطق». إذ إن مَن انتخب ماكرون وأوصله إلى أعلى منصب في الدولة من «المنطقي» أن يوفر له الأدوات التشريعية التي يحتاجها ليحكم فرنسا.
وشيئاً فشيئاً، تغير المزاج الانتخابي، خصوصاً، بعد الجولة الأولى التي وضعت «الجمهورية إلى الأمام» في المقدمة. وبعدما كان اليمين المعتدل بصوت رئيس حملته الانتخابية عضو مجلس الشيوخ فرنسوا باروان يدّعي أن «الجمهوريون» قادرون على الفوز بالأكثرية، وفي هذه الحالة فإنه يطالب بأن يكون هو شخصياً رئيس الحكومة القادمة، حصلت انعطافة حادة في الخطاب السياسي، بعدما أخذت استطلاعات الرأي تبيّن أن حزب ماكرون - متحالفاً مع حزب «الحركة الديمقراطية» (يمين الوسط) - يمكن أن يحصل على ما يزيد على 430 مقعداً في البرلمان الجديد، أو حتى على أربعة أخماس المقاعد. وعندها، أخذ المعارضون يحذرون من فوز «الحزب الواحد» ومخاطر ذلك على الحياة السياسية والديمقراطية وتهميش البرلمان وسحق الأحزاب الأخرى وتحويل فرنسا إلى جمهورية على مثال الجمهوريات الاشتراكية السابقة.

صدمة الانتصار
صدمة جديدة حلت على كل الساعين لوقف زحف ماكرون على الجمعية الوطنية. وجاءت نتائج الجولة الثانية لتؤكد مخاوفهم، ليس لأن ماكرون حصل على ما كانت تتوقعه معاهد استطلاع الرأي، بل لأن حزبه حصل بمفرده على أكثرية مريحة في البرلمان إذ إنه حصد 308 مقاعد بينما الأكثرية المطلقة هي 289 مقعداً. ومن ثم، إذا ما أضيفت إليه أصوات حليفه حزب «الحركة الديمقراطية» ومقاعده الـ42، فإن ذلك يؤمّن لماكرون قاعدة عريضة من 350 نائباً ستكون قادرة على تمرير كل مشاريع القوانين التي يرتئيها القصر والحكومة.
وفي المقابل، فإن حزب «الجمهوريون» وحلفاءهم حصلوا على 130 مقعدا (مقابل 201 مقعد في البرلمان السابق) وفاز الاشتراكيون وحلفاؤهم بـ40 دائرة فقط بينما كانت لهم الأكثرية في البرلمان السابق. أما مارين لوبان مع أصواتها العشرة ملايين، فقد نجحت هي شخصياً في الوصول إلى الندوة البرلمانية وفي إيصال سبعة آخرين وهي نتيجة تعد بالغة السوء رغم أن عدد نواب «الجبهة الوطنية» ارتفع من اثنين إلى ثمانية. والمآخذ على لوبان أنها أدارت بشكل سيئ حملتها الرئاسية، وأنها نيابياً لم تصل إلى العدد 15 الذي يتيح بها ولحزبها تشكيل مجموعة نيابية مستقلة في البرلمان. وبعكس ذلك، فإن حركة «فرنسا المتمردة» بزعامة ميلونشون اجتازت هذا الاختبار... لكنها أخفقت في إقناع النواب الشيوعيين وبقية اليسار، لأسباب تتعلق بتضخم «الأنا»، في الانضمام إليها لتكوين قوة مؤثرة تحت قبة البرلمان.

إنجاز تاريخي
هكذا، ما بين أبريل 2016 وحتى يونيو 2017، حقق إيمانويل ماكرون ما لم يحققه أي سياسي سابق، ربما منذ الإمبراطور نابليون الأول في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن الذي يليه... أي رئيس منتخب بنسبة عالية وأكثرية برلمانية مطواعة.
غير أن النقطة السوداء في هذا المشهد السعيد، كانت - بلا شك - ارتفاع نسبة مقاطعة الانتخابات التشريعية، حيث وصلت النسبة إلى نحو 58 في المائة وهي الأعلى منذ العام 1945. وثمة أسباب لذلك اتفق عليها المحللون: أولها «التخمة» الانتخابية التي عانى منها الفرنسيون في الأشهر الثمانية الأخير، إذ أجريت جولتان لانتخابات اليمين التمهيدية للرئاسيات (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) وكذلك جولتان للحزب لليسار الاشتراكي (يناير/ كانون الثاني 2017). ثم جاءت الانتخابات الرئاسية من جولتين (نهاية أبريل وبداية مايو) أعقبتها يومي 11 و18 يونيو الانتخابات التشريعية.
والشعور الذي طغى على الناخبين الفرنسيين هو «الملل» من تكرار الذهاب إلى مراكز الاقتراع. ولعل ما رفع من نسبة الامتناع عن المشاركة في الانتخابات - وهي طوعية في فرنسا بعكس ما هو حاصل مثلاً في اليونان أو في بلجيكا - أن الناخبين اعتبروا، بعد الجولة الأولى، أن الأمور «محسومة سلفاً» بعد الذي رأوه من استطلاعات الرأي.
لكن ثمة سبباً آخر لعله الأعمق، ومفاده أن «المعروض» السياسي لم يعد يتلاءم مع رغباتهم وتطلعاتهم السياسية. ولكن ضعف المشاركة لا يعني أبداً التشكيك بشرعية النتائج وقانونيتها رغم سعي بعض اليمين واليسار الاشتراكي والمتشدد - أي الذين سيكونون في المعارضة - إلى تفسير المقاطعة على أنها «تحذير» للرئيس الجديد وتهدف لإفهامه أنه «لا يملك شيكاً على بياض» أو تفويضاً مطلقاً ليسير بما يريده من السياسات.

حصة «الجنس اللطيف»
في اليوم التالي للجولة الانتخابية الثانية، بدأ النواب الجدد في التوافد على مقر البرلمان الواقع على ضفة نهر السين اليسرى مقابل ساحة الكونكورد ومسلّتها المصرية. وبدا على الكثيرين اندهاشهم لا بل تعجبهم من وجودهم في هذا المكان، إذ لم يتحققوا بعد من معنى كونهم نواب الأمة ومشرعيها. وحقاً، تدل الإحصائيات على أن 75 في المائة من النواب الحاليين هم من الجدد، وأن عدد النائبات ارتفع من 155 نائبة وفق انتخابات عام 2012 إلى 223 نائبة في الدورة الحالية.
ولعل ما يفسّر هذا الارتفاع الكبير أن 47 في المائة من مرشحي الحزب الرئاسي من النساء، ما يعطي المجلس الجديد بعضاً من ملامح الجنس اللطيف. ويذكر أن ماكرون كان قد التزم في حملته الانتخابية على العمل على تجديد الطبقة السياسية وتأنيثها، وقد نجح في ذلك إلى حد يفوق التوقعات. ولعل أبرز إنجاز له في التساوي بين الجنسين أن حكومته الجديدة التي تضم 30 نائباً منقسمة بالتساوي بين الرجال والنساء لا بل إن حصة النساء ليست الحقائب الثانوية، إذ عهد بوزارات الدفاع والعدل والصحة والعمل... ووزارات أساسية أخرى إلى نساء. وكان حلم ماكرون أن يعين امرأة رئيسة للحكومة لكن الحاجة للمحافظة على التوازنات السياسية الداخلية حالت دون ذلك. كذلك في الحكومة الثانية التي يرأسها النائب اليميني السابق إدوار فيليب تضم عناصر شابة كثيرة، خصوصاً كثيراً من الخبراء، الأمر الذي يقرّبها من اعتبارها «حكومة تكنوقراط» باستثناء بعض الوزراء السياسيين مثل وزير الخارجية جان إيف لو دريان ووزير الداخلية جيرار كولومب.

«مناطق الظل»
في قصة العهد القصيرة (أقل من شهرين) كثير من النجاحات، ولكن أيضاً بعض «مناطق الظل». ولعل أكثرها إزعاجاً للعهد تلك التي دارت حول فضائح فساد ارتبطت بها أسماء بعض النواب والوزراء. ووجه الإزعاج فيها أنها تسيء لما يريد ماكرون أن يحفره في نفوس مواطنيه، وهو أن عهده جديد بطاقم سياسي جديد وبممارسات جديدة.
والحال أن فضيحة أصابت ريشار فران، أحد أقرب المقرّبين إليه وهو أمين عام حزب «الجمهورية إلى الأمام» ووزير التخطيط المدني. وقصته أن اسمه ارتبط بصفقات عقارية عندما كان مديراً لمجموعة من شركات التأمين غرب فرنسا قبل تحوّله إلى نائب. ثم ظهرت فضيحة أخرى أصابت وزراء حليفه حزب «الحركة الديمقراطية» التي يرأسها فرنسوا بايرو. وكان ماكرون قد عين بايرو وزيراً للعدل، وكانت أولى مهامّه تقديم مشروع قانون لإرساء الشفافية والمناقبية في العمل السياسي. كذلك أصابت الفضيحة وزيرة الدفاع سيلفي غولارد وهي امرأة مشهود لها بالكفاءة المهنية، ووزيرة الشؤون الأوروبية مارييل دو سارنيز وهي أقرب المساعدين لبايرو.
كاد اندلاع هذه الفضائح التي تشبه ما أصاب مرشح اليمين فرنسوا فيّون وأعاقه في حملته الرئاسية، وأخيراً أطاح به وبحزبه، أن يدخل العهد الجديد في دوامة. وبالتالي، كان على ماكرون أن يتصرف سريعاً، وأن يختار بين حلين أحلاهما مرّ: إما أن يُبقي على هؤلاء الوزراء في مناصبهم، ومن ثم يخسر كل ما جناه من سمعة ومن رغبة في التحديث والتجديد. أو أن يتخلّى عنهم وعندها سينظر إليه على أنه «قليل الوفاء» في السياسة، لأن الوزير فران كان أول نائب اشتراكي ترك حزبه لينضم إليه ويساعده في تنظيم حركته السياسية. كذلك أسهم فران في جانب كبير من العمل الذي أوصل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية. أما فيما يخصّ بايرو، فإنه ليس رجل سياسة عادياً. فهو من جهة، تخلى عن الترشح للرئاسة واصطف وراء ماكرون في لحظة كانت حملة الأخير تعاني من كثير من الصعوبات. ومن جهة أخرى، حماه سياسياً بجناحيه لأن خطة ماكرون في تخطّي اليمين واليسار والمراهنة على تيار وسطي هي في الأساس صلب تموضعه السياسي.
في أي حال، يُقال عن ماكرون إنه من دعاة الفعالية وسرعة الحسم وليس من طينة الرئيس السابق فرنسوا هولاند، الذي كان يناور ويجادل، ثم يمتنع عن اتخاذ القرار الحاسم. ولذا، فإن الرئيس الشاب استفاد من فرصة ما يأمر به الدستور، وهي استقالة الحكومة عقب الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة ليخرج من مأزقه: فمن جهة، دفع بصديقه ريشار فران للخروج «طوعاً» من الحكومة، وقدّم له رئاسة المجموعة البرلمانية التي تحتاج لـ«مرشد» لها بسبب انعدام الخبرة لأكثريتها الساحقة. وظهر ذلك على أنه «ترقية» له. كذلك حصل بالنسبة لمارييل دو سارنيز التي ستصبح رئيسة مجموعة النواب «الديمقراطيين» في الجمعية الوطنية. أما بايرو، وبعد تردد، فقد حسم أمره وقرر ترك مقعده الوزاري من أجل «حماية العهد» معيداً التأكيد على براءته وبراءة حزبه من أي اتهامات باستخدام أموال الاتحاد الأوروبي لدفع رواتب موظفين يعملون لصالح الحزب، وهي بالمناسبة، التهمة الموجهة أيضاً لمارين لوبان وحزبها. وكانت وزيرة الدفاع السابقة سيلفي غولارد السبّاقة في إعلان تخليها عن منصبها من أجل «استعادة حريتها» و«الدفاع عن شرفها».

«تفجير» الحزبين الكبيرين
كُتِب الكثير عن رغبة ماكرون الأساسية في «تفجير» الحزب الاشتراكي وحزب «الجمهوريون». وحقيقة الأمر أنه نجح في ذلك إلى حد بعيد. فالاشتراكيون تقلّص حضورهم السياسي والحزبي والانتخابي، وانقساماتهم وصراعاتهم تحفل بها صفحات الجرائد بين تيارين: تيار أبدى رغبة في مساعدة ماكرون، وكثيرون التحقوا به بمن فيهم رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، وآخرين يريدون التزام موقف المعارضة الجذرية وهم الجناح اليساري للحزب. لكن هؤلاء محشورون بين يمينهم وحركة «فرنسا المتمردة» التي يقودها جان لوك ميلونشون.
أما حزب «الجمهوريون» فهو في طور تصفية حساباته. ولعل أبلغ صورة تدل على عمق أزمتهم أن فريقاً من نوابهم انشق عن المجموعة الرسمية ليشكل مع نواب آخرين مجموعة منافسة تريد مساندة ماكرون، وأبدت استعدادها للتصويت مع الحكومة والعهد عندما يكون ذلك للصالح العام.
اليوم، يستطيع ماكرون القول إنه حقق الجزء الأول من خطته: الوصول إلى السلطة وتأمين الأكثرية وتشكيل حكومة مطواعة. لكن يبقى أمامه الكثير، ولعله الأساسي، وهو أن تنجح حكومته في تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية هي المعيار الوحيد للنجاح والضمانة الأكيدة لاستمرار ماكرون في السلطة ليس فقط في هذه الولاية، وإنما لولاية ثانية سعى إليها جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة في فرنسا. والأمر الآخر يتمثل في منهج العمل الذي يريد ماكرون أن يسير عليه، ولا سيما، فيما يتعلق بقانون العمل. وكان سبق له أن أعلن أنه يريد إصلاحه بمراسيم أي من غير المرور في الندوة البرلمانية. إلا أن هذا النهج تحيق به الكثير من المخاطر، والخطر الأساسي أن ينتقل الجدل من الندوة البرلمانية إلى الشارع. وسبق للرئيس هولاند أن جرب إصلاح القانون نفسه من غير الذهاب إلى الحد الذي يريد ماكرون الذهاب إليه، وكانت النتيجة أسابيع من الإضرابات والمظاهرات التي عمّت فرنسا... وفي ذلك ما يمكن اعتباره «تحذيرا» للرئيس الشاب من مغامرة غير محسوبة النتائج.



نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا
TT

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فيما حصل أقرب منافسيها باندوليني إيتولا على 26 في المائة فقط من الأصوات. شكَّل فوز نيتومبو الملقبة بـ«NNN»، حلقةً جديدةً في حياة مليئة بالأحداث، عاشتها المرأة التي ناضلت ضد الاحتلال، واختبرت السجن والنفي في طفولتها، قبل أن تعود لتثبت نفسها بصفتها واحدة من أبرز النساء في السياسة الناميبية وقيادية فاعلة في الحزب الحاكم «سوابو».

في أول مؤتمر صحافي لها، بعد أسبوع من إعلان فوزها بالانتخابات الرئاسية، تعهدت نيتومبو، التي ستتولى منصبها رسمياً في مارس (آذار) المقبل، بإجراء «تحولات جذرية» لإصلاح مستويات الفقر والبطالة المرتفعة في ناميبيا، الدولة الواقعة في الجنوب الأفريقي، والتي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة.

نيتومبو أشارت إلى أنها قد تنحو منحى مختلفاً بعض الشيء عن أسلافها في حزب «سوابو» الذي يحكم ناميبيا منذ استقلالها عن جنوب أفريقيا في عام 1990. وقالت نيتومبو: «لن يكون الأمر كالمعتاد، يجب أن نُجري تحولات جذرية من أجل شعبنا».

لم توضح نيتومبو طبيعة هذه التحولات الجذرية التي تعتزم تنفيذها، وإن أشارت إلى «إصلاح الأراضي، وتوزيع أكثر عدالة للثروة». وبينما يصنف البنك الدولي ناميبيا على أنها دولة ذات «دخل متوسط»، فإنها تعد واحدة من أكثر الدول التي تعاني من عدم المساواة في توزيع الدخل على مستوى العالم، مع ارتفاع مستويات الفقر التي ترجع جزئياً إلى إرث عقود الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء.

ووفق تقرير رسمي من البنك الدولي صدر عام 2021 فإن «43 في المائة من سكان ناميبيا يعيشون فقراً متعدد الأبعاد». وهو مؤشر يأخذ في الاعتبار عوامل عدة إلى جانب الدخل، من بينها الوصول إلى التعليم والخدمات العامة.

ولأن طريق نيتومبو السياسي لم يكن أبداً ممهداً، لم يمر إعلان فوزها بالانتخابات دون انتقادات. وقالت أحزاب المعارضة إنها ستطعن على نتيجة الانتخابات الرئاسية، متحدثةً عن «صعوبات فنية وقمع ضد الناخبين». لكنَّ نيتومبو، المعروفة بين أقرانها بـ«القوة والحزم»، تجاهلت هذه الادعاءات، واحتفلت بالفوز مع أعضاء حزبها، وقالت: «أنا لا أستمع إلى هؤلاء المنتقدين».

نشأة سياسية مبكرة

وُلدت نيتومبو في 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952 في قرية أوناموتاي، شمال ناميبيا، وهي التاسعة بين 13 طفلاً، وكان والدها رجل دين ينتمي إلى الطائفة الأنغليكانية. وفي طفولتها التحقت نيتومبو بمدرسة «القديسة مريم» في أوديبو. ووفق موقع الحزب الحاكم «سوابو» فإن «نيتومبو مسيحية مخلصة»، تؤمن بشعار «قلب واحد وعقل واحد».

في ذلك الوقت، كانت ناميبيا تعرف باسم جنوب غرب أفريقيا، وكان شعبها تحت الاحتلال من دولة «جنوب أفريقيا»، مما دفع نيتومبو إلى الانخراط في العمل السياسي، والانضمام إلى «سوابو» التي كانت آنذاك حركة تحرير تناضل ضد سيطرة الأقلية البيضاء، لتبدأ رحلتها السياسية وهي في الرابعة عشرة من عمرها.

في تلك السن الصغيرة، أصبحت نيتومبو ناشطة سياسية، وقائدة لرابطة الشباب في «سوابو»، وهو ما أهّلها فيما بعد لتولي مناصب سياسية وقيادية، لكنها تقول إنها آنذاك «كانت مهتمة فقط بتحرير بلدها من الاحتلال»، مشيرةً في حوار مصوَّر نُشر عبر صفحتها على «فيسبوك» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن «السياسة جاءت فقط بسبب الظروف، التي لو اختلفت ربما كنت أصبحت عالمة».

شاركت نيتومبو في حملة «ضد الجَلْد العلنيّ»، الذي كان شائعاً في ظل نظام الفصل العنصري، وكان نشاطها السياسي سبباً في إلقاء القبض عليها واحتجازها، عدة أشهر عام 1973، وهي ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية. ونتيجة ما تعرضت له من قمع واضطهاد، فرَّت نيتومبو إلى المنفى عام 1974، وانضمت إلى أعضاء «سوابو» الآخرين هناك، واستكملت نضالها ضد الاحتلال من زامبيا وتنزانيا، قبل أن تنتقل إلى المملكة المتحدة لاستكمال دراستها.

تدرجت نيتومبو في مناصب عدة داخل «سوابو»، فكانت عضواً في اللجنة المركزية للحركة من عام 1976 إلى عام 1986، والممثلة الرئيسية للحركة في لوساكا من عام 1978 إلى عام 1980. والممثلة الرئيسية لشرق أفريقيا، ومقرها في دار السلام من عام 1980 إلى عام 1986.

درست نيتومبو في كلية غلاسكو للتكنولوجيا، وحصلت على دبلوم في الإدارة العامة والتنمية عام 1987، ودبلوم العلاقات الدولية عام 1988، ودرجة الماجستير في الدراسات الدبلوماسية عام 1989 من جامعة كيل في المملكة المتحدة، كما حصلت على دبلوم في عمل وممارسة رابطة الشبيبة الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي، من مدرسة «لينين كومسومول العليا» في موسكو.

ونالت الكثير من الأوسمة، من بينها وسام النسر الناميبي، ووسام «فرانسيسكو دي ميراندا بريميرا كلاس» من فنزويلا، والدكتوراه الفخرية من جامعة دار السلام بتنزانيا.

تزوجت نيتومبو عام 1983 من إيبافراس دينجا ندايتواه، وكان آنذاك شخصية بارزة في الجناح المسلح لجيش التحرير الشعبي في ناميبيا التابع لـ«سوابو»، وتولى عام 2011 منصب قائد قوات الدفاع الناميبية، وظل في المنصب حتى تقاعده في عام 2013، ولديها ثلاثة أبناء.

العودة بعد الاستقلال

بعد 14 عاماً من فرار نيتومبو إلى المنفى، وتحديداً في عام 1988، وافقت جنوب أفريقيا على استقلال ناميبيا، لتعود نيتومبو إلى وطنها، عضوة في حزب «سوابو» الذي يدير البلاد منذ الاستقلال.

تدرجت نيتومبو في المناصب وشغلت أدواراً وزارية عدة، في الشؤون الخارجية والسياحة ورعاية الطفل والمعلومات. وعُرفت بدفاعها عن حقوق المرأة.

وعام 2002 دفعت بقانون عن العنف المنزلي إلى «الجمعية الوطنية»، وهو القانون الذي يعد أحد أبرز إنجازاتها، حيث دافعت عنه بشدة ضد انتقادات زملائها، ونقلت عنها وسائل إعلام ناميبية في تلك الفترة تأكيدها أن الدستور يُدين التمييز على أساس الجنس.

وواصلت صعودها السياسي، وفي فبراير (شباط) من العام الماضي، أصبحت نائبة رئيس ناميبيا. كانت أول امرأة تشغل مقعد نائب رئيس حزب «سوابو» بعدما انتخبها مؤتمر الحزب في عام 2017 وأعيد انتخابها في مؤتمر الحزب نوفمبر 2022، مما أهَّلها لتكون مرشحة الحزب للرئاسة عام 2024، خلفاً للرئيس الحاج جينجوب، الذي توفي خلال العام الماضي، وتولى رئاسة البلاد مؤقتاً نانجولو مبومبا.

صعوبات وتحديات

لم تكن مسيرة نيتومبو السياسية مفروشة بالورود، إذ اتُّهمت في فترة من الفترات بدعم فصيل منشق في حزب «سوابو» كان يسعى لخلافة سام نجوما أول رئيس لناميبيا بعد الاستقلال، لكنها سرعان ما تجاوزت الأزمة بدعم من هيفيكيبوني بوهامبا، خليفة نجوما.

يصفها أقرانها بأنها قادرة على التعامل مع المواقف الصعبة بطريقة غير صدامية. خلال حياتها السياسية التي امتدّت لأكثر من نصف قرن أظهرت نيتومبو أسلوباً عملياً متواضعاً في القيادة، ولم تتورط -حسب مراقبين- في فضائح فساد، مما يمنحها مصداقية في معالجة مثل هذه الأمور، لكنَّ انتماءها منذ الطفولة إلى «سوابو»، وعملها لسنوات من خلاله، لا ينبئ بتغييرات سياسية حادة في إدارة البلاد، وإن تعهَّدت نيتومبو بذلك.

ويرى مراقبون أنها «لن تبتعد كثيراً عن طريق الحزب، ولن يشكل وجودها على سدة الحكم دعماً أكبر للمرأة». وأشاروا إلى أن نيتومبو التي كانت رئيسة المنظمة الوطنية الناميبية للمرأة (1991-1994)، والمقررة العامة للمؤتمر العالمي الرابع المعنيّ بالمرأة في عام 1995 في بكين، ووزيرة شؤون المرأة ورعاية الطفل 2000-2005، «لا يمكن وصفها بأنها نسوية، وإن دافعت عن بعض حقوق النساء».

خلال الانتخابات قدمت نيتومبو نفسها بوصفها «صوتاً حازماً يتمحور حول الناس، وزعيمة سياسية وطنية، مخلصة للوحدة الأفريقية، مناصرةً لحقوق المرأة والطفل والسلام والأمن والبيئة»، وتبنت خطاباً يضع الأوضاع المعيشية في قمة الأولويات، متعهدةً بـ«خلق 250 ألف فرصة عمل خلال السنوات الخمس المقبلة» ليتصدر هذا التعهد وسائل الإعلام الناميبية، لكن أحداً لا يعرف إن كانت ستنجح في تنفيذ تعهدها أم لا.

تبدأ نيتومبو فترة حكمها بصراعات سياسية مع أحزاب المعارضة التي انتقدت نتيجة الانتخابات التي جعلتها رئيسة لناميبيا، تزامناً مع استمرار تراجع شعبية الحزب الحاكم. وفي الوقت نفسه تواجه نيتومبو عقبات داخلية في ظل ظروف اقتصادية صعبة يعيشها نحو نصف السكان، مما يجعل مراقبون يرون أنها أمام «مهمة ليست بالسهلة، وأن عليها الاستعداد للعواصف».

ويندهوك عاصمة ناميبيا (أدوب ستوك)

حقائق

ناميبيا بلد الماس... و43% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر

في أقصى جنوب غربي القارة الأفريقية تقع دولة ناميبيا التي تمتلك ثروات معدنية كبيرة، بينما يعيش ما يقرب من نصف سكانها فقراً متعدد الأبعاد.ورغم مساحة ناميبيا الشاسعة، فإن عدد سكانها لا يتجاوز 3 ملايين نسمة؛ ما يجعلها من أقل البلدان كثافة سكانية في أفريقيا، كما أن بيئتها القاسية والقاحلة تصعّب المعيشة فيها. ومن الجدير بالذكر أن البلاد هي موطن صحراء كالاهاري وناميب.وفقاً لموقع حكومة ناميبيا، فإن تاريخ البلاد محفور في لوحات صخرية في الجنوب، «يعود بعضها إلى 26000 عام قبل الميلاد»، حيث استوطنت مجموعات عرقية مختلفة، بينها «سان يوشمن»، و«البانتو» وأخيراً قبائل «الهيمبا» و«هيريرو» و«ناما»، أرض ناميبيا الوعرة منذ آلاف السنين.ولأن ناميبيا كانت من أكثر السواحل القاحلة في أفريقيا؛ لم يبدأ المستكشفون وصيادو العاج والمنقبون والمبشرون بالقدوم إليها؛ إلا في منتصف القرن التاسع عشر، لتظل البلاد بمنأى عن اهتمام القوى الأوروبية إلى حدٍ كبير حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما استعمرتها ألمانيا، بحسب موقع الحكومة الناميبية.سيطرت ألمانيا على المنطقة التي أطلقت عليها اسم جنوب غربي أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، وأدى اكتشاف الماس في عام 1908 إلى تدفق الأوروبيين إلى البلاد، وتعدّ ناميبيا واحدة من أكبر 10 دول منتجة للماس الخام في العالم، وتنتج وفق التقديرات الدولية نحو مليونَي قيراط سنوياً.شاب فترة الاستعمار صراعات عدة، وتمرد من السكان ضد المستعمر، تسبَّبا في موت عدد كبير، لا سيما مع إنشاء ألمانيا معسكرات اعتقال للسكان الأصليين، وعام 1994 اعتذرت الحكومة الألمانية عن «الإبادة الجماعية» خلال فترة الاستعمار.ظلت ألمانيا تسيطر على ناميبيا، التي كانت تسمى وقتها «جنوب غربي أفريقيا» حتى الحرب العالمية الأولى، التي انتهت باستسلام ألمانيا، لتنتقل ناميبيا إلى تبعية جنوب أفريقيا، فيما تعتبره الدولة «مقايضة تجربة استعمارية بأخرى»، وفق موقع الحكومة الناميبية.في عام 1966، شنَّت المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا (سوابو)، حرب تحرير، وناضلت من أجل الاستقلال، حتى وافقت جنوب أفريقيا في عام 1988 على إنهاء إدارة الفصل العنصري. وبعد إجراء الانتخابات الديمقراطية في عام 1989، أصبحت ناميبيا دولة مستقلة في 21 مارس (آذار) 1990، وأصبح سام نجوما أول رئيس للبلاد التي ما زال يحكمها حزب «سوابو». وشجعت المصالحة بين الأعراق السكان البيض في البلاد على البقاء، وما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في الزراعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى.وتعد ناميبيا دولة ذات كثافة سكانية منخفضة، حيث يعيش على مساحتها البالغة 824 ألف متر مربع، نحو ثلاثة ملايين نسمة. ويشير البنك الدولي، في تقرير نشره عام 2021، إلى أن ناميبيا «دولة ذات دخل متوسط»، لكنها تحتل المركز الثالث بين دول العالم من حيث عدم المساواة في توزيع الدخل، حيث يمتلك 6 في المائة فقط من السكان نحو 70 في المائة من الأملاك في البلاد، وتعيش نسبة 43 في المائة من سكان ناميبيا في «فقر متعدد الأبعاد». وتدير ثروات البلاد الطبيعية من الماس والمعادن شركات أجنبية.وتمتلك ناميبيا ثروة برية كبيرة، لكنها تعاني بين الحين والآخر موجات جفاف، كان آخرها الصيف الماضي، ما اضطرّ الحكومة إلى ذبح أكثر من 700 حيوان بري من أجناس مختلفة، بينها أفراس نهر، وفيلة، وجواميس وحمير وحشية، وهو إجراء ووجه بانتقادات من جانب جمعيات البيئة والرفق بالحيوان، لكن حكومة ناميبيا دافعت عن سياستها، مؤكدة أنها تستهدف «إطعام السكان الذين يعانون الجوع جراء أسوأ موجة جفاف تضرب البلاد منذ عقود».ووفق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة منتصف العام الحالي، فإن «نحو 1.4 مليون ناميبي، أي أكثر من نصف السكان، يعانون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، مع انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 53 في المائة ومستويات مياه السدود بنسبة 70 في المائة مقارنة بالعام الماضي».