الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

الأكاديمي والوزير اللبناني السابق يخلف مارتن كوبلر

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة
TT

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

أقر مجلس الأمن الدولي أخيراً تعيين الأكاديمي والدبلوماسي والوزير اللبناني السابق الدكتور غسان سلامة مبعوثاً جديداً لمنظمة الأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفاً للمبعوث السابق مارتن كوبلر، الذي كان ممثلا للأمم المتحدة في ليبيا منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. ويذكر أن موضوع خلافة كوبلر، الدبلوماسي الألماني، كان محل أخذ ورد منذ بعض الوقت، ففي شهر فبراير (شباط) رشح أمين عام المنظمة أنطونيو غوتيريش رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فياض للمنصب. إلا أن الولايات المتحدة رفضت ترشيح فياض، واتهمت نيكي هايلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة عبر ترشيحه بمحاباة المنظمة السلطة الفلسطينية على حساب إسرائيل. جدير بالذكر، أن تعيين أي مبعوث دولي خاص للمنظمة لابد أن يحظى بتأييد إجماعي في مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه. وبعد الرفض الأميركي اعترضت روسيا، وكما اعترض أعضاء آخرون على مرشح بريطاني وآخر أميركي، ومن ثم، مدّدت فترة كوبلر في المنصب حتى نهاية يونيو (حزيران) الحالي.
وقبل أيام، وقع اختيار غوتيريش على سلامة، الذي سبق له أن كلف بمهمة دولية في العراق، وحصل الترشيح هذه المرة على الموافقة الإجماعية لمجلس الأمن.
يعد الدكتور غسان سلامة، الذي أسندت مهمة قيادة الجهود الدولية لتسوية الأزمة الليبية، من أبرز المثقفين والمفكرين والباحثين السياسيين في لبنان والعالم العربي. وهو حالياً يقيم في العاصمة الفرنسية باريس ويعمل أستاذا في المعهد العالي للعلوم السياسية – الشهير باسم «سيانس بو» - وهو من أعرق وأشهر الجامعات المتخصصة في حقل العلوم السياسية في العالم. ويتمتع بعلاقات طيبة مع أطراف أكاديمية وسياسية وثقافية عربية ودولية عدة.

بطاقة هوية
يتحدر غسان سلامة من عائلة ريفية مسيحية تنتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك في بلدة مزرعة كفردبيان بجرود قضاء كسروان في محافظة جبل لبنان اللبنانية. وهو من مواليد عام 1951، ومتزوج من ماري بوغوصيان، وله ابنة اسمها ليا.
عاش سلامة في كنف أسرته - وكان والده مدرساً ومزارعاً - سنوات طفولته وفتوته. ومنذ نعومة أظفاره استفاد من اهتمام والده بالتعليم والثقافة وأخذ عنه أيضاً حبه الشديد للريف. وفي مقابلة تلفزيونية ذكر سلامة، أن والده كان يطمح له أن يدرس الطب ويغدو طبيبا لانعدام الأطباء في بلدتهم الشهيرة بفاكهتها، كما أشار إلى أن والده كان يدرّس خمسة أيام أسبوعياً كأستاذ ثانوي ويزرع في اليومين الأخيرين من الأسبوع، مع التفرّغ الكامل للزراعة في فصل الصيف. وحقاً، بلغت محبة غسان سلامة حياة الريف التي ألفها، أنه إبّان توليه منصب وزير الثقافة، أسس نحو 30 مكتبة في مختلف أنحاء لبنان.
تلقى سلامة تعليمه الجامعي في جامعة القديس يوسف «اليسوعية» العريقة في العاصمة بيروت، وتخرج فيها مجازاً في الحقوق. ثم سافر عام 1973 إلى فرنسا، حيث تابع تعليمه العالي، فحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس الأولى، وعلى الدكتوراه في الآداب من جامعة باريس الثالثة. وهو يتقن خمس لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية. وتستهويه الفنون والآداب، ولا سيما المسرح والسينما.
بعد عودته إلى لبنان، مارس التدريس الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف، لبعض الوقت. كما درّس في عدد من الجامعات في لبنان وفرنسا والولايات المتحدة منها جامعة كولومبيا بنيويورك.

وزيراً للثقافة
وبين العامين 2000 و2003 أسندت إليه حقيبة وزارة الثقافة في الحكومة التي ترأسها رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري، الذي عرف عنه احترامه له وقربه منه. وتولى خلال هذه الفترة أيضاً منصب الرئيس والمتحدث باسم اللجنة المنظمة للقمة العربية (مارس/ آذار 2002) القمة الفرانكفونية الخاصة بالدول الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية (أكتوبر/ تشرين الأول 2002) في العاصمة اللبنانية بيروت.
عام 2003 عيّن مستشارا سياسيا لبعثة الأمم المتحدة في العراق، حيث ساهم في إنشاء «مجلس الحكم الانتقالي» في أعقاب الغزو، ثم الاحتلال الأميركي وإسقاط حكم صدام حسين. وكاد يلقى حتفه في التفجير الانتحاري الكبير الذي استهدف مبنى بعثة الأمم المتحدة في بغداد، وفيه قتل العشرات يومذاك بينهم المبعوث البرازيلي سيرجيو دي ميلو.
وسلامة حالياً عضو مجلس إدارة «المجموعة الدولية لإدارة الأزمات» ومقرها في العاصمة البلجيكية بروكسل، و«المعهد الدولي للسلام» ومقره في نيويورك، وكذلك «مؤسسات المجتمع المنفتح» و«مكتبة الإسكندرية، بجانب رئاسته الصندوق العربي للثقافة والفنون وعضويته مركز الحوار الإنساني (بين 2011 و2015).

مؤلفاته
لغسان سلامة الكثير من المؤلفات باللغتين الفرنسية والعربية، أبرزها:
• المجتمع والدولة في المشرق العربي.
• السياسة الخارجية السعودية منذ عام 1945 دراسة في العلاقات الدولية.
• نحو عقد عربي جديد - بحث في الشرعية الدستورية.
• التسوية «الشروط المضمون، الآثار».
• من الارتباك إلى الفعل التحولات العالمية وآثارها العربية.
• أميركا والعالم إغراء القوة ومداها.

مجدداً مع الأمم المتحدة
مهمة الدكتور سلامة الجديدة، مثل مهمته الدولية الأولى في العراق، لا تخلو من صعوبة. وهي اليوم تأتي وسط ارتباك دولي واسع، وفوضى داخلية عارمة في بلد عربي ومسلم لم يتذوق طعم الاستقرار منذ الانتفاضة الشعبية على نظام العقيد معمر القذافي عام 2011. وتجدر الإشارة إلى أن سلامة بات منذ تعيينه رسمياً في وقت سابق من الشهر الحالي ثاني مبعوث لبناني يتولى رئاسة البعثة الأممية في ليبيا بعد مواطنه الوزير السابق طارق متري. وكانت ليبيا قد انزلقت إلى أتون اضطرابات دامية بعد الإطاحة بالقذافي، ومن ثم قتله؛ إذ تتنافس حكومتان وفصائل مسلحة عدة على السلطة. وتسعى حكومة تعترف بها الأمم المتحدة وتدعمها في العاصمة طرابلس من أجل فرض سلطتها، إلا أن فصائل مناوئة في شرق ليبيا، ترفض الاعتراف بشرعيتها.

تحدي ليبيا
المحنة التي تمر بها ليبيا، والتي ستشكل اختباراً لخبرة غسان سلامة، وقدراته على التوفيق بين المصالح والحساسيات المحلية والجهوية، دفعت كثرة من المتابعين العرب والدوليين إلى إبداء الخشية من تقسيم البلاد، أو عودة الحكم فيها إلى نظام الولايات الثلاثة (الولايات التاريخية الثلاث: طرابلس وبرقة وفزّان)، أو النظام الفيدرالي. ولقد سبق لـ«الشرق الأوسط» أن نشرت في تحقيق مفصّل عن واقع ليبيا، أنه في منتصف القرن الماضي كان الملك يُحضِّر للحصول على اعتراف دولي باستقلال ليبيا، ولكن كانت العقبة الوحيدة هي الخلافات بين قادة الشرق وزعماء الغرب، وفي نهاية المطاف استطاع أن يذيب الفوارق بين هذين التكتلين المتنافسين، عن طريق إدارة ليبيا غير أن حكم القذافي – الذي جاء إلى الحكم في أول سبتمبر (أيلول) 1969 – عمل على تفتيت هياكل الدولة، وأسس «اللجان الشعبية» لتحل محل مؤسسات السلطة المألوفة في سائر دول العالم، واقله العالم العربي.
ومما لا شك أن بضعة عوامل أسهمت في بلوغ الأزمة الليبية مستوى التأزم الذي هي فيه راهناً، أهمها ما يلي:
- العامل القبلي الجهوي، فليبيا بلد شاسع المساحة (نحو مليون و760 ألف كلم مربع)، لكنه صغير نسبياً من حيث عدد السكان (نحو ستة ملايين و500 ألف نسمة)، تتوزع أقاليمه قبائل كبرى بعضها تشكل كثافة سكانية وتتمتع بنفوذ كبير في مناطقها.
- العامل العربي، ذلك أن الارتباك في الوضع العربي وصراع المحاور عربياً بات ينعكس بقوة على المشهد الليبي الداخلي، وبالأخص فيما يتعلق بارتباط بعض الفصائل والمسلحة بهذه الجهة العربية والمسلمة أو تلك.
- العامل الديني؛ إذ ظهرت بقوة على الساحة الليبية إثر الثورة على القذافي حركات مسلحة إسلامية، بعضها متشدد، بل إن منها ما هو جزء من تنظيم القاعدة. وللعلم، يشكل المسلمون من أهل السنة والجماعة غالبية سكانية ساحقة من السكان، يضاف إليهم أقليات أبرزها الأقلية الأباضية في جبل نفوسة. والحال، أن تزايد الجماعات المتشددة التي ترفع شعارات إسلامية، داخل ليبيا نفسها، وتلك الوافدة عليها من كل مكان، وغيرها) أسهم إسهاماً كبيراً في معاناة ليبيا وتزايد الانقسامات وتنامي التطرف.
- العامل الإثني، ذلك أن رقعة ليبيا الضخمة تضم ليس فقط الغالبية العربية، بل تضم أيضاً قبائل وجماعات أمازيغية، ولا سيما في جبال شمال غربي ليبيا، يضاف إليها أقليات أخرى أفريقية مثل التبو في الجنوب الشرقي، والطوارق في الجنوب الغربي.
- العامل الدولي، وينعكس على شقين: الأول سياسي تضارب المصالح في مجتمع دولي مضطرب ينعدم فيه التوافق على استراتيجية واضحة. والثاني، اقتصادي، في ظل كون ليبيا إحدى أغني دول العالم بالنفط والغاز، وبالتالي، تشكل ثرواته الطبيعة مطمعاً للقوى الكبرى.
- العامل الجغرافي أو الجيو - استراتيجي، وهو يتمثل شمالاً بطول الساحل الليبي المطل على البحر الأبيض المقابل لسواحل أوروبا، وجنوباً بعمق ليبيا الصحراوي المتصل بالصحراء الكبرى، وهو ما يعني أن البلاد باتت قبلة أنظار كل الحالمين بالهجرة من أفريقيا الوسطى جنوبي الصحراء إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية. وعليه، ثمة حرص شديد وبخاصة في أوروبا الجنوبية على إغلاق باب الهجرة غير الشرعية عبر الشواطئ الليبية، وهذا لا يمكن لأن يتحقق من دون حل سياسي حقيقي.
- إلى تفاقم الصراع على خلفيات ثقافية وعلى إرث قديم يتعلق بمن تكون له الأولوية في تقرير مصير الدولة. وبينما تترقب واشنطن الموقف، أصبحت كثير القوى الإقليمية والدولية، تبحث عن موضع قدم في ليبيا، للاستفادة من النفط والغاز، وإيجاد نفوذ على الساحل وفي العمق الأفريقي.

لمحة تاريخية
ما يجدر ذكره أيضاً، أن مشكلة الحكم في ليبيا، كانت قائمة – وفق تحقيق «الشرق الأوسط» – منذ أكثر من مائة سنة، أي منذ بداية الصراع بين الإمبراطورية العثمانية وتطلعات الدولة الإيطالية إلى شمال أفريقيا. وأدى ذلك الصراع إلى ظهور «الجمهورية الطرابلسية» في الغرب الليبي، بينما اختار الشرق الصدام مع القادمين من وراء الحدود. ومن ثم، حتى في أيام مقاومة الوجود الإيطالي، بقيادة المناضل عمر المختار، ظهرت مشكلة القبائل البدوية والجهويين في الغرب، وهي مشكلة تستولد نفسها بأوجه مختلفة أحياناً ومتشابهة أحياناً أخرى.
وللعلم، يضم إقليم طرابلس، في غرب ليبيا، أصولاً متعددة، بحكم استقرار الكثير من رعايا دول البحر المتوسط كتركيا وإيطاليا واليونان ومالطة، في مدن مثل طرابلس ومصراتة. وفي حين يُعرف المواطن عن نفسه في شرق البلاد – ربما باستثناء مدينة بنغازي ومدينة درنة – باسم قبيلته، فيقال برعصي (البراعصة وأهم مراكزهم البيضاء) أو عبيدي (العبيدات وأهم مراكزهم مدينة طبرق)، تسود في الغرب «هوية» المدينة التي ينتمي إليها الفرد، فيقال مصراتي، أو طرابلسي، أو زليتني، وغيرها. وتجدر الإشارة، إلى أن من الصراعات القبلية التاريخية، الخلافات القديمة التي تتجدد كل حين وآخر بين «المشاشية» و«الزنتان»، و«تاورغاء» و«مصراتة» و«ورفلة»، و«الطوارق» و«التبو» و«الأمازيغ» و«العرب» وغيرها.
وهنا، يقول بعض الباحثين إنه في حين لا توجد في ليبيا مطالب عرقية أو مذهبية يمكن أن تهدد وحدة الدولة، كتلك الموجودة اليوم في العراق أو سوريا، فإن ثمة حساسيات قديمة حول مناطق النفوذ وحدود السلطة. وأوضحوا، أن عمر المختار «واجهته مشكلة الإرث القبلي، والإرث الحضري، ولهذا قسَّم عمليات الجهاد ضد الجيش الإيطالي المستعمر، على أدوار بين القبائل... دور لقبيلة العواقير، ودور لقبيلة البراعصة، ودور لقبيلة المغاربة، وهكذا... ولهذا؛ فإن حركة المقاومة ضد الطليان نجحت في برقة، وفشلت في طرابلس».



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».