الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

الأكاديمي والوزير اللبناني السابق يخلف مارتن كوبلر

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة
TT

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

أقر مجلس الأمن الدولي أخيراً تعيين الأكاديمي والدبلوماسي والوزير اللبناني السابق الدكتور غسان سلامة مبعوثاً جديداً لمنظمة الأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفاً للمبعوث السابق مارتن كوبلر، الذي كان ممثلا للأمم المتحدة في ليبيا منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. ويذكر أن موضوع خلافة كوبلر، الدبلوماسي الألماني، كان محل أخذ ورد منذ بعض الوقت، ففي شهر فبراير (شباط) رشح أمين عام المنظمة أنطونيو غوتيريش رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فياض للمنصب. إلا أن الولايات المتحدة رفضت ترشيح فياض، واتهمت نيكي هايلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة عبر ترشيحه بمحاباة المنظمة السلطة الفلسطينية على حساب إسرائيل. جدير بالذكر، أن تعيين أي مبعوث دولي خاص للمنظمة لابد أن يحظى بتأييد إجماعي في مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه. وبعد الرفض الأميركي اعترضت روسيا، وكما اعترض أعضاء آخرون على مرشح بريطاني وآخر أميركي، ومن ثم، مدّدت فترة كوبلر في المنصب حتى نهاية يونيو (حزيران) الحالي.
وقبل أيام، وقع اختيار غوتيريش على سلامة، الذي سبق له أن كلف بمهمة دولية في العراق، وحصل الترشيح هذه المرة على الموافقة الإجماعية لمجلس الأمن.
يعد الدكتور غسان سلامة، الذي أسندت مهمة قيادة الجهود الدولية لتسوية الأزمة الليبية، من أبرز المثقفين والمفكرين والباحثين السياسيين في لبنان والعالم العربي. وهو حالياً يقيم في العاصمة الفرنسية باريس ويعمل أستاذا في المعهد العالي للعلوم السياسية – الشهير باسم «سيانس بو» - وهو من أعرق وأشهر الجامعات المتخصصة في حقل العلوم السياسية في العالم. ويتمتع بعلاقات طيبة مع أطراف أكاديمية وسياسية وثقافية عربية ودولية عدة.

بطاقة هوية
يتحدر غسان سلامة من عائلة ريفية مسيحية تنتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك في بلدة مزرعة كفردبيان بجرود قضاء كسروان في محافظة جبل لبنان اللبنانية. وهو من مواليد عام 1951، ومتزوج من ماري بوغوصيان، وله ابنة اسمها ليا.
عاش سلامة في كنف أسرته - وكان والده مدرساً ومزارعاً - سنوات طفولته وفتوته. ومنذ نعومة أظفاره استفاد من اهتمام والده بالتعليم والثقافة وأخذ عنه أيضاً حبه الشديد للريف. وفي مقابلة تلفزيونية ذكر سلامة، أن والده كان يطمح له أن يدرس الطب ويغدو طبيبا لانعدام الأطباء في بلدتهم الشهيرة بفاكهتها، كما أشار إلى أن والده كان يدرّس خمسة أيام أسبوعياً كأستاذ ثانوي ويزرع في اليومين الأخيرين من الأسبوع، مع التفرّغ الكامل للزراعة في فصل الصيف. وحقاً، بلغت محبة غسان سلامة حياة الريف التي ألفها، أنه إبّان توليه منصب وزير الثقافة، أسس نحو 30 مكتبة في مختلف أنحاء لبنان.
تلقى سلامة تعليمه الجامعي في جامعة القديس يوسف «اليسوعية» العريقة في العاصمة بيروت، وتخرج فيها مجازاً في الحقوق. ثم سافر عام 1973 إلى فرنسا، حيث تابع تعليمه العالي، فحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس الأولى، وعلى الدكتوراه في الآداب من جامعة باريس الثالثة. وهو يتقن خمس لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية. وتستهويه الفنون والآداب، ولا سيما المسرح والسينما.
بعد عودته إلى لبنان، مارس التدريس الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف، لبعض الوقت. كما درّس في عدد من الجامعات في لبنان وفرنسا والولايات المتحدة منها جامعة كولومبيا بنيويورك.

وزيراً للثقافة
وبين العامين 2000 و2003 أسندت إليه حقيبة وزارة الثقافة في الحكومة التي ترأسها رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري، الذي عرف عنه احترامه له وقربه منه. وتولى خلال هذه الفترة أيضاً منصب الرئيس والمتحدث باسم اللجنة المنظمة للقمة العربية (مارس/ آذار 2002) القمة الفرانكفونية الخاصة بالدول الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية (أكتوبر/ تشرين الأول 2002) في العاصمة اللبنانية بيروت.
عام 2003 عيّن مستشارا سياسيا لبعثة الأمم المتحدة في العراق، حيث ساهم في إنشاء «مجلس الحكم الانتقالي» في أعقاب الغزو، ثم الاحتلال الأميركي وإسقاط حكم صدام حسين. وكاد يلقى حتفه في التفجير الانتحاري الكبير الذي استهدف مبنى بعثة الأمم المتحدة في بغداد، وفيه قتل العشرات يومذاك بينهم المبعوث البرازيلي سيرجيو دي ميلو.
وسلامة حالياً عضو مجلس إدارة «المجموعة الدولية لإدارة الأزمات» ومقرها في العاصمة البلجيكية بروكسل، و«المعهد الدولي للسلام» ومقره في نيويورك، وكذلك «مؤسسات المجتمع المنفتح» و«مكتبة الإسكندرية، بجانب رئاسته الصندوق العربي للثقافة والفنون وعضويته مركز الحوار الإنساني (بين 2011 و2015).

مؤلفاته
لغسان سلامة الكثير من المؤلفات باللغتين الفرنسية والعربية، أبرزها:
• المجتمع والدولة في المشرق العربي.
• السياسة الخارجية السعودية منذ عام 1945 دراسة في العلاقات الدولية.
• نحو عقد عربي جديد - بحث في الشرعية الدستورية.
• التسوية «الشروط المضمون، الآثار».
• من الارتباك إلى الفعل التحولات العالمية وآثارها العربية.
• أميركا والعالم إغراء القوة ومداها.

مجدداً مع الأمم المتحدة
مهمة الدكتور سلامة الجديدة، مثل مهمته الدولية الأولى في العراق، لا تخلو من صعوبة. وهي اليوم تأتي وسط ارتباك دولي واسع، وفوضى داخلية عارمة في بلد عربي ومسلم لم يتذوق طعم الاستقرار منذ الانتفاضة الشعبية على نظام العقيد معمر القذافي عام 2011. وتجدر الإشارة إلى أن سلامة بات منذ تعيينه رسمياً في وقت سابق من الشهر الحالي ثاني مبعوث لبناني يتولى رئاسة البعثة الأممية في ليبيا بعد مواطنه الوزير السابق طارق متري. وكانت ليبيا قد انزلقت إلى أتون اضطرابات دامية بعد الإطاحة بالقذافي، ومن ثم قتله؛ إذ تتنافس حكومتان وفصائل مسلحة عدة على السلطة. وتسعى حكومة تعترف بها الأمم المتحدة وتدعمها في العاصمة طرابلس من أجل فرض سلطتها، إلا أن فصائل مناوئة في شرق ليبيا، ترفض الاعتراف بشرعيتها.

تحدي ليبيا
المحنة التي تمر بها ليبيا، والتي ستشكل اختباراً لخبرة غسان سلامة، وقدراته على التوفيق بين المصالح والحساسيات المحلية والجهوية، دفعت كثرة من المتابعين العرب والدوليين إلى إبداء الخشية من تقسيم البلاد، أو عودة الحكم فيها إلى نظام الولايات الثلاثة (الولايات التاريخية الثلاث: طرابلس وبرقة وفزّان)، أو النظام الفيدرالي. ولقد سبق لـ«الشرق الأوسط» أن نشرت في تحقيق مفصّل عن واقع ليبيا، أنه في منتصف القرن الماضي كان الملك يُحضِّر للحصول على اعتراف دولي باستقلال ليبيا، ولكن كانت العقبة الوحيدة هي الخلافات بين قادة الشرق وزعماء الغرب، وفي نهاية المطاف استطاع أن يذيب الفوارق بين هذين التكتلين المتنافسين، عن طريق إدارة ليبيا غير أن حكم القذافي – الذي جاء إلى الحكم في أول سبتمبر (أيلول) 1969 – عمل على تفتيت هياكل الدولة، وأسس «اللجان الشعبية» لتحل محل مؤسسات السلطة المألوفة في سائر دول العالم، واقله العالم العربي.
ومما لا شك أن بضعة عوامل أسهمت في بلوغ الأزمة الليبية مستوى التأزم الذي هي فيه راهناً، أهمها ما يلي:
- العامل القبلي الجهوي، فليبيا بلد شاسع المساحة (نحو مليون و760 ألف كلم مربع)، لكنه صغير نسبياً من حيث عدد السكان (نحو ستة ملايين و500 ألف نسمة)، تتوزع أقاليمه قبائل كبرى بعضها تشكل كثافة سكانية وتتمتع بنفوذ كبير في مناطقها.
- العامل العربي، ذلك أن الارتباك في الوضع العربي وصراع المحاور عربياً بات ينعكس بقوة على المشهد الليبي الداخلي، وبالأخص فيما يتعلق بارتباط بعض الفصائل والمسلحة بهذه الجهة العربية والمسلمة أو تلك.
- العامل الديني؛ إذ ظهرت بقوة على الساحة الليبية إثر الثورة على القذافي حركات مسلحة إسلامية، بعضها متشدد، بل إن منها ما هو جزء من تنظيم القاعدة. وللعلم، يشكل المسلمون من أهل السنة والجماعة غالبية سكانية ساحقة من السكان، يضاف إليهم أقليات أبرزها الأقلية الأباضية في جبل نفوسة. والحال، أن تزايد الجماعات المتشددة التي ترفع شعارات إسلامية، داخل ليبيا نفسها، وتلك الوافدة عليها من كل مكان، وغيرها) أسهم إسهاماً كبيراً في معاناة ليبيا وتزايد الانقسامات وتنامي التطرف.
- العامل الإثني، ذلك أن رقعة ليبيا الضخمة تضم ليس فقط الغالبية العربية، بل تضم أيضاً قبائل وجماعات أمازيغية، ولا سيما في جبال شمال غربي ليبيا، يضاف إليها أقليات أخرى أفريقية مثل التبو في الجنوب الشرقي، والطوارق في الجنوب الغربي.
- العامل الدولي، وينعكس على شقين: الأول سياسي تضارب المصالح في مجتمع دولي مضطرب ينعدم فيه التوافق على استراتيجية واضحة. والثاني، اقتصادي، في ظل كون ليبيا إحدى أغني دول العالم بالنفط والغاز، وبالتالي، تشكل ثرواته الطبيعة مطمعاً للقوى الكبرى.
- العامل الجغرافي أو الجيو - استراتيجي، وهو يتمثل شمالاً بطول الساحل الليبي المطل على البحر الأبيض المقابل لسواحل أوروبا، وجنوباً بعمق ليبيا الصحراوي المتصل بالصحراء الكبرى، وهو ما يعني أن البلاد باتت قبلة أنظار كل الحالمين بالهجرة من أفريقيا الوسطى جنوبي الصحراء إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية. وعليه، ثمة حرص شديد وبخاصة في أوروبا الجنوبية على إغلاق باب الهجرة غير الشرعية عبر الشواطئ الليبية، وهذا لا يمكن لأن يتحقق من دون حل سياسي حقيقي.
- إلى تفاقم الصراع على خلفيات ثقافية وعلى إرث قديم يتعلق بمن تكون له الأولوية في تقرير مصير الدولة. وبينما تترقب واشنطن الموقف، أصبحت كثير القوى الإقليمية والدولية، تبحث عن موضع قدم في ليبيا، للاستفادة من النفط والغاز، وإيجاد نفوذ على الساحل وفي العمق الأفريقي.

لمحة تاريخية
ما يجدر ذكره أيضاً، أن مشكلة الحكم في ليبيا، كانت قائمة – وفق تحقيق «الشرق الأوسط» – منذ أكثر من مائة سنة، أي منذ بداية الصراع بين الإمبراطورية العثمانية وتطلعات الدولة الإيطالية إلى شمال أفريقيا. وأدى ذلك الصراع إلى ظهور «الجمهورية الطرابلسية» في الغرب الليبي، بينما اختار الشرق الصدام مع القادمين من وراء الحدود. ومن ثم، حتى في أيام مقاومة الوجود الإيطالي، بقيادة المناضل عمر المختار، ظهرت مشكلة القبائل البدوية والجهويين في الغرب، وهي مشكلة تستولد نفسها بأوجه مختلفة أحياناً ومتشابهة أحياناً أخرى.
وللعلم، يضم إقليم طرابلس، في غرب ليبيا، أصولاً متعددة، بحكم استقرار الكثير من رعايا دول البحر المتوسط كتركيا وإيطاليا واليونان ومالطة، في مدن مثل طرابلس ومصراتة. وفي حين يُعرف المواطن عن نفسه في شرق البلاد – ربما باستثناء مدينة بنغازي ومدينة درنة – باسم قبيلته، فيقال برعصي (البراعصة وأهم مراكزهم البيضاء) أو عبيدي (العبيدات وأهم مراكزهم مدينة طبرق)، تسود في الغرب «هوية» المدينة التي ينتمي إليها الفرد، فيقال مصراتي، أو طرابلسي، أو زليتني، وغيرها. وتجدر الإشارة، إلى أن من الصراعات القبلية التاريخية، الخلافات القديمة التي تتجدد كل حين وآخر بين «المشاشية» و«الزنتان»، و«تاورغاء» و«مصراتة» و«ورفلة»، و«الطوارق» و«التبو» و«الأمازيغ» و«العرب» وغيرها.
وهنا، يقول بعض الباحثين إنه في حين لا توجد في ليبيا مطالب عرقية أو مذهبية يمكن أن تهدد وحدة الدولة، كتلك الموجودة اليوم في العراق أو سوريا، فإن ثمة حساسيات قديمة حول مناطق النفوذ وحدود السلطة. وأوضحوا، أن عمر المختار «واجهته مشكلة الإرث القبلي، والإرث الحضري، ولهذا قسَّم عمليات الجهاد ضد الجيش الإيطالي المستعمر، على أدوار بين القبائل... دور لقبيلة العواقير، ودور لقبيلة البراعصة، ودور لقبيلة المغاربة، وهكذا... ولهذا؛ فإن حركة المقاومة ضد الطليان نجحت في برقة، وفشلت في طرابلس».



صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد
TT

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

في انتخابات عام 2010، حال تفسير سابق للمحكمة الاتحادية العليا في العراق دون تمكن «القائمة العراقية» بزعامة إياد علاوي، رئيس الوزراء الأسبق، من تشكيل الحكومة آنذاك. ثم حال «الثلث المعطّل» في انتخابات 2021 دون تمكن زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر من تشكيل حكومة غالبية سياسية... الأمر الذي جعله ينسحب من الانتخابات ويسحب معه نوابه الـ73 الذين كانوا فازوا بأكبر عدد من المقاعد آنذاك.

في عام 2010، كانت «القائمة العراقية»، التي تشكّلت من قوائم في غالبيتها سنية - وإن كان زعيمها إياد علاوي شيعياً - فازت بأكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي (92) مقعداً في حين حصل ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي على (89) مقعداً.

وبالتالي، بينما كان ينبغي، وفق الدستور، أن تشكل «القائمة العراقية» بوصفها الفائزة بأكبر عدد المقاعد، فإن قائمة المالكي، التي حلّت في المرتبة الثانية، قدّمت في حينه شكوى للمحكمة الاتحادية التي خرجت «بتفسير» جديد تحوّل إلى عُرفٍ سياسي يقضي بأن «الكتلة الأكبر» هي التي «يُمكن» بعد إعلان النتائج أن تكون القائمة صاحبة أكبر عدد من المقاعد، أو تلك التي تشكّل بعد إعلان النتائج الكتلة الأكبر داخل البرلمان.

لا نص دستورياً حول «الثلث المعطل»

وبشأن «الثلث المعطل»، يقول خبراء قانونيون لـ«الشرق الأوسط» إن «الثلث المعطّل» لا يستند إلى نصّ في الدستور العراقي أو في قوانين الانتخابات. ويوضح الباحث القانوني سيف السعدي أن هذا المفهوم «ابتُكر سياسياً من قبل قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي لمنع تمرير انتخاب رئيس الجمهورية (آنذاك)، وبالتالي، تعطيل تكليف رئيس الوزراء». وأردف أن «هذا الأسلوب لا ينسجم مع أحكام الدستور التي تحدّد آليات واضحة لتشكيل الحكومة».

من جانبه، يقول الخبير القانوني علي التميمي إن «الدستور العراقي لا يتضمّن أي إشارة إلى الثلث المعطّل، وإنما هي ممارسة سياسية تظهر عند اختيار رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء».

ويتابع أن انتخاب رئيس الجمهورية يتطلب تصويت ثلثَي أعضاء مجلس النواب؛ أي ما لا يقل عن 220 نائباً، وفي حال غياب هذا النصاب لا يمكن المضي بعملية الانتخاب، ما يؤدي إلى تعطّل تشكيل الحكومة.

ويضيف التميمي أن «الثلث المعطّل يعكس خلافات سياسية أكثر ممّا يعبّر عن قاعدة دستورية»، مشيراً إلى أن «تحقيق نصاب الثلثين يتطلّب توافقاً بين عدة كتل برلمانية». ويستطرد موضحاً: «المحكمة الاتحادية سبق لها أن أصدرت قراراً استثنائياً بهذا الشأن، لكن الأصل الدستوري هو انعقاد الجلسة بالغالبية المطلقة (النصف زائد واحد)، ومن الممكن طلب تفسير جديد من المحكمة لإزالة الغموض حول هذه المسألة».

للعلم، في انتخابات عام 2021، حاول مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي كانت قائمته فازت بأكثر المقاعد - بحصوله على 73 مقعداً - تشكيل حكومة غالبية سياسية مع كل من الحزب «الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني وحزب «تقدم» بزعامة محمد الحلبوسي. غير أن القوى الشيعية - آنذاك - حالت دون تمكينه من تشكيل الحكومة، بأن وضعت ما يُعرف بشرط «الثلث المعطل»، الذي لا وجود له في الدستور العراقي، حائلاً دون انتخاب رئيس الجمهورية الذي يحتاج إلى ثلثي أعضاء البرلمان.

وفي حين أدى ذلك إلى انسحاب الصدر من المشهد السياسي كلّه، وتحوّله إلى المعارضة لكن من خارج البرلمان، فقد رشّحت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي محمد شياع السوداني لتشكيل الحكومة.

الانتخابات الأخيرة

في الانتخابات التي انتهت بالأمس، يظلّ باب المفاجآت مفتوحاً على كل الاحتمالات، بينما بدا واضحاً التشظي داخل كتلة «الإطار التنسيقي» الشيعي في أعقاب انشقاق ائتلاف «الإعمار والتنمية» بزعامة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني عنها، ليس بإرادته بل بإرادة قوى «الإطار» نفسه.

ثم إنه مع توقّع كثيرين ازدياد الموقف تعقيداً أكثر فأكثر من قبل السوداني حيال قوى الإطار، وبالعكس، يؤكد هؤلاء بقاء كل الاحتمالات قائمة. ذلك أن السوداني أظهر تفوقاً واضحاً في الانتخابات المنتهية بحصوله على 45 مقعداً برلمانياً، وهو - بناءً عليه - الأول من حيث حجم الكتل والقوائم؛ إذ إنه يتقدّم بفارق كبير نسبياً عن أقرب خصومه من داخل «البيت» الشيعي، أي ائتلاف المالكي. وهو ما يعني أنه سيكون لاعباً قوياً في حال أراد تشكيل الحكومة عبر تشكيله الكتلة الأكبر.

ومع أن الحسابات الأولية تظهر أن قوى «الإطار التنسيقي» مجتمعة قد تتمكن من «تجميع» الكتلة الأكبر من حيث العدد متفوقة على السوداني، فإن الأخير وبسبب كونه صاحب أكبر عدد المقاعد، وكونه مَرضياً عنه أميركياً، لا تبدو فرصه في المناورة من أجل كسب ولاية ثانية مستبعدة أبداً. أضف إلى ذلك أن بعض قوى «الإطار التنسيقي» ليس لديها «فيتو» على السوداني بل لديها خلافات معه يمكن تسويتها عبر التفاوض ومنحها ما تريد من مناصب وامتيازات في الحكومة المقبلة في حال شكلها السوداني، الذي حظي بمباركة أميركية مبكّرة بعد يوم واحد من إعلان النتائج.

سافايا يشعل المنافسة

سارع مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترمب للعراق، إلى إشادة مبكرة بنتائج الانتخابات العراقية. وقدّم «تهانيه الخالصة» للشعب العراقي بمناسبة استكمال الانتخابات البرلمانية الأخيرة بنجاح، مقدماً شكره إلى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

وقال سافايا في تصريح له نشره عبر حسابه الرسمي، إن «الشعب العراقي أثبت مرة أخرى التزامه بالحرية وسيادة القانون وبناء مؤسسات دولة قوية»، مشيداً بـ«حرص رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وحكومته على إجراء الانتخابات في وقتها وبسلاسة»، ومعتبراً أن «ذلك دليلٌ واضح على أن العراق يسير في طريق الازدهار والسيادة».

أيضاً، أكد المبعوث الأميركي - وهو عراقي الأصل - أن «الولايات المتحدة تبقى ملتزمة بقوة بدعم سيادة العراق وجهود الإصلاح والحد من التدخلات الخارجية والمجاميع المسلحة... وتظل تتطلع إلى العمل مع الحكومة العراقية لتعميق الشراكة الاستراتيجية في مجالات الأمن والطاقة والتنمية والمساهمة في بناء مستقبل مستقر ومزدهر لجميع العراقيين».

هذا، وبينما كان الثنائي الأميركي - الإيراني يدخل على خط اختيار رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية السابقة في العراق بدءاً من أول انتخابات عام 2005 وإلى آخر انتخابات عام 2021 - التي لم يفلح فيها زعيم التيار الصدري الفائز الأول في تشكيل حكومة غالبية سياسية - فإنه، في ظل تراجع الدور الإيراني خلال الفترة الأخيرة، يرى مراقبون أن ثمة مخاوف تساور قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي من أن تنفرد واشنطن هذه المرة بتحديد شخصية رئيس الوزراء المقبل، لا سيما أن واشنطن، وطبقاً لمضمون رسالة سافايا، تريد إكمال ما بدأته على صعيد الشراكة السياسية الاقتصادية مع رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.

وفي هذا السياق، يقول الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في جامعة الكوفة لـ«الشرق الأوسط»، إن «التكهن بالسيناريوهات المقبلة يبدو صعباً حتى الآن، لكن مع ذلك يمكن القول إن رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني لا يزال هو الأكثر ترجيحاً... وإذا تمكن من إقناع بعض أطراف (الإطار التنسيقي) الشيعي فسيصار إلى تكليفه؛ لأن لا فيتو دولياً على السوداني بعكس أوضاع منافسين آخرين يمكن أن يكونوا مقبولين من الخارج لكن عليهم اعتراضات كبيرة من بعض قوى الداخل».

ويضيف الدعمي: «مع هذا، يبقى هناك منافسون آخرون للمنصب من بينهم رئيسا الوزراء السابقان حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي. كذلك، فإن السيناريوهات متباينة حيث لا يستبعد أن يكون أحد قادة الأجهزة الأمنية مطروحاً هو الآخر لمنصب رئيس الوزراء مع أن المتغيرات الإقليمية والدولية يمكن أن تكون حاكمة في هذا السياق أيضاً».

من جهته، وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، يرى الدكتور صلاح العرباوي، رئيس حركة «وعي» الوطنية، أنه «قد لا يكون هناك جديد في هذه الانتخابات»، لكنه يرجح إمكانية إجراء انتخابات مبكرة نظراً لوضع التيار الصدري القلق، وأن «هذه الانتخابات لم تأت بأي جديد، حيث إن التنافس كان قوياً بين قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي... ومن بين الملامح الأخرى لهذه الانتخابات هي غياب شبه تام للقوى المدنية والليبرالية والحركات المنبثقة عن (تشرين)».

وبحسب الدكتور العرباوي، «قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي ستجتمع فيما بينها لتشكيل الكتلة الأكثر عدداً مثل كل انتخابات، وقد نشهد خلال شهر مارس (آذار) المقبل تشكيل الحكومة الجديدة وربما لن يكون السوداني رئيسها... لكن الأهم من ذلك كله هو ترتيب عودة آمنة للتيار الصدري، وذلك لن يكون إلا بإجراء انتخابات مبكرة؛ لأن التيار لن يستمر وجوده خارج أروقة السلطة طويلاً».

مارك سافايا مبعوث الرئيس الأميركي إلى العراق سارع

إلى الإشادة مبكراً بنتائج الانتخابات

صراع ومنافسات

على صعيد متصل، سجّل هذه المرة ارتفاع نسبة المشاركة في هذه الانتخابات؛ إذ بلغت 65 في المائة، وفق المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهو ما يمثل فارقاً كبيراً عن آخر انتخابات، تلك التي أجريت عام 2021. فيومها بلغت النسبة 40 في المائة، ما يشير إلى قفزة كبيرة من حيث المشاركة الشعبية رغم غياب أكبر تيار شيعي معارض (أي التيار الصدري).

في المقابل، أظهرت نتائج الانتخابات تراجعاً واضحاً للتيارات المدنية. ذلك أن ما أدى إلى زيادة نسبة المشاركة هو التنافس الداخلي بين المكوّنات «الشيعية والسنية والكردية»، بعدما انتقل الصراع من صراعات «بين» المكوّنات إلى صراع «داخل» المكونات. وهذا ما جعل كل حزب أو تجمع يحشد أكبر عدد من التابعين له للمشاركة في الانتخابات من أجل إحداث فارق على صعيد نسب المشاركة.

وللعلم، كان رئيس تحالف «البديل» عدنان الزرفي، النائب في البرلمان والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، الذي لم يتمكن تحالفه من الحصول على مقعد في البرلمان الحالي قد أعلن أنه خاض معركة انتخابية غير متكافئة. وأضاف في بيان له بعد إقراره بالخسارة: «لقد خضنا معركةً انتخابية غير متكافئة بين المال السياسي واستغلال السلطة في مواجهةِ مشروع مدني رافعته الانتخابية الوحيدة قناعة الناس ببرنامج (البديل) وإيمانهم بالتغيير».

ومن ثم، دعا المفوضية إلى «ممارسة دورها على أعلى وجه، ومحاسبة كُلِّ من سعى لتشويه العملية الانتخابية من خلالِ شراء الأصوات العلني والموثق في محافظة النجف، وتبادل العيارات النارية بين أنصار المرشحين، فهذه تعتبر (دگة سياسية) تمس جوهر العملية الديمقراطية وإرادة الناخب الحر».

وفي حين لم يحالف الحظ رئيس البرلمان العراقي، محمود المشهداني، الذي كان يحمل «الرقم واحد - بغداد» ضمن «قائمة السيادة» لنيل مقعد في البرلمان العراقي، صرّح لـ«الشرق الأوسط» بأن العراق «تخطى العقبة الأولى بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد دون تأخير... أما التحدي الثاني الذي اجتزناه فيتمثل في سير العملية الانتخابية بانسيابية عالية وروح ديمقراطية، مع تسجيل خروق قليلة جداً تكاد لا تذكر». وهذا قبل أن يضيف: «تحديد نسبة المشاركة النهائية يتطلب انتظار انتهاء اليوم الانتخابي... والمرحلة المقبلة تتطلب الانتقال من الصراع على السلطة إلى بناء الدولة»، معتبراً أن هذا الهدف يحتاج إلى «حكومة كفاءات في ظل أمن مزدهر واقتصاد ناجح، لا حكومة قائمة على الولاءات السياسية».

 

قوى «الإطار التنسيقي»... مستعجلة

من جانب آخر، ومع أن الطريق لا يزال طويلاً على تشكيل الحكومة المقبلة - سواء طبقاً للمُدد الدستورية التي تستغرق نحو أربعة أشهر أو الخلافات السياسية المتوقع أن تكون عنيفة - فإن قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي بدأت تعلن عن عزمها تشكيل «الكتلة النيابية الأكبر»، بعد التصديق على نتائج الانتخابات. وفي هذا مسعى واضح منها لعزل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الفائزة كتلتُه بأكبر عدد من المقاعد؛ إذ أعلن مختار الموسوي، القيادي في منظمة «بدر» (إحدى مكوّنات «الإطار التنسيقي») في تصريح صحافي، أن «قوى (الإطار التنسيقي) ستعلن عن تشكيلها القائمة، أو الكتلة النيابية الأكبر، بعد تصديق النتائج الرسمية للانتخابات... فقوائم (الإطار التنسيقي) حصلت على أصوات ومقاعد تمكنها من المضي بالكتلة الأكبر التي يقع على عاتقها تسمية رئيس الحكومة الجديدة، وليس بالضرورة أن تكون مع ائتلاف الإعمار والتنمية (أي كتلة السوداني)».

مع ذلك، فإنه بالنسبة للمراقبين السياسيين، وبغض النظر عن دقة نسب المشاركة أو عدمها، فإن الفوز الذي حققه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني سيعيد ترسيم قواعد اللعبة داخل قوى «الإطار التنسيقي»، وهو بعدما تمكن من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء في الدورة الماضية وهو يملك فقط مقعدين برلمانيين، فإنه حصل هذه المرة على 45 مقعداً. وهذا واقع يجعله لاعباً أساسياً داخل الفضاء الإطاري، ومنافساً لشغل منصب رئاسة الوزراء لدورة ثانية، وكان قد أعلن بوضوح عن هذه الرغبة.أخيراً، مع أن الأمور لا تبدو بهذه السهولة، فإن ما يساعد رئيس الوزراء على ذلك حصول متغيرات إقليمية ودولية لصالحه، أبرزها تراجع النفوذ الإيراني في العراق مقابل تزايد النفوذ الأميركي، وبالأخص، بعد دخول المبعوث الرئاسي الأميركي مارك سافايا على خط التكهنات والتأويلات بشأن تشكيل الحكومة العراقية العتيدة.


«ماما سامية»... طموح نسائي محاط بـ«فخ الديكتاتورية»

واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
TT

«ماما سامية»... طموح نسائي محاط بـ«فخ الديكتاتورية»

واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني

قبل أربع سنوات، كان من الصعب تخيّل أن تتولى امرأة مسلمة من جزيرة زنجبار رئاسة دولة تنزانيا شرق القارة الأفريقية. إلا أن سامية صلوحو حسن، التي اكتسحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اعتادت على المفاجآت والجدل المستمر. فقد بدأت رحلتها بطموح نسائي إصلاحي قادته صدفة إلى السلطة بعد وفاة الرئيس السابق جون ماجوفولي، لكنها، حسب مراقبين، تنزلق اليوم تدريجياً بصناديق الاقتراع نحو نفق يُخشى أن يتحول إلى «ديكتاتورية دامية».

بداية مشوار سامية صلوحو حسن (65 سنة) مع كرسي الرئاسة في تنزانيا كانت بمثابة حقبة انتقالية فرضها ظرف استثنائي لمدة 4 سنوات، إلا أنها حولت تلك الفرصة العابرة، أخيراً، إلى حضور لخمس سنوات أخرى، فارضة نفوذها عبر صناديق الاقتراع وسط احتجاجات دامية، في مشهد يختزل التحديات المستمرة في مشاهد الانتقال الديمقراطي الأفريقي.

في خطوات صلوحو حسن الأولى على أبواب القصر الرئاسي عام 2021، كان لقبها الشعبي «ماما سامية» ترميزاً للحكمة والاحترام الأمومي، وتفاؤلاً ببداية إصلاحات واعدة. ولكن مع مرور الوقت، فُقد هذا البريق تدريجياً، وتحوّلت صورتها من زعيمة معتدلة إلى شخصية مثيرة للجدل، تتهمها المعارضة بتكريس نهج الحزب الواحد وإعادة إنتاج سياسات القمع... بل حتى ذهب البعض إلى تشبيهها بالرئيس الأوغندي الراحل الجنرال عيدي أمين.

تجلّى هذا الأمر على نحو واضح بعد فوزها الساحق بنسبة 97 في المائة في انتخابات وُصفت بأنها «غير نزيهة» شهدت اعتقال عشرات المعارضين بتهم «الخيانة العظمى». ويرى محللون محليون أن الرئيسة ما عادت كما كانت عند توليها الحكم عام 2021. وهذه هي أيضاً رؤية المحلل السياسي التنزاني خليفة سعيد، رئيس تحرير منصة «تشانزو»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «التوقّعات في الماضي كانت تدور حول ازدهار اقتصادي شامل وتعزيز التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، لكن هذه الآمال تبخرت خلال أربع سنوات من حكمها».

نشأة وسط أجواء متوترة

الأجواء المتوترة في تنزانيا راهناً لا تتباين كثيراً مع مرحلة تشكُّل الوعي المبكّر لرئيستها في مسقط رأسها، جزيرة زنجبار، حيث كانت تتبدّل ديناميكيات السلطة ويأخذ التغيير الاجتماعي مجراه.

وُلدت سامية صلوحو حسن يوم 27 يناير (كانون الأول) 1960 لأسرة مسلمة متواضعة - الأب يعمل مدرّساً - حين كانت جزيرة زنجبار تعيش اضطرابات سياسية متلاحقة. ولقد بلغت تلك الاضطرابات التاريخية ذروتها بثورة عام 1964 التي أطاحت بنفوذ سلطنة عُمان على الجزيرة، وأسفرت عن مذابح راح ضحيتها الآلاف، ومهّدت، من ثم، الطريق لاتحاد زنجبار مع تنجانيقا، «جارتها» الكبيرة على اليابسة الأفريقية، وبذلك «الاتحاد» ولدت دولة تنزانيا الحديثة.

أهدت تنزانيا في ثوبها الجديد فرصاً حياتية مهمة لرئيسة المستقبل، إذ كانت من بين قلةٍ من الفتيات اللواتي واصلن التعليم في زمنٍ كانت الفرص محدودة للنساء. إذ درست في مدارس زنجبار، ثم تلقّت تدريباً عالياً في الإدارة العامة والاقتصاد في معاهد بينها معهد إدارة التنمية (جامعة مزومبي حالياً) في تنزانيا، ثم واصلت تعليمها فحصلت على دبلوم دراسات عليا من جامعة مانشستر البريطانية، ثم ماجستير في التنمية الاقتصادية ضمن برنامج مشترك بين جامعة جنوب نيوهامبشاير الأميركية وجامعة تنزانيا المفتوحة.

هذا المسار الأكاديمي منحها قاعدة صلبة مكّنتها من العمل في مؤسسات حكومية وبرامج الأمم المتحدة، قبل أن تدخل البرلمان وتشغل مناصب وزارية مختلفة، إلى أن اختارها الرئيس ماغوفولي - من حزب الثورة (اليسار المعتدل الاشتراكي) - نائبةً له عام 2015.

رئيسة لتنزانيا

لكن في مارس (آذار) 2021 بعد وفاة ماغوفولي (61 سنة) المفاجئة، وجدت صلوحو حسن نفسها - من دون أي حسابات مسبقة - على قمة السلطة. بالفعل، أقسمت في حينه اليمين الدستورية، وغدت أول امرأة تترأس تنزانيا، ما يعني أنها لم تصل مباشرة عبر صناديق الاقتراع، بل على وقع الصدمة الوطنية.

ورغم الشكوك الأولى حول قدرتها على القيادة، بادرت الرئيسة الجديدة إلى طرح سياسة «آر إس 4» التي تضمنت نهجاً رباعياً يتمثل في المصالحة، والصمود، والإصلاح، وإعادة البناء، محاولةً طي صفحة إرث سلفها الثقيل.

لقد حاولت الـ«ماما سامية» إظهار انفتاح معلن، وطيّ صفحة الماضي عبر رفع القيود عن الإعلام وتسهيل عمل المعارضة. كذلك أطلقت لجنة للإصلاح السياسي للتشاور مع المجتمع المدني، كما أفرجت عن بعض المعتقلين السياسيين، وفتحت قنوات حوار مع الخصوم، فبدت في بداياتها وكأنها تبشّر بعصر جديد من الانفتاح والديمقراطية.

اقتصادياً، وضعت صلوحو مسألة التنمية في صدارة أولوياتها، وركّزت على مشاريع البنية التحتية والطاقة، وسعت لجذب الاستثمارات الأجنبية رافعةً للنمو الذي حقق نمواً ملحوظاً، بيد أن الفقر والبطالة كانا يطالان نحو نصف السكان، في بلدٍ يعتمد بشكل كبير على الزراعة والخدمات والسياحة.

ومن جهة ثانية، تواكبت جهود الرئيسة الاشتراكية مع إطلاق سلسلة مبادرات لمواجهة تغير المناخ وتعزيز الأمن الغذائي، فضلاً عن برامج لتمكين النساء والفتيات وتشجيع الشباب على المشاركة في الحياة العامة. هذه السياسات الاجتماعية ساعدت في الحفاظ على قاعدة دعم نسائية وشبابية، رغم اتساع الهوة بينها وبين الطبقة السياسية المعارضة.

السياسة الخارجية وسط التنافس القاري

على صعيد السياسة الخارجية، انتهجت صلوحو حسن نهجاً حذراً ومتوازناً. فقد أدانت الحرب على غزة، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، لكن من دون التحرك الجنائي المباشر على غرار جنوب أفريقيا أو الانخراط المباشر في جهد دبلوماسي في الصراع، مؤثرة دعم الحلول الدولية السلمية. وعملت على تعزيز علاقات بلادها مع دول خليجية، خصوصاً سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، ووقّعت معهما مذكّرات تفاهم اقتصادية وتجارية عزّزت حضور تنزانيا الإقليمي.

في الوقت نفسه، واصلت بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولة الحفاظ على استقلال القرار التنزاني وتجنّب التبعية لأي محوَر دولي.

هذا التوازن ساعدها في جذب استثمارات ومساعدات تنموية، لكنه لم يُخف الانتقادات الغربية المناوئة لخطها السياسي، بذريعة «سجّلها في مجال الحريات السياسية»، لا سيما من جانب واشنطن.

ومع اقتراب نهاية ولايتها الأولى، بدا أن الصورة «الإصلاحية» للرئيسة الاشتراكية تهتزّ في الغرب على الرغم من المؤشرات الاقتصادية الجيدة، ففي استطلاع أجرته مؤسسة «أفروباروميت» وشمل 2400 مواطن، أظهر أن 68 في المائة من التنزانيين يقدرّون مستوى أداء الحكومة بين «الجيد والجيد جداً» في تحسين الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم.

إذ ترى مصادر غربية أن الأرقام في الاستطلاع نفسه كشفت أن الإصلاح الاقتصادي لم يتوازَ مع تحسن مماثل في الحريات العامة، بدليل أن 75 في المائة ممن استُطلعت آراؤهم أعربوا عن خوفهم من الانتقام إذا تكلّموا عن الفساد. وبينما قال 61 في المائة إنهم يشعرون بحرية نسبية في التعبير، قال 58 في المائة إنهم يفضّلون الحذر في النقاشات السياسية.

صدام مع الغرب

بالفعل، في الأمتار الأخيرة من ولايتها الرئاسية الأولى، دخلت سامية صلوحو حسن في أول صدام مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، بعد دعوات لإجراء تحقيق مستقل في مقتل المعارض علي محمد كيباو، الزعيم السابق لحزب «تشاديما» اليميني، الذي عُثر على جثته المشوّهة في دار السلام، لكنها ردت بلهجة حاسمة قائلة «نحن لسنا هنا ليُقال لنا كيف ندير بلادنا».

وهنا، حسب المحلّل التنزاني خليفة سعيد، بدا أن الرئيسة «تُظهر تراجعاً في الثقة بالنفس، وتعتمد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية بدلاً من الحلول السياسية، وتتعامل مع النقد كعداء شخصي». وكذلك تتبدل ملامح صورة الرئيسة «من أنجيلا ميركل أفريقيا إلى زعيمة متهمة بالقمع وإقصاء خصومها»، وفق الباحث محمد الجزّار في دراسة لمركز «قراءات أفريقية».

وبالتالي، يرى البعض أن الانتخابات الرئاسية التنزانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي «رسخت» صورة هذا التحوّل السلبي؛ إذ استُبعد أبرز المرشحين المعارضين واعتُقل بعضهم، ما جعل السباق الرئاسي شبه محسوم لصالح حزب الثورة (تشاما تشا مابيندوزي) الاشتراكي الحاكم.

بل بعد إعلان فوز صلوحو حسن بنسبة 97 في المائة، اندلعت احتجاجات عنيفة في عدة مدن أسفرت عن مقتل مئات، وتفجرت معها إدانات من الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.

هكذا تحوّلت الرئيسة التي كانت تُوصف ذات يوم بـ«أمل الإصلاح» إلى شخصيةٍ تواجه اتهامات بالقمع والفساد السياسي، وتدشن ولايتها الثانية حاملةً ثلاثة ملفات ثقيلة:

الأول: ترميم الثقة السياسية بعد تراجع الحريات وتضرّر صورتها الدولية.

الثاني: تحقيق وعود الإصلاح الدستوري والإفراج عن قادة المعارضة لتهدئة الداخل.

الثالث: معالجة الأزمات المعيشية في ظل البطالة والفقر وتحديات المناخ.

ثم إن صلوحو حسن تواجه تحدياً خارجياً يتمثّل في «الموازنة» بين علاقاتها مع القوى الكبرى وحماية الهوية الأفريقية والإسلامية لبلادها، وسط تصاعد الانتقادات من الحكومات الغربية.

أخيراً، فإن المفارقة وسط هذا الزخم السياسي الدرامي والتوازنات المعقدة تظل في بقاء الرئيسة التنزانية محافظة على خصوصية حياتها الأسرية بعيداً عن الأضواء؛ إذ لم يظهر زوجها حافظ أمير أو أبناؤها الأربعة في الإعلام، كما لم تُدْلِ هي بتفاصيل دقيقة عن حياتها اليومية مع زوجها أو أسلوب إدارة شؤون المنزل.

واليوم، وبينما تدخل «ماما سامية» ولايتها الرئاسية الثانية، يبدو المشهد السياسي التنزاني وكأنه رقعة شطرنج مليئة بالمخاطر... وترى هي نفسها أمام مفترق حقيقي بين طموح الإصلاح الذي وعدت به، وفخ القمع الذي يتهمها الغرب بالانزلاق فيه.


الانتخابات الرئاسية تهزّ صورة تنزانيا «المستقرة»

عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
TT

الانتخابات الرئاسية تهزّ صورة تنزانيا «المستقرة»

عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)

مع أن تنزانيا بقيت لعقودٍ نموذجاً للاستقرار السياسي، بل موضع فخر لوجود امرأة في الرئاسة، يرى مراقبون أن الانتخابات الأخيرة «قلبت» هذه الصورة رأساً على عقب.

إذ اكتسحت الرئيسة سامية صلحو حسن نتائجها، في غياب منافسٍ حقيقي، لتصبح البلاد محور اهتمام الإعلام الدولي، ليس كقصة نجاح ديمقراطي، بل كساحة صراع دموي بين القمع القديم وأمل الشباب بالإصلاح.

كانت أجواء الانتخابات الرئاسية في تنزانيا مشحونة بشكل غير مسبوق، رغم الكلام عن تغييرات اقتصادية واسعة، إذ وصفتها صحيفة «لوموند» الفرنسية مبكّراً بأنها «بلا منافسة حقيقية»، على خلفية اعتقال المُعارض البارز توندو ليسو، ومنع حزبه اليميني «تشاديما» من الترشح، في مقابل هيمنة الرئيسة سامية صلحو حسن وحزبها - حزب الثورة - على المشهد العام، لتغدو المنافسة شكليّة أكثر منها حقيقية.

بل استبقت صحف غربية هذا المشهد الانتخابي مبكراً بتسليط الضوء على بنية السلطة والحكم في تنزانيا نفسها، إذ رأت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن «الحزب الحاكم بنى، عبر عقود، شبكة تنظيمية متغلغلة في مؤسسات الدولة والمجتمع، تجعل من الصعب على أي منافس أن يتحداه بفاعلية». وكانت الملاحظة الأبرز لصحيفة «دويتشه تاغِس تسايتونغ» الألمانية، أن الرئيسة غضّت الطرف عن «شبكة النفوذ الأمني التي أسسها سَلَفها جون ماغوفولي، حيث لا يزال مُوالوه يمارسون التضييق على المعارضة، مما خنق الحياة السياسية قبل الانتخابات الأخيرة».

ومن ثم، حين أعلنت لجنة الانتخابات فوز الرئيسة صلحو حسن بولاية جديدة بنسبة كاسحة بلغت 97.7 في المائة من الأصوات، تفجرت احتجاجات، وأسفرت الاضطرابات - وفق أحدث تقديرات لمكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان - عن مقتل المئات، وسط اتهامات للقوات الأمنية بإخفاء جثث المتظاهرين.

وعلى وقْع قلق الأمم المتحدة من العنف والانتهاكات التي صاحبت الانتخابات التنزانية وتشكيك الاتحاد الأوروبي في نزاهة الاقتراع، بدا المشهد صادماً في الصحافة الغربية، كما جاء في تقارير وتعليقات لـ«لوموند» الفرنسية، والـ«نيويورك تايمز» الأميركية، والـ«واشنطن بوست» الأميركية، و«إل باييس» الإسبانية.

وفي تحليل عميق، ذهب «معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا» إلى القول إن ما حدث في تنزانيا ليس معزولاً، بل هو جزء من «تحوّل جذري في نمط الانتخابات عبر قارة أفريقيا»، لافتاً إلى تكرر «السيناريوهات» نفسها في كوت ديفوار والكاميرون وموزمبيق، حيث يقود احتكار السلطة إلى احتجاجاتٍ متصاعدة. ومع حقيقة أن 65 في المائة من سكان أفريقيا دون سن الخامسة والثلاثين، يرى المركز البحثي الجنوب أفريقي أن «هذه التركيبة الديموغرافية الشابة تعيد صياغة الخطاب السياسي، وتجعل من تجاهل أصوات الأجيال الجديدة خطراً يفوق أي فوز انتخابي».

وبالفعل، جاء في تقديرات محللين أن «تنزانيا لن تعود بعد هذه الانتخابات إلى ما كانت عليه». وقد نقلت «الغاريان» البريطانية عن ديوس فالنتاين، الرئيس التنفيذي لمركز التقاضي الاستراتيجي (مقره في دار السلام بتنزانيا) قوله: «نحن أمام لحظة فاصلة، فإما نموذج جديد بالكامل، أو مستوى غير مسبوق من الإفلات من العقاب!».