انتهى الرئيس الفرنسي من ترتيب البيت الداخلي بعد الانتهاء الأحد الماضي من الانتخابات النيابية، وتوفير أكثرية مريحة، وكذلك تشكيل حكومة جديدة أول من أمس. وأصبح إيمانويل ماكرون قادرا على الالتفات إلى المسائل الخارجية والكشف عن توجهاته الجديدة التي من ضمنها الملف السوري، بما له من تشعبات وارتباطات مع السياستين الأميركية والروسية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون أول حديث صحافي له منذ انتخابه رئيسا للجمهورية لمجموعة من الصحف الأوروبية، مخصصا للملفات الخارجية.
السؤال الذي تطرحه تصريحات الرئيس الفرنسي هو التالي: هل تغيرت سياسة باريس إزاء الملف السوري، وهي الجهة التي كانت دوما الأقرب للمعارضة السورية، والأشد تمسكا بالمطالبة برحيل الرئيس السوري وبتحقيق الانتقال السياسي وفق مبادئ إعلان جنيف لصيف العام 2013 ولقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254؟
في المقابلة المذكورة، يحدد الرئيس ماكرون الأطر العامة لسياسته «الجديدة» في سوريا، بعد أن أشار إلى عقبة أساسية تتمثل في السياسة الأميركية. وقال ماكرون ما حرفيته إن الصعوبة اليوم هي أن «الرئيس ترمب لم يبلور حتى الآن إطار المفاهيم التي تحكم سياسته الدولية، وبالتالي فإنه يصعب التنبؤ بها؛ الأمر الذي يشكل مصدر إزعاج» للعالم. ويشير ماكرون بذلك إلى أن عملية إعادة النظر بالسياسة الخارجية الأميركية التي أمر بها ترمب وزارتي الدفاع والخارجية القيام بها لم تنته بعد. ووفق مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى في باريس تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، فإن واشنطن «تفتقر لرؤية بخصوص مستقبل سوريا السياسي»، وأن التركيز الأميركي، حتى الآن: «لا يذهب أبعد من الحرب على (داعش) وعلى الإرهاب بشكل عام». وبحسب مصدر فرنسي رسمي آخر، فإن الضبابية الأميركية «أحد الأسباب التي منعت حتى الآن من إيجاد نقطة تلاق مع روسيا التي تنتظر من واشنطن عرضا» بخصوص سوريا يمكن من الوصل إلى «صفقة» أشمل.
يقول ماكرون عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي التقاه قبل أسبوعين في قصر فرساي، إنه «يكن الاحترام له» وإن لقاءهما «كان بنّاء». ولكن يبدو من تصريحاته أن إيجابية اللقاء أنه من سار باتجاه بوتين وليس العكس. وبخصوص «قناعته العميقة»، يؤكد ماكرون أن هناك حاجة إلى «خريطة طريق سياسية ودبلوماسية (في سوريا) لأن هذه المسألة لا يمكن أن تحل فقط بالوسائل العسكرية». ويرى الرئيس الفرنسي أن تغليب الوسائل العسكرية «يمثل خطأ ارتكبناه بشكل جماعي». بيد أن أهم ما جاء به ماكرون قوله إن «التعديل الحقيقي» الذي أدخله على سياسة بلاده، أنه «لم يطالب بأن يكون تنحي بشار الأسد شرطا لكل شيء» مضيفا: «لا أحد قدم لي بديلا شرعيا»عنه.
حقيقة الأمر، أن باريس منذ ما يزيد على العام توقفت عن المطالبة برحيل الأسد مسبقا. لكنها المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس الدولة الفرنسية موقفا رسميا بهذا الوضوح. وقالت المصادر الفرنسية لـ«الشرق الأوسط»: إن لا أحد في فرنسا أو خارجها «مستمر بالمطالبة بشرط كهذا»، وأن ما جاء في كلام ماكرون لا يشكل تغييرا في السياسة الفرنسية. لكن الغائب في كلام الرئيس الفرنسي أنه، من جهة، لم يشر وإن تلميحا إلى استمرار المطالبة بعملية انتقال سياسية يتضمنها بيان جنيف والقرار 2254 تفضي إلى خروج الأسد. ومن جهة أخرى، تناسى أو نسي التذكير بالعبارة المعروفة التي تقول إن الأسد «لا يمكن أن يكون مستقبل سوريا». ثم إن هناك غموضا في حديثه عن غياب بديل «الشرعي»؛ إذ هل يعني ذلك أن الأسد هو الوحيد الذي يتمتع بها وبالتالي فإنه سيبقى رئيسا شرعيا لسوريا؟ وإلى متى؟
الواضح أن رحيل الأسد «لم يعد أولوية فرنسية» وبحسب ماكرون، فـأولوية الأولويات أضحت محاربة المجموعات الإرهابية «لأنها هي أعداؤنا»، ولأن العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا تم التخطيط لها في هذه المنطقة «سوريا والعراق» التي تشكل معقل «الإرهاب الإسلامي». وفي هذه الحرب، يؤكد ماكرون أن ثمة حاجة إلى «التعاون مع الجميع، وخصوصا مع روسيا». ولم يفهم ما إذا كان النظام السوري من جملة الذين يريد ماكرون التعاون معهم. أما الأولوية الثانية لفرنسا في عهده، فهي «استقرار سوريا لأنني لا أريد دولة فاشلة». وهاجم ماكرون «المحافظين الجدد» في فرنسا الذين تسلموا المسؤوليات في السنوات العشر الأخيرة، أي في عهدي سابقيه الرئيسين ساركوزي وهولاند. ويرى ماكرون أن «الديمقراطية لا يمكن أن تفرض على الشعوب من الخارج رغما عنها». كذلك ندد بالتدخل العسكري في ليبيا والعراق الذي كانت نتيجته «قيام دول فاشلة يترعرع فيها الإرهاب، وهو ما لا أريده في سوريا». وإذ ذكر الرئيس الفرنسي بـ«الخطوط الحمراء» التي يتمسك بها وهي من جهة، اللجوء إلى السلاح الكيماوي مجددا في سوريا الأمر الذي سيستدعي ردا عسكريا فرنسيا وإن كانت باريس ستقوم بذلك منفردة على الجهة المنفذة، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، أشار إلى الأولوية الرابعة المتمثلة بـ«استقرار سوريا على المدى المتوسط» ما يعني «احترام الأقليات». وخلاصة الرئيس الفرنسي، أن هناك حاجة إلى «إيجاد الوسائل لمبادرة دبلوماسية تكون قادرة على فرض احترام المبادئ الأربعة».
حقيقة الأمر، أن ماكرون بصدد التحضير لمبادرة سياسية ــ دبلوماسية، وهو ما أكدته لـ«الشرق الأوسط» سابقا مصادر فرنسية رسمية. وترى باريس أن جنيف «بلا نتيجة» وأن محادثات آستانة «تدور في فراغ»؛ ولذا تستشعر الحاجة إلى «شيء جديد» سيكون عنوانه على الأرجح «التعاون مع موسكو» التي زارها مؤخرا وزير الخارجية جان إيف لو دريان. وواضح اليوم أن لا دور لفرنسا في سوريا، والسبب في ذلك، كما تقول مصادرها، أنه ليس لها قوات تقاتل ميدانيا بعكس روسية وتركيا وإيران. وتشير عبارة ماكرون إلى الحاجة إلى «إيجاد الوسائل» لمبادرة كهذه، إلا أن باريس تسعى لتوفير الشروط الضرورية لها، وهو ليس بالأمر السهل؛ إذ إضافة إلى استمرار التذبذب الأميركي، فإن بلدان الخليج منشغلة بالخلاف مع قطر والدول الأوروبية بـ«البريكست» وبالانتخابات التي تطرق الأبواب. ولذا؛ تعتقد فرنسا أن العودة إلى الملف السوري تمر عبر روسيا والتعاون معها؛ الأمر الذي يفسر التقارب في الرؤى الروسية والفرنسية كما ظهرت في فرساي أو في موسكو. من هنا، فإن حديث ماكرون عن رفض فرض الديمقراطية من الخارج والحاجة إلى توفير الاستقرار في سوريا وقبل ذلك دحر الإرهاب الذي هو «العدو الأول والمشترك» كما قال لو دريان، كلها رسائل إلى موسكو التي تحتاج إليها باريس في حال عقدت العزم على إطلاق مبادرة جديدة.
الرئيس الفرنسي يعيد ترتيب أولوياته في سوريا
https://aawsat.com/home/article/958406/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%AA%D8%B1%D8%AA%D9%8A%D8%A8-%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%88%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
الرئيس الفرنسي يعيد ترتيب أولوياته في سوريا
ماكرون قال إن أحداً لم يقترح له بديلاً للأسد «يتمتع بالشرعية»
- باريس: ميشال أبونجم
- باريس: ميشال أبونجم
الرئيس الفرنسي يعيد ترتيب أولوياته في سوريا
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة