«سيمفونية ثقافية» عربية من المهجر الأميركي

مجموعة من المقالات كتبها المؤلف ابتداء من عام 1967

«سيمفونية ثقافية» عربية من المهجر الأميركي
TT

«سيمفونية ثقافية» عربية من المهجر الأميركي

«سيمفونية ثقافية» عربية من المهجر الأميركي

من مهجره الأميركي يوافينا الروائي والناقد والمترجم المصري ماهر البطوطي المقيم في نيويورك منذ أواخر سبعينات القرن الماضي بكتاب نقدي جديد هو «سيمفونية ثقافية» (مكتبة الآداب بالقاهرة) وذلك بعد أن قدم للمكتبة العربية روايتين متميزتين هما «عزلة النسر» و«الفتوحات الباريسية» وكتبا عن «لوركا شاعر الأندلس» و«أفلام أهملتها الأقلام» و«روايات وروائيون من الشرق والغرب» و«الرواية الأم: ألف ليلة وليلة والآداب العالمية» و«قاموس الأدب الأميركي» إلى جانب ترجماته من اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وهي تشمل أعمالا لجيمز جويس وهمنجواي وولت وتمان ورنبو ولوركا ونيرودا وغيرهم.
«سيمفونية ثقافية» مجموعة من المقالات كتبها صاحبها عبر السنين في مناسبات مختلفة ابتداء من عام 1967 حتى اليوم. وقسمها إلى عدة أقسام.
فالقسم الأول من الكتاب «نصوص فنية وأدبية مترجمة» يضم مسرحية للكاتبة الفرنسية مرجريت ديراس، وقصة قصيرة للروائي الفرنسي بلزاك, ومختارات من يوميات ألبير كامي, ومسرحية «الأعمى» التي كتبها الشاعر جبران خليل جبران باللغة الإنجليزية، وسيناريو فيلم سينمائي للشاعر الإسباني لوركا، ومقالة عن الصورة الشعرية بقلم الناقد الإنجليزي ر. ا. فكوز.
أما القسم الثاني من الكتاب فيحمل عنوان «مراجعات» ويضم بحثا ضافيا عن رواية همنجواي «العجوز والبحر» ربما كان أوفى ما كتب عن هذه الرواية باللغة العربية مع ترجمة مقتطفات منها. وهناك مقالة عن كتاب الدكتور محمد عناني «واحات الغربة» يضع هذه السيرة الذاتية في مكانها بين أمثالها في الأدب العربي قديما وحديثا، ووصف لمعرض المصور السريالي سلفادور دالي أقيم في نيويورك عام 1994 وشهده المؤلف.
يلي ذلك قسم عنوانه «أشعار مترجمة» يضم قصائد للوركا ونيرودا وفيكتور هوجو وآخرين.
ثم نلتقي بـ«مقالات أدبية وفنية» يتحدث فيها البطوطي عن الموسيقار الإسباني مانويل دي فايا، ونجيب محفوظ والفن التشكيلي والموسيقي, وفوضى ترجمة الأسماء والعناوين, وأفضل مائة فيلم لدى الفرنسيين, وأفلام كوكب الشرق أم كلثوم. وأمتع ما في هذا القسم مقالة أوتوبيوغرافية عنوانها «ذكريات الصبا في شبين الكوم» يروي فيها المؤلف مشاهد من طفولته وصباه (كان والده مأمورا لقسم الشرطة في شبين الكوم).
والقسم الأخير من الكتاب «مقالات في الدين والتاريخ والعلم» يضم أبحاثا عن طبقات الآخرة في القرآن الكريم, والمستشرق الألماني كارل بروكلمان وتاريخ الشعوب الإسلامية, وحجر رشيد, وجيمز برستد عالم المصريات الأميركي, وعرضا لكتاب الفيلسوف البريطاني برتراند رسل «آمال جديدة في عالم متغير», ومقالا عن المخ البشري والعلم.
سأتوقف هنا وقفة قصيرة عند اثنتين من مقالات الكتاب. إحداهما عن الأديب الفرنسي ألبير كامي والأخرى عن الأديب الأميركي إرنست همنجواي. وقبل ذلك سأتوقف عند مقالة ثالثة أكثر اتساما بالطابع التنظيري العام هي مقالة الناقد البريطاني ر. ا. فكوز عن الصورة الشعرية.
يرى فكوز أن الاستعارة أو المجاز عموما لب الشعر وأنها هي التي تصور وتجسم رؤيا الشاعر التخيلية. إنها تمكننا من تقييم وتذوق الخبرة التي تقدمها القصيدة. ولكي تكون الصورة الشعرية ناجحة يتعين أن تحتوي على استجابة حسية أو حية كافية لجذب انتباه القارئ. ويدلل فكوز على آرائه هذه بإيراد أبيات من مسرحيات شكسبير «مكبث» و«هملت» و«يوليوس قيصر» وقصائد: الفردوس المفقود لميلتون, والوردة العليلة لوليم بليك, والتصميم والاستقلال لوردزورث, والملاح الهرم لكولردج, وأغنية حب ج. ألفرد بروفروك لإليوت محللا بناء هذه الصور ونسيجها اللفظي وكيف تجمع بين المعنى المنطقي وشحنة الوجدان من أجل إحداث التأثير النفسي المطلوب في عقل القارئ وروحه.
فإذا انتقلنا إلى مقالة «يوميات ألبير كامي» وجدنا البطوطي يترجم مقتتطفات من هذه اليوميات التي بدأ الأديب الفرنسي يسطرها في 1935 حين كان في الثانية عشرة من عمره حتى وفاته في حادث سيارة مأساوي عام 1960. تزخر هذه اليوميات بومضات فكرية لامعة (كان كامي دارسا للفلسفة عرف أفكار الفلاسفة الإغريق وأفلوطين ومدرسة الإسكندرية ونتشه معرفة وثيقة) إلى جانب الحس الفني المرهف الذي يخلق صورا شعرية تبتعث روح المكان سواء كان يتحدث عن الجزائر حيث ولد أو عن باريس أو عن أمستردام مسرح روايته الأخيرة «السقوط». ويلخص البطوطي اهتمامات كامي في هذه اليوميات على النحو التالي: (1) أفكار فلسفية وشذرات وصفية كان كامي يدونها أثناء رحلاته أو نتف الأحاديث التي يسمعها من حوله (2) تعليقات على الكتب التي قرأها (3) جمل وأفكار وخواطر كان ينوي أن يضمنها فيما بعد أعماله الأدبية والفلسفية ولكن العمر لم يمتد به حتى يفعل ذلك.
وتلقى اليوميات أضواء شائقة على ما كان يدور بعقل كامي ووجدانه وهو يكتب أعماله الروائية مثل «الغريب» والمسرحية مثل «كاليجولا» و«سوء التفاهم» فضلا عن مواقفه من المسيحية والماركسية والعبث والحرب العالمية الثانية وصراع الآيديولوجيات في القرن العشرين.
والمقالة الأخيرة التي نتوقف عندها هي «همنجواي والسينما» وهي مداخلة ساهم بها البطوطي في احتفالية أقامها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في عام 1999 احتفالا بالذكرى المئوية لمولد همنجواي في 1899. يناقش البطوطي العلاقة بين فني الأدب والسينما موضحا أوجه اللقاء والخلاف بينهما (أبرز هذه الوجوه هي الوسيط الفني المستخدم فالكتابة تعتمد على الكلمات بينما تعتمد السينما على الصورة).
ويمتاز الكتاب إلى جانب طابعه الموسوعي بهوامش يشرح فيها المؤلف الإشارات الأسطورية والتاريخية من عالم الإغريق وغيرهم. ويصوب عددا من الأخطاء الشائعة بين كتابنا ومترجمينا. ويؤكد الصلة بين فن القول من ناحية والفنون التشكيلية من تصوير ونحت والفنون السمعية كالموسيقى والغناء وفنون الأداء كالمسرح والباليه من ناحية أخرى. وثمة إضافات شائقة إلى ما نعرفه عن سنوات تكوين نجيب محفوظ إذ يبين البطوطي كيف أن محفوظ تأثر بكتاب للأديب الإنجليزي جون درينكوتر من ثلاثة أجزاء عنوانه «موجز تاريخ الأدب» صدر في عشرينات القرن الماضي وكذلك إعجاب محفوظ بلوحة للفنان الهولندي فنسنت فان جوخ تصور عددا من السجناء يدورون في حلقات مفرغة رسمها الفنان عام 1890 وهو نزيل مصح عقلي في جنوب فرنسا.
يؤخذ على الكتاب رغم ذلك عدد من الأخطاء الطباعية. كما أن طباعة صور الأدباء واللوحات الفنية بالأبيض والأسود باهتة لا تفيها حقها.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟