سياجات أميركية بأبعاد إنسانية

أصعبها تلك القائمة في الأذهان

مشهد من فيلم «سياجات» إخراج وبطولة دِنزل واشنطن
مشهد من فيلم «سياجات» إخراج وبطولة دِنزل واشنطن
TT

سياجات أميركية بأبعاد إنسانية

مشهد من فيلم «سياجات» إخراج وبطولة دِنزل واشنطن
مشهد من فيلم «سياجات» إخراج وبطولة دِنزل واشنطن

هي بالتأكيد ليست السياجات التي يود دونالد ترمب أن يقيمها، فأميركيتها ودلالاتها أكثر اتساعاً وإنسانية وإبداعية مما يخطر ببال الرئيس الأميركي. شاهدت بعضها في فيلم دِنزل واشنطن «سياجات» (Fences 2016)، واستعدت البعض الآخر من مخزون الذاكرة الشعرية، حين لمعت في الذهن قصيدة الشاعر الأميركي روبرت فروست «ترميم الجدار».
الفيلم عرض العام الماضي، ورشح لعدد من جوائز الأوسكار، حصل منها على واحدة للممثلة فيولا ديفيس (جائزة أفضل ممثل مساعد). وكانت إحدى الترشيحات لواشنطن نفسه الذي أخرج الفيلم، وأخرى للسيناريو الذي تركه الكاتب المسرحي الأميركي أوغست ولسون قبل وفاته عام 2005. وكان ولسون، وهو أفرو - أميركي، قد فاز بجائزة بوليتزر لمسرحيته التي حمل الفيلم عنوانها، وحين رغبت إحدى شركات السينما في تحويلها إلى فيلم، كتب ولسون النص، ولكنه اشترط أن يكون المخرج أميركياً أسود لأن البيض لم يكونوا، حسب ولسون، مؤهلين لفهم خصوصية التجربة الاجتماعية والثقافية للسود، أو الأفارقة الأميركيين. من هنا، كان عدم ظهور الفيلم، حتى أبدى الممثل الأميركي الشهير دِنزل واشنطن رغبته في أن يخرجه، ويمثل دور البطولة أيضاً.
وعلى الرغم من حضورها المتكرر في الفيلم، فلن يلاحظ المشاهد أن للسياجات حضوراً طاغياً، سيبدو له أن ذلك الحضور يظل خافتاً، وأن دلالاتها تظل متوارية. نشاهد تروي ماكسون (واشنطن) وهو ينشر الخشب بنفسه، أو يساعده ابنه في ذلك، تمهيداً لإقامة سياج حول البيت، ويتكرر ذلك بالقدر الذي يجعل التحضير للسياج موتيفة تربط كثيراً من المشاهد، إلى أن تضيء الدلالات عبارة نسمعها عن أن السياج ليس بالضرورة لمنع من بالخارج من الدخول، وإنما هو أحياناً لإبقاء من بالداخل من الخروج، ليس بمعنى التقييد، وإنما بمعنى الحيلولة دون الشتات أو التفرق. وينسجم هذا مع كفاح ولسون لتكوين أسرة بعد حياة مريرة من الممارسات الخاطئة التي أدت به إلى السجن، ثم إلى وظيفة متدنية اجتماعياً (عامل جمع القمامة). يظل السياج حاضراً في الفيلم، لكن خارج بؤرة الشعور، كما يقول النفسانيون، لتتركز الأحداث على علاقة ماكسون بزوجته وابنيه (أحدهما من زيجة سابقة)، وكذلك بأخيه المختل عقلياً، الذي استغل ماكسون مبلغاً خصصته له الحكومة للحصول على منزل له هو.
في بؤرة الفيلم، شخصية واكسمان الذي يتحدث عن كفاحه، وكيف بنى أسرته واختار زوجته وربى أبناءه وكون صداقاته. يكرر الرجل هذا على مسامع الجميع، وعلى نحو استفزازي، لأنه يذكرهم بفضله عليهم، لكنه في إحدى حالات السكر يعترف بأنه عاش حياة أسرية مضطربة، اضطرته للعراك مع والده والخروج عن الأسرة، إلى جانب سعيه لأن يكون لاعب بيسبول، لكنه فشل بسبب التمييز العرقي الذي حال دون شهرته. ويظل التذكير بما تحقق من نجاح متواضع غطاء لفشل على أصعدة أخرى، منها زواجه الأول وعلاقته بأسرته وأخيه وبالمجتمع (فقد سجن لخمسة عشر عاماً بسبب السرقة والقتل). ثم تعقب ذلك حادثتان مفصليتان؛ الأولى صدامه مع ابنه الأصغر الراغب في أن يكون لاعباً مثله، ورفض الأب أن يكرر الابن الخطأ نفسه، وهو صدام يؤدي إلى عراك بين الأب والابن يذكر بما حصل في السابق بين الأب والجد. أما الحادث الآخر، فهو إقامة واكسمان علاقة مع امرأة خارج العلاقة الزوجية، وإنجابها طفلة منه. الصدام الذي يحدث مع زوجته نتيجة اعترافه بما حدث يؤدي إلى قطيعة نهائية معها، رغم استمرارهما في العيش تحت سقف واحد، مع أن الزوجة توافق على احتضان المولودة بعد وفاة أمها أثناء الولادة.
لا شك أن في هذا كله سياجات متنوعة؛ سياجات اجتماعية، سواء بالمعنى الإيجابي (الحماية) أو السلبي (القطيعة والابتعاد)، لكن على المشاهد أن يعمل مخيلته وقدرته التأويلية لقراءة ذلك في مشاهد الفيلم وفي حواراته. ومن تلك التأويلات المحتملة استعمال اسم «تروي» لبطل الفيلم، فالكلمة تشير إلى طروادة (Troy) وسورها الشهير الذي اقتحمه الإغريق بالحصان الشهير؛ أن يحمل بطل الفيلم اسم المدينة الشهيرة بسورها، وتحطم ذلك السور، ليس مما يسهل عزوه إلى مجرد الصدفة.
لكن سوراً آخر أقل شهرة على المستوى العالمي، وإن لم يكن كذلك على المستوى الأميركي، يحضر إلى دلالات الفيلم، حين نستدعي قصيدة روبرت فروست «ترميم الجدار»، فهو حاضر في الذاكرة الأميركية، فاعل حين نضع أنفسنا موضع المشاهد الذي توجهت إليه المسرحية، ثم توجه الفيلم، في المقام الأول. السور الأصغر شأناً، وليس الأقل دلالة، رسمه فروست بين فلاحين يكتشفان بين الحين والآخر أن أحجار الطوب التي تفصل مزرعتيهما لا تتوقف عن التساقط، وعلى نحو غامض، مما يضطرهما لإعادتها وترميم السور. المزارع المتحدث في القصيدة ليس مقتنعاً بضرورة ذلك، لكن الآخر يرى أن «الجدران الجيدة تصنع جيراناً طيبين»، مقولة حفظها من التراث ولا يحيد عنها، على الرغم من محاولات جاره لتغيير موقفه. ما تبرزه القصيدة، إلى جانب موقف الجار التراثي، هو تساؤلات المتحدث: لماذا يتهدم الجدار؟ ومن الذي يهدمه؟ الاحتمالات التي يطرحها ثم يراها غير منطقية تبقي الغموض قائماً، لكنها احتمالات تفضي سريعاً إلى ما يتجاوز المزرعتين والحالين. ما ضرورة الأسوار؟ وهل هي ضد منطق الأشياء؟ هل الطبيعة هي التي ترفض بناءها في أماكن تتعارض مع حركة العناصر المختلفة؟ هل السور رمز لسلطوية الإنسان أم لحبه للتملك؟ وهل تهدّمه هو المآل الطبيعي لكل الأسوار؟ يقول مطلع قصيدة فروست:
شيء ما لا يحب الجدار،
يجعل الأرض المتجمدة تنتفخ تحته،
وينثر الحجارة العليا في الشمس،
تاركاً فجوات تمكن اثنين من المرور متجاورين تحته.
ذلك الشيء هو ما ينثر الغموض على القصيدة منذ البدء، ليستحيل النص إلى لهاث نحو تفسير لما يحدث، لهاث يزيده المتحدث تسارعاً وحدة. لكن القصيدة تقول أيضاً إن هناك من لا يجد في الأمر غموضاً أو مبعثاً على القلق، فالفلاح الآخر المسكون بالإجابات الجاهزة يمثل شريحة من الناس، شريحة نراها في فيلم «سياجات». لكن وجود الإجابات لدى أولئك لا يلغي مشروعية السؤال، ولا يخفف من قلق المتسائلين. وحسب القصيدة أو الفيلم، فإثارة ذلك ودفعنا للتفكير في طبيعة الجدران معناها حاجتنا إليها أو انتفاء تلك الحاجة.
في قصيدة فروست يتضح أن أصعب السياجات هي تلك القائمة في الأذهان، تلك التي تجعل من الصعب حتى زرع السؤال في ذهن الفلاح الآخر، تحريك قناعاته، هز يقينه، دفعه للتفكير خارج ما توارثه وما اعتاد عليه. وذلك ما يتضح أيضاً لمشاهد الفيلم حين يطرح مسألة السياج، وإن على نحو مختلف أو من زوايا أخرى تحضر إليها السياجات بدلالات تتقاطع مع قصيدة فروست، وتخرج عنها في الوقت نفسه.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.