ثورة علي عبد الرازق

مرور مائة وثلاثين عاماً على ميلاده

الشيخ علي عبد الرازق
الشيخ علي عبد الرازق
TT

ثورة علي عبد الرازق

الشيخ علي عبد الرازق
الشيخ علي عبد الرازق

يمر هذا العام مائة وثلاثون عاماً على ميلاد الشيخ على عبد الرازق، أحد أهم المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين ولو اختلف الساسة ورجال الدين، فلقد مثّل بحق ثورة فكرية لا خلاف عليها، بكتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» الذي أصدره عام 1925، في وقت كان فيه العالم الإسلامي متأثراً من القرار السياسي للقائد التركي الجديد «كمال أتاتورك» الذي ألغى الخلافة العثمانية، تاركاً بذلك العالم الإسلامي بلا قيادة سياسية دامت منذ أحداث سقيفة «بني ساعدة»، بعد وفاة المصطفى - صلى الله عليه وسلم. فلقد أصبح العالم الإسلامي بهذا القرار في حالة يُتم فكري وفراغ سياسي (على الأقل من الناحية النظرية). فمن الناحية السياسية، فإن اختفاء القيادة العثمانية، رغم فسادها على مدار القرون، ترك العالم الإسلامي من دون شرعية واضحة مستقاة من تراكم الفكر والتاريخ الإسلاميين. ومن هنا، جاءت حالة الفراغ، بل الصدمة، وبدأت الأفكار في مصر تذهب لتولى «الملك فؤاد» مقاليد الخلافة، وإعلان انتقالها إلى القاهرة، ولكن بعض المصادر التاريخية أشارت إلى أنه كان يرفض، بينما تؤكد مصادر أخرى أنه كان على استعداد.
ووسط هذه الصدمة، صدر الكتاب، فأصبح حديث الساعة لأنه حارب بكل قوة مفهوم الخلافة، بل امتد لفصل مفهوم القضاء عن الشريعة، واعتباره ضمن المنظومة السياسية أيضاً. ولم يكتف بهذا فحسب، فقد أقر بأن الخلافة ما هي إلا اجتهاد ارتبط بحدث محدد، وهو وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فكانت ضرورية آنذاك للحفاظ على الإسلام والدولة التي أقامها الرسول، ولكنها لم تكن فرضاً. والدليل على ذلك أنها قامت على أساس ترشيح أهل الحل والعقد للخليفة، ثم أخذت له البيعة بعد ذلك من دون وجود حتى حديث للنبي - عليه الصلاة والسلام - في هذا الأمر، بل إنه ترك الأمر للمسلمين ليختاروا طريقهم، مؤكداً أن القرآن الكريم لم يتضمن أية إشارة لها من قريب ولا بعيد. ومن ثم، فإن هذا المنصب أو المؤسسة مبتكرة، ويجوز التخلص منها إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، وقد تطرف الرجل في فكره، فاعتبر أن الخلافة كانت «نكبة» - على حد قوله - على الأمة، ولا حاجة للعالم الإسلامي إليها، سواء لدينهم أو دنياهم، مشيراً إلى وجود أنماط من الحكم المختلفة التي يمكن للأقطار الإسلامية الاختيار منها وفقاً لظروفها، وهو ما زاد من صدمة قارئيه.
وقد كان وقع الكتاب بمثابة زلزال فكري، فرغم أن الخلافة كانت قد أُلغيت بالفعل، فإن الأقطار الإسلامية لم تكن مستعدة لهذه الخطوة فكرياً، فلم يكن هناك تمهيد فكري كافٍ يؤهل الأقطار الإسلامية لهذه الخطوة، رغم أن ظروفها كانت قد ارتبط بعنصرين أساسيين: الأول كان بزوغ مفهوم القومية أو الوطنية، والثاني بداية تبلور نظم مختلفة عن الحكم الحديدي للنظام العثماني الحاكم باسم الدين، الذي لم يأبه كثيراً لظروف العالم الإسلامي بقدر ما كان هادفاً للمصالح العثمانية على مدار 4 قرون، فالأقطار الإسلامية مثلت إضافة للدولة العثمانية، والعكس غير صحيح في العموم. ورغم ذلك، فالتيار المعارض بزعامة الأزهر والمفتي وأغلبية من الساسة، على رأسهم سعد زغلول، اشتد على الشيخ علي. ورغم أن كثيرًا منهم لم يصلوا لمرحلة تكفيره، فإن المحاكمة التي نصبها له الأزهر وقفت خطوة سابقة عن هذا الأمر، حيث عقدت محكمة تأديبية للشيخ، وتم فصله من هيئة علماء الدين، على أساس أنه أخرج الحكم عن الشريعة، وتمت معاملته بازدراء، وكتبت فيه الكتب والمقالات التي اتهمه بعضها بالخروج عن أصول الدين.
ولقد استمر الرفض الفكري لهذا الفكر، وبعد مرور قرابة قرن من الزمان، فإن الجميع يتذكر أفكار علي عبد الرازق، واندثرت أغلبية أفكار معارضيه. فاليوم، الأقطار الإسلامية كلها قد خلقت لنفسها شرعية حكم مقبولة في أغلبها لدى شعوبها، ولا يمكن القول إنها في تعارض مع الدين الحنيف. ومن الناحية السياسية، فإنه لا يُنتظر عودة مفهوم الخلافة لعدم توافر الظروف المهيأة لذلك. ومع ذلك، فقيم الإسلام لا تزال تعلو رغم الهجمة الشرسة ضده في الآونة الأخيرة.
لقد مثل علي عبد الرازق في واقع الأمر تطوراً فكرياً هاماً ساعد على التعامل مع ظروف اللحظة المحيطة بالدول الإسلامية آنذاك، رغم بعض تطرفه، فمنحها مخرجاً فكرياً لنظم حكمها كانت في حاجة إليه، عبر السماح بوضع الأسس لشرعية جديدة، وإن كان يؤخذ عليه أن رفضه لمفهوم الخلافة كان مطلقاً، في الوقت الذي وَقت فيه هذه المؤسسة السياسية العالم الإسلامي والدولة الإسلامية الوليدة من كثير من الشرور، بل أنها كانت حتمية لمرحلة زمنية محددة، سواءً لأسباب سياسية أو اجتماعية أو حتى للمساهمة في نشر الإسلام، ولا شك في أنها كانت مصدر قوة مرتبط بتركيبات مختلفة لمفاهيم السياسة في هذه الحقب الزمنية. وتقديري أن الشيخ على عبد الرازق يعد مثالاً لأهمية أن نكون حريصين على استيعاب التطور دون الإخلال بالثوابت، سواء الدينية أو السياسية، بما يستوجب معه العمل على تطوير الفكر، فتُرى كيف كان سيصبح حال المسلمين اليوم لو أن الأقطار الإسلامية لم تجد بديلاً لمفهوم الخلافة حتى الآن؟



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.