لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

العاصمة البريطانية تتحدى «عهد الأمن»

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
TT

لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)

أدمى حادث مانشستر الإرهابي القلوب والعقول جراء بشاعته الكارثية. ومن قبله، عرفت بريطانيا كثيراً من الحوادث الإرهابية المشابهة. وطوال أكثر من عقد، ضرب الإرهاب مواقع ومواضع حساسة في الداخل، كانت أشدها حدة وعنفاً وكراهية تفجيرات السابع من يوليو (تموز) عام 2005، إذ قام 4 أشخاص بالتسبب في 4 تفجيرات انتحارية، 3 منهم حدثت في قطارات لندن تحت الأرض، والانفجار الرابع حدث في حافلة نقل عام تتكون من طابقين. وأسفرت الهجمات عن مصرع 50 شخصاً، وإصابة ما يقرب من 700 آخرين. اثنا عشر عاماً انقضت، خيل فيها للناظر للمشهد هناك أن الحكومات البريطانية المتعاقبة ستضع على رأس أولوياتها محاربة الإرهاب، وشن حملات شعواء لتخليص البلاد من الإرهابيين، لا سيما رؤوس الفتنة من أعضاء الجماعات الأصولية والتكفيرية الذين تحتويهم لندن منذ عقود طوال، من كل الأقطار والأمصار العربية والإسلامية على حد سواء، وجلهم هاربين من العدالة في دولهم بعد صدور أحكام إدانة عليهم بتهم القتل والإرهاب. هل جاء حادث مانشستر الأخير ليغير من طريقة تعاطي بريطانيا مع خلايا العنف وجماعات الإسلام السياسي التي تسبغ عليها حمايتها، حتى وإن تسببت في قتل المواطنين الآمنين الأبرياء؟
عدة حقائق مثيرة للجدل في السياسات البريطانية، لا سيما في الأعوام السبعة الماضية، التي عرف فيها العالم العربي تلك الظاهرة التي أطلق عليها «الربيع العربي». وفى المقدمة من تلك الحقائق، أنه قد ثبت للعالم، شرقاً وغرباً، الدموية والإرهاب اللذان غلفا تلك الجماعات في دول العالم العربي، كالإخوان المسلمين في دول شمال أفريقيا، لا سيما في مصر تحديداً، ومع ذلك لم تحرك ساكناً، وبدا كأن موت الأبرياء في العالم العربي، وحرق المنازل والممتلكات، عطفاً على دور العبادة، أمر يتفق وحقوق الإرهابيين... ما هدف بريطانيا من التحالف مع هؤلاء الإرهابيين؟
الشاهد أنه في الأيام القليلة الماضية، التي أعقبت حادث مانشستر، أشارت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي إلى أن بريطانيا قررت تأسيس «لجنة مكافحة التطرف»، وتقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن مهام اللجنة ستتمركز حول تحديد التطرف في المجتمعات الداخلية التي تمثل تهديداً للقيم البريطانية.
على أن فكرة اللجنة بدت هلامية، ذلك أنها جاءت دون رؤية استشرافية لمكافحة جذرية للإرهاب في الداخل أو الخارج، سيما بعد أن أثبتت التحقيقات الأولية أن «سلمان العبيدي»، إرهابي مانشستر، يعبر عن عينة قاتلة من الإرهابيين القائمين والنائمين بين حنايا أضلع البريطانيين، بل أكثر من ذلك أنه كان تحت سمع وبصر أجهزة الأمن البريطانية، سواء MI5 في الداخل أو MI6 في الخارج، وتحركاته تجاه سوريا وليبيا، وانتماءات والده مكشوفة ومعروفة، مما يعني أن الحديث عن مثل تلك اللجنة لا يتجاوز تطيب خواطر البريطانيين المجروحة، وتهدئة الرأي العام البريطاني الثائر والغاضب، دون نيات حقيقية لقتال شرس وعنيف ضد الأصولية الساكنة في الدروب البريطانية.
ما يجري في بريطانيا يدفعنا دفعاً في طريق 3 أسئلة لا بد من الجواب عنها حتى نفهم أبعاد الازدواجية البريطانية في التعامل مع الإرهاب الدولي والشرق أوسطي بنوع خاص:
أولاً: هل لدى بريطانيا بالفعل إرادة سياسية حقيقية للقضاء على الإرهاب، داخلها وخارجها، قضاء مبرماً، ومواجهة التطرف دفعة واحدة، أم أنها تلعب على متناقصات لا يعرفها البريطانيون أنفسهم، ولا تتوافر المعرفة هذه إلا للخبراء في مجال تاريخ علاقة بريطانيا بجماعات الإسلام السياسي؟
ثانياً: إذا كانت ماي راغبة فعلاً في مجابهة ناجعة للإرهاب، فهل حكومتها قادرة على طرد كل من يعيشون على أراضيها من قيادات متطرفة، واعتبار الجماعات التي تؤيد العمليات التكفيرية والانتحارية مجموعات إرهابية، سيما أن الدول التي جاءوا منها قدم مسؤولوها ملفات كاملة للحكومات البريطانية المتعاقبة تدينهم؟
أحد أفضل العقول البريطانية التي تفك لنا شفرة السلوك البريطاني تجاه المتطرفين والإرهابيين هو مارك كورتيس، المؤلف والصحفي والمستشار البريطاني الشهير، الذي عمل من قبل زميلاً باحثًا في المعهد الملكي للشؤون الدولية.
عبر كتابه الحاوي للأسرار، والمعنون: «شؤون سرية تحالف بريطانيا مع الأصولية الإسلامية»، الذي يقع في نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير، يدرك المرء أن المصلحة الخاصة البريطانية طوال أكثر من قرن من الزمان، وبالضبط منذ نشأة القومية العربية ومجابهتها للاحتلالين العثماني والإنجليزي على حد سواء، كانت هي الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية، وأن المبادئ والقيم ليس لها مكان فيها، وأنها استندت في ذلك أساساً على سياسة فرق تسد، وتقلبت في التعامل مع كل الأطراف المتضاربة، كما يوضح أيضاً كم كانت بريطانيا ماهرة وماكرة في التلاعب بكل الأطراف، وأن أكثر من استغلتهم ثم نبذتهم عندما لم يعد لهم جدوى وانتفى الغرض منهم، هم المتأسلمون.
كتاب «مارك كورتيس» ثروة فكرية للذين يتطلعون إلى فهم الدعم البريطاني للأصولية بنوع خاص... خذ إليك على سبيل المثال الفصل السادس عشر من هذا العمل الكبير والخطير، وعنوانه «لندنستان: ضوء أخضر للإرهاب»، ولا يفوت القارئ هنا أن تسمية العاصمة البريطانية بـ«لندنستان»، فيه من المترادفات لـ «أفغانستان».
يخبرنا كورتيس أن لندن في التسعينات كانت مركزاً من مراكز العالم الكبرى بالنسبة للجماعات المتطرفة، على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وجماعة الجهاد المصرية، و«القاعدة» نفسها من خلال مكتبها، ولجنة الشورى والإصلاح، وكانت كلها قد أنشأت قواعد في لندن.
تحولت لندن على هذا النحو للمركز العصبي لتنظيم القاعدة الذي يشرف على عملياتها في أوروبا كافة، بل إن «آدم ناثان»، في كتابه عن «القاعدة» يقول إن كثيرين من معاوني بن لادن الرئيسيين كانوا يعملون من هناك، وتم جمع ملايين الجنيهات في بريطانيا لتمويل قضايا الإرهاب، وتجنيد «المجاهدين» للقتال في شتى أنحاء العالم، من أفغانستان إلى اليمن.
سطور كتاب «كورتيس» تقودنا إلى تأكيد أن الآلاف من الأفراد الذين يتخذون من لندن مقراً لهم مروا من خلال معسكرات التدريب التابعة لـ«القاعدة» في التسعينات، وبحلول الوقت الذي حدثت فيه تفجيرات لندن (2005)، بلغ عددهم نحو 3 آلاف، حسب قول اللورد ستيفنز، رئيس شرطة العاصمة السابق.
لماذا صمتت التحقيقات الجنائية داخل بريطانيا على هذه الأوضاع؟
الثابت أن التحقيق الرسمي الذي أجرته وزارة الداخلية البريطانية في التفجيرات على نحو مخادع جاء فيه أنه: «أصبح من المعروف حالياً أنه حدث خلال التسعينات تدفق من الشبان المسلمين من المملكة المتحدة وأماكن أخرى، الذين سافروا إلى باكستان وأفغانستان من أجل التمذهب أو (الجهاد)».
والواقع أن هذا كان أمراً معروفاً في ذلك الوقت، ولم تتسامح معه السلطات البريطانية فحسب، ولكن ربما ساندته بنشاط، مثلما رأينا في مشاركة «المجاهدين» البريطانيين في حربي البوسنة وكوسوفو.
هل فكرة «عهد الأمن» بين المتأسلمين المتطرفين في بريطانيا وإدارات الأمن، الذي هو سمة أساسية للندنستان هي السبب في تلك العلاقة المريبة والغريبة؟
يصف «كريسبن بلاك»، وهو محلل سابقاً لمعلومات المخابرات في رئاسة مجلس الوزراء، هذا العهد باعتباره عادة بريطانية قديمة العهد في توفير الملجأ والرفاهية للمتطرفين المتأسلمين، على أساس افتراضي بأننا إذا وفرنا لهم الملاذ الآمن هنا، فإنهم لن يهاجمونا على هذه الشطآن، ويضيف ضابط آخر في الفرع الخاص أنه «كانت هناك صفقة مع من يسميهم (شذاذ الآفاق) هؤلاء، فقد أخبرناهم أنكم إن لم تسببوا لنا أي مشكلات، فإننا لن نضايقكم». ولا يمكن تفسير العهد المذكور إلا باعتباره أمراً غير عادي على الإطلاق، يعادل إعطاء ضوء أخضر من «هوايتهول» لجماعات لكي تضطلع بأنشطة إرهابية في الخارج. والمقطوع به أن اعترافات تشكيلة من الشخصيات المتأسلمة التي يذكرها «كورتيس» تدلل على ذلك، ومن بينها:
أبو حمزة، الإمام السابق لمسجد فنسبري بارك. ففي محاكمته في «أولدبيلي»، قال إنه يعتقد أن صفقة كانت سارية بمقتضاها يتم التسامح مع أنشطته ما دام أنها تستهدف بلاداً أجنبية فحسب. وذكر كيف طمأنه جناح المخابرات في «سكوتلنديارد»، الفرع الخاص، بأنه «ليس لديك أي شيء تقلق منه، ما دمنا لم نر دماً في الشوارع».
** خالد الفواز، رئيس مكتب بن لادن في لندن في منتصف التسعينات، كان قد أخبر ريشار لايفيه، الصحفى السويسري في أبريل (نيسان) 1998، بأن لندن هي المقر الرئيسي لرابطتنا... فالسلطات متسامحة، ما دام لا يتدخل المرء في مسائل السياسية الداخلية.
** في أغسطس (آب) من عام 1998، وصف عمر بكرى محمد، الذي كان قد أقام منظمة «المهاجرون» المتشددة كيف «أنني أعمل هنا بمقتضى عهد للسلام أبرمته مع الحكومة البريطانية عندما حصلت على حق اللجوء السياسي».
لاحقاً، وبعد ذلك بنحو 8 أشهر، أضاف بكرى في حوار آخر: «إن الحكومة البريطانية تعرف من نحن، لقد استجوبنا جهاز المخابرات الداخلية مرات كثيرة، وأعتقد أن لدينا الآن شيئاً يسمى الحصانة العامة». يعن للمتابع لقضية «عهد الأمن» هذا أن يتساءل: ماذا كانت سياسات بريطانيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في واشنطن ونيويورك؟
ومن الواضح تاريخياً أن العهد تعرض للضغط والاهتزاز، عندما شرعت حكومة تونى بلير في إصدار تشريع أكثر حزماً لمحاربة الإرهاب. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2001، أصدر المهاجرون بياناً ذكر صراحة العهد والأخطار التي يواجهها، بيان بمثابة تهديد لبريطانيا جاء فيه: «في الوقت الحالي، فإن المسلمين في المملكة المتحدة ملتزمون بعهد أمن يمنعهم من العدوان على حياة أي شخص يعيش هنا أو ثروته (...) بيد أن نظام بلير يجلس على صندوق مليء بالديناميت، وعليه أن يلوم نفسه فقط إذا ما انفجر في وجهه بعد مهاجمته للحركات الإسلامية والعلماء المسلمين».
لم يمت «عهد الأمن» في كل الأحوال بعد 11 سبتمبر 2001، وربما كانت الحرب على أفغانستان، ثم احتلال العراق بشراكة أميركية بريطانية بين جورج بوش الابن وتوني بلير، قد أحيت هذا العهد، غير أن سنوات الربيع العربي التي تسببت في نزوح مئات الآلاف من اللاجئين غيرت الشكل الديموغرافي للحضور العربي والإسلامي في أوروبا عموماً. ورغم أن نصيب بريطانيا من اللاجئين ضئيل، فإن هناك وبصورة مؤكدة كثير من الخلايا الإرهابية التي تسللت من الخارج من جهة، فيما الأخطر هو نشوء وارتقاء جماعات جديدة في الداخل البريطاني ولدت من رحم سكان لندنستان التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
على أن علامة الاستفهام الأخيرة والمثيرة: لماذا صبرت بريطانيا على إرهابييها بعد أن خرقوا عهد الأمن من يوليو 2005، وصولاً إلى مايو (أيار) 2017 وحادث مانشستر، أي طوال اثني عشر عاماً؟ ثم هل حان الوقت الآن لفسخ هذا التعاقد؟ أم أن لدى بريطانيا ما تخشى من إماطة اللثام عنه، لا سيما استخدام هؤلاء حول العالم كبيادق على رقعة شطرنج لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هل من خلاصة قبل الانصراف؟
مما لا شك فيه أن سياسات بريطانية كانت ولا تزال قاصرة، فقد انتهجت سياسة التلاعب بالمتطرفين، مما زاد الإرهاب داخل بريطانيا وخارجها، بل إن سياساتها قوضت النظم القومية والعلمانية في الشرق الأوسط، وأسهمت في صعود الإسلاميين المتطرفين.
وإذا كانت دول الشرق الأوسط قد دفعت فاتورة باهظة الثمن جراء تلك السياسات، فإن حديث مانشستر الأخير يدق جرس الخطر النهائي لبريطانيا ولعهودها مع الراديكاليين الذين لا عهود لهم... فانظر ماذا ترى؟


مقالات ذات صلة

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك رجل مريض بالسرطان (رويترز)

هل يقلل التعافي من السرطان احتمالات الإصابة بألزهايمر؟

منذ سنوات، بدأ الباحثون وخبراء الصحة في دراسة العلاقة بين السرطان وألزهايمر، وما إذا كان التعافي من المرض الخبيث يقلل فرص الإصابة بألزهايمر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.