لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

العاصمة البريطانية تتحدى «عهد الأمن»

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
TT

لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)

أدمى حادث مانشستر الإرهابي القلوب والعقول جراء بشاعته الكارثية. ومن قبله، عرفت بريطانيا كثيراً من الحوادث الإرهابية المشابهة. وطوال أكثر من عقد، ضرب الإرهاب مواقع ومواضع حساسة في الداخل، كانت أشدها حدة وعنفاً وكراهية تفجيرات السابع من يوليو (تموز) عام 2005، إذ قام 4 أشخاص بالتسبب في 4 تفجيرات انتحارية، 3 منهم حدثت في قطارات لندن تحت الأرض، والانفجار الرابع حدث في حافلة نقل عام تتكون من طابقين. وأسفرت الهجمات عن مصرع 50 شخصاً، وإصابة ما يقرب من 700 آخرين. اثنا عشر عاماً انقضت، خيل فيها للناظر للمشهد هناك أن الحكومات البريطانية المتعاقبة ستضع على رأس أولوياتها محاربة الإرهاب، وشن حملات شعواء لتخليص البلاد من الإرهابيين، لا سيما رؤوس الفتنة من أعضاء الجماعات الأصولية والتكفيرية الذين تحتويهم لندن منذ عقود طوال، من كل الأقطار والأمصار العربية والإسلامية على حد سواء، وجلهم هاربين من العدالة في دولهم بعد صدور أحكام إدانة عليهم بتهم القتل والإرهاب. هل جاء حادث مانشستر الأخير ليغير من طريقة تعاطي بريطانيا مع خلايا العنف وجماعات الإسلام السياسي التي تسبغ عليها حمايتها، حتى وإن تسببت في قتل المواطنين الآمنين الأبرياء؟
عدة حقائق مثيرة للجدل في السياسات البريطانية، لا سيما في الأعوام السبعة الماضية، التي عرف فيها العالم العربي تلك الظاهرة التي أطلق عليها «الربيع العربي». وفى المقدمة من تلك الحقائق، أنه قد ثبت للعالم، شرقاً وغرباً، الدموية والإرهاب اللذان غلفا تلك الجماعات في دول العالم العربي، كالإخوان المسلمين في دول شمال أفريقيا، لا سيما في مصر تحديداً، ومع ذلك لم تحرك ساكناً، وبدا كأن موت الأبرياء في العالم العربي، وحرق المنازل والممتلكات، عطفاً على دور العبادة، أمر يتفق وحقوق الإرهابيين... ما هدف بريطانيا من التحالف مع هؤلاء الإرهابيين؟
الشاهد أنه في الأيام القليلة الماضية، التي أعقبت حادث مانشستر، أشارت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي إلى أن بريطانيا قررت تأسيس «لجنة مكافحة التطرف»، وتقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن مهام اللجنة ستتمركز حول تحديد التطرف في المجتمعات الداخلية التي تمثل تهديداً للقيم البريطانية.
على أن فكرة اللجنة بدت هلامية، ذلك أنها جاءت دون رؤية استشرافية لمكافحة جذرية للإرهاب في الداخل أو الخارج، سيما بعد أن أثبتت التحقيقات الأولية أن «سلمان العبيدي»، إرهابي مانشستر، يعبر عن عينة قاتلة من الإرهابيين القائمين والنائمين بين حنايا أضلع البريطانيين، بل أكثر من ذلك أنه كان تحت سمع وبصر أجهزة الأمن البريطانية، سواء MI5 في الداخل أو MI6 في الخارج، وتحركاته تجاه سوريا وليبيا، وانتماءات والده مكشوفة ومعروفة، مما يعني أن الحديث عن مثل تلك اللجنة لا يتجاوز تطيب خواطر البريطانيين المجروحة، وتهدئة الرأي العام البريطاني الثائر والغاضب، دون نيات حقيقية لقتال شرس وعنيف ضد الأصولية الساكنة في الدروب البريطانية.
ما يجري في بريطانيا يدفعنا دفعاً في طريق 3 أسئلة لا بد من الجواب عنها حتى نفهم أبعاد الازدواجية البريطانية في التعامل مع الإرهاب الدولي والشرق أوسطي بنوع خاص:
أولاً: هل لدى بريطانيا بالفعل إرادة سياسية حقيقية للقضاء على الإرهاب، داخلها وخارجها، قضاء مبرماً، ومواجهة التطرف دفعة واحدة، أم أنها تلعب على متناقصات لا يعرفها البريطانيون أنفسهم، ولا تتوافر المعرفة هذه إلا للخبراء في مجال تاريخ علاقة بريطانيا بجماعات الإسلام السياسي؟
ثانياً: إذا كانت ماي راغبة فعلاً في مجابهة ناجعة للإرهاب، فهل حكومتها قادرة على طرد كل من يعيشون على أراضيها من قيادات متطرفة، واعتبار الجماعات التي تؤيد العمليات التكفيرية والانتحارية مجموعات إرهابية، سيما أن الدول التي جاءوا منها قدم مسؤولوها ملفات كاملة للحكومات البريطانية المتعاقبة تدينهم؟
أحد أفضل العقول البريطانية التي تفك لنا شفرة السلوك البريطاني تجاه المتطرفين والإرهابيين هو مارك كورتيس، المؤلف والصحفي والمستشار البريطاني الشهير، الذي عمل من قبل زميلاً باحثًا في المعهد الملكي للشؤون الدولية.
عبر كتابه الحاوي للأسرار، والمعنون: «شؤون سرية تحالف بريطانيا مع الأصولية الإسلامية»، الذي يقع في نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير، يدرك المرء أن المصلحة الخاصة البريطانية طوال أكثر من قرن من الزمان، وبالضبط منذ نشأة القومية العربية ومجابهتها للاحتلالين العثماني والإنجليزي على حد سواء، كانت هي الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية، وأن المبادئ والقيم ليس لها مكان فيها، وأنها استندت في ذلك أساساً على سياسة فرق تسد، وتقلبت في التعامل مع كل الأطراف المتضاربة، كما يوضح أيضاً كم كانت بريطانيا ماهرة وماكرة في التلاعب بكل الأطراف، وأن أكثر من استغلتهم ثم نبذتهم عندما لم يعد لهم جدوى وانتفى الغرض منهم، هم المتأسلمون.
كتاب «مارك كورتيس» ثروة فكرية للذين يتطلعون إلى فهم الدعم البريطاني للأصولية بنوع خاص... خذ إليك على سبيل المثال الفصل السادس عشر من هذا العمل الكبير والخطير، وعنوانه «لندنستان: ضوء أخضر للإرهاب»، ولا يفوت القارئ هنا أن تسمية العاصمة البريطانية بـ«لندنستان»، فيه من المترادفات لـ «أفغانستان».
يخبرنا كورتيس أن لندن في التسعينات كانت مركزاً من مراكز العالم الكبرى بالنسبة للجماعات المتطرفة، على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وجماعة الجهاد المصرية، و«القاعدة» نفسها من خلال مكتبها، ولجنة الشورى والإصلاح، وكانت كلها قد أنشأت قواعد في لندن.
تحولت لندن على هذا النحو للمركز العصبي لتنظيم القاعدة الذي يشرف على عملياتها في أوروبا كافة، بل إن «آدم ناثان»، في كتابه عن «القاعدة» يقول إن كثيرين من معاوني بن لادن الرئيسيين كانوا يعملون من هناك، وتم جمع ملايين الجنيهات في بريطانيا لتمويل قضايا الإرهاب، وتجنيد «المجاهدين» للقتال في شتى أنحاء العالم، من أفغانستان إلى اليمن.
سطور كتاب «كورتيس» تقودنا إلى تأكيد أن الآلاف من الأفراد الذين يتخذون من لندن مقراً لهم مروا من خلال معسكرات التدريب التابعة لـ«القاعدة» في التسعينات، وبحلول الوقت الذي حدثت فيه تفجيرات لندن (2005)، بلغ عددهم نحو 3 آلاف، حسب قول اللورد ستيفنز، رئيس شرطة العاصمة السابق.
لماذا صمتت التحقيقات الجنائية داخل بريطانيا على هذه الأوضاع؟
الثابت أن التحقيق الرسمي الذي أجرته وزارة الداخلية البريطانية في التفجيرات على نحو مخادع جاء فيه أنه: «أصبح من المعروف حالياً أنه حدث خلال التسعينات تدفق من الشبان المسلمين من المملكة المتحدة وأماكن أخرى، الذين سافروا إلى باكستان وأفغانستان من أجل التمذهب أو (الجهاد)».
والواقع أن هذا كان أمراً معروفاً في ذلك الوقت، ولم تتسامح معه السلطات البريطانية فحسب، ولكن ربما ساندته بنشاط، مثلما رأينا في مشاركة «المجاهدين» البريطانيين في حربي البوسنة وكوسوفو.
هل فكرة «عهد الأمن» بين المتأسلمين المتطرفين في بريطانيا وإدارات الأمن، الذي هو سمة أساسية للندنستان هي السبب في تلك العلاقة المريبة والغريبة؟
يصف «كريسبن بلاك»، وهو محلل سابقاً لمعلومات المخابرات في رئاسة مجلس الوزراء، هذا العهد باعتباره عادة بريطانية قديمة العهد في توفير الملجأ والرفاهية للمتطرفين المتأسلمين، على أساس افتراضي بأننا إذا وفرنا لهم الملاذ الآمن هنا، فإنهم لن يهاجمونا على هذه الشطآن، ويضيف ضابط آخر في الفرع الخاص أنه «كانت هناك صفقة مع من يسميهم (شذاذ الآفاق) هؤلاء، فقد أخبرناهم أنكم إن لم تسببوا لنا أي مشكلات، فإننا لن نضايقكم». ولا يمكن تفسير العهد المذكور إلا باعتباره أمراً غير عادي على الإطلاق، يعادل إعطاء ضوء أخضر من «هوايتهول» لجماعات لكي تضطلع بأنشطة إرهابية في الخارج. والمقطوع به أن اعترافات تشكيلة من الشخصيات المتأسلمة التي يذكرها «كورتيس» تدلل على ذلك، ومن بينها:
أبو حمزة، الإمام السابق لمسجد فنسبري بارك. ففي محاكمته في «أولدبيلي»، قال إنه يعتقد أن صفقة كانت سارية بمقتضاها يتم التسامح مع أنشطته ما دام أنها تستهدف بلاداً أجنبية فحسب. وذكر كيف طمأنه جناح المخابرات في «سكوتلنديارد»، الفرع الخاص، بأنه «ليس لديك أي شيء تقلق منه، ما دمنا لم نر دماً في الشوارع».
** خالد الفواز، رئيس مكتب بن لادن في لندن في منتصف التسعينات، كان قد أخبر ريشار لايفيه، الصحفى السويسري في أبريل (نيسان) 1998، بأن لندن هي المقر الرئيسي لرابطتنا... فالسلطات متسامحة، ما دام لا يتدخل المرء في مسائل السياسية الداخلية.
** في أغسطس (آب) من عام 1998، وصف عمر بكرى محمد، الذي كان قد أقام منظمة «المهاجرون» المتشددة كيف «أنني أعمل هنا بمقتضى عهد للسلام أبرمته مع الحكومة البريطانية عندما حصلت على حق اللجوء السياسي».
لاحقاً، وبعد ذلك بنحو 8 أشهر، أضاف بكرى في حوار آخر: «إن الحكومة البريطانية تعرف من نحن، لقد استجوبنا جهاز المخابرات الداخلية مرات كثيرة، وأعتقد أن لدينا الآن شيئاً يسمى الحصانة العامة». يعن للمتابع لقضية «عهد الأمن» هذا أن يتساءل: ماذا كانت سياسات بريطانيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في واشنطن ونيويورك؟
ومن الواضح تاريخياً أن العهد تعرض للضغط والاهتزاز، عندما شرعت حكومة تونى بلير في إصدار تشريع أكثر حزماً لمحاربة الإرهاب. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2001، أصدر المهاجرون بياناً ذكر صراحة العهد والأخطار التي يواجهها، بيان بمثابة تهديد لبريطانيا جاء فيه: «في الوقت الحالي، فإن المسلمين في المملكة المتحدة ملتزمون بعهد أمن يمنعهم من العدوان على حياة أي شخص يعيش هنا أو ثروته (...) بيد أن نظام بلير يجلس على صندوق مليء بالديناميت، وعليه أن يلوم نفسه فقط إذا ما انفجر في وجهه بعد مهاجمته للحركات الإسلامية والعلماء المسلمين».
لم يمت «عهد الأمن» في كل الأحوال بعد 11 سبتمبر 2001، وربما كانت الحرب على أفغانستان، ثم احتلال العراق بشراكة أميركية بريطانية بين جورج بوش الابن وتوني بلير، قد أحيت هذا العهد، غير أن سنوات الربيع العربي التي تسببت في نزوح مئات الآلاف من اللاجئين غيرت الشكل الديموغرافي للحضور العربي والإسلامي في أوروبا عموماً. ورغم أن نصيب بريطانيا من اللاجئين ضئيل، فإن هناك وبصورة مؤكدة كثير من الخلايا الإرهابية التي تسللت من الخارج من جهة، فيما الأخطر هو نشوء وارتقاء جماعات جديدة في الداخل البريطاني ولدت من رحم سكان لندنستان التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
على أن علامة الاستفهام الأخيرة والمثيرة: لماذا صبرت بريطانيا على إرهابييها بعد أن خرقوا عهد الأمن من يوليو 2005، وصولاً إلى مايو (أيار) 2017 وحادث مانشستر، أي طوال اثني عشر عاماً؟ ثم هل حان الوقت الآن لفسخ هذا التعاقد؟ أم أن لدى بريطانيا ما تخشى من إماطة اللثام عنه، لا سيما استخدام هؤلاء حول العالم كبيادق على رقعة شطرنج لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هل من خلاصة قبل الانصراف؟
مما لا شك فيه أن سياسات بريطانية كانت ولا تزال قاصرة، فقد انتهجت سياسة التلاعب بالمتطرفين، مما زاد الإرهاب داخل بريطانيا وخارجها، بل إن سياساتها قوضت النظم القومية والعلمانية في الشرق الأوسط، وأسهمت في صعود الإسلاميين المتطرفين.
وإذا كانت دول الشرق الأوسط قد دفعت فاتورة باهظة الثمن جراء تلك السياسات، فإن حديث مانشستر الأخير يدق جرس الخطر النهائي لبريطانيا ولعهودها مع الراديكاليين الذين لا عهود لهم... فانظر ماذا ترى؟


مقالات ذات صلة

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك رجل مريض بالسرطان (رويترز)

هل يقلل التعافي من السرطان احتمالات الإصابة بألزهايمر؟

منذ سنوات، بدأ الباحثون وخبراء الصحة في دراسة العلاقة بين السرطان وألزهايمر، وما إذا كان التعافي من المرض الخبيث يقلل فرص الإصابة بألزهايمر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».