آرثر ميللر ومستنقع الحلم الأميركي

«موت بائع متجول» في «لوحة مائية» ألمانية

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

آرثر ميللر ومستنقع الحلم الأميركي

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

أراد الكاتب الأميركي الكبير آرثر ميللر لمأساته الاجتماعية «موت بائع متجول»، في أربعينات القرن الماضي، أن تعكس تبدد حلم النجاح والثروة والأخلاق في «بلد الممكنات» أميركا. لكن المخرج الألماني رافائيل سانشيز يتحفنا بـ«لوحة مائية» فنية حديثة من موت بائع متجول في عصر الرئيس الأميركي دونالد ترمب على مسرح مدينة كولون الكبير.
تدور المسرحية حول البائع المتجول ويلي لومان الذي يعود من سفرة فاشلة لترويج بضائعه، ويتعرض إلى حادث سيارة كاد يودي بحياته. يعاني لومان من كساد عمله بعد 40 سنة من التجوال بين المدن، ويرفض رئيس عمله هوارد توظيفه في مكتب ثابت في المدينة، ثم يقرر طرده من العمل بعد أن تجاوز الستين من العمر.
يكوّن لومان، الفاشل والمحبط، وزوجته ليندا مع ابنيهما بيف وهابي عائلة أميركية مفككة، يفشل الولدان في بناء حياتيهما، ويفقد الابنان كل احترام للأب، خصوصاً بعد أن يضبط بيف والده في سرير عاملة فندق تعرف عليها في جولاته التجارية.
لا أحد يمنح ويلي الثقة بأحلامه سوى زوجته ليندا، لكنها تفشل بدورها في ترميم الصدع وتبديد أجواء عدم الثقة بين الأب والابنين. ولا يمنح ويلي الفرصة حتى لأقرب أصدقائه كي ينتزعوه من دوامة الفشل التي يدور بها، ويكابر في ثقته بالمستقبل رغم غرقه في الديون.
في النهاية لا يجد ويلي طريقة لانتشال مشروع ابنه بيف من الفشل، وبعد أن فشل بيف في الاستدانة، غير أن ينتحر ويلفق حادث سيارة كي ينال قيمة التأمين. ويذهب انتحاره أدراج الرياح، لأن بيف يرفض التحول إلى تاجر، ويصر هابي على مواصلة الحياة العبثية التي انتهجها والده.
يموت ويلي بعد أن عاش «أحلام غيره» كما يقول الابن بيف في تأبين الأب. وتنخرط ليندا في الجنازة بالبكاء، وتعلن «تحررها» من متاهة الحياة في مجتمع لا يرحم.
يحافظ سانشيز في رؤيته الجديدة للمسرحية على روح النص الاجتماعي لميللر، لكنه يستخدم رؤياه الخاصة للديكور والإنارة ليقدم لنا نموذجاً نادراً من الأعمال المسرحية، إذ حوّل سانشيز مساحة 20 × 10 أمتار من مساحة مسرح «شاوشبيل هاوس» (لا يقل عرضه عن 30 متراً) إلى حوض ماء يزيد عمقه على عشرة سنتيمترات. وعلى هذا المسطح المائي الضحل يؤدي الممثلون أدوارهم طوال المسرحية التي استغرق عرضها ساعتين.
ولا يزيد الديكور عن منضدة بيضاء وأربعة مقاعد بيضاء في وسط المسرح تبدو مثل جزيرة أحلام أميركية يهدد التسونامي بتحويلها إلى حضارة أطلانطس الغارقة. واستخدم سانشيز مكعباً خشبياً هائلاً (ربما أنه خمسة أمتار مكعبة)، يتدلى من أعلى المسرح، بمثابة «ثرية» يسلط منها ضوء ثابت على المنضدة والمقاعد. وحافظ المخرج على خلفية المسرح السوداء كي تنعكس عليها حركة الماء عند تسليط الضوء عليها من الجوانب، فكان المسرح بأكمله يتحول إلى حوض مائي يعكس كل حركة للماء تحت أقدام الممثلين.
وتنعكس صور موجات المياه الهادئة، والعنيفة أحيناً، على المكعب الخشبي المعلق، ولكن بلون بنفسجي أسود. وعجزت عن اكتشاف الطريقة التي نفذ بها المخرج هذه الانعكاسات رغم بحثي أكثر من مرة عن مصدر الضوء (أو عارض الفيديو) الذي يحقق ذلك. وعلى أي حال كان الماء مصدر الحياة والموت والديكور في هذا العمل المسرحي.
كان الضوء ينطلق أحياناً من مصدر ضوء جانبي (على سطح المسرح) بلون فوسفوري أبيض ينعكس، في بعض المشاهد على قوائم المنضدة والمقاعد المعدنية فتلتمع كما في ملهى أو مرقص ديسكو أو مطعم، وخصوصاً في المشهد الذي يجمع ويلي لومان (البائع المتجول) مع ولديه في المطعم، وفي مشهد الابن بيف مع صديقته، أو في مشهد ويلي وهو يخون زوجته مع عاملة الاستعلامات في أحد المطاعم.
يتحول المسطح المائي بالتدريج إلى مستنقع ملوث بفعل حركة الممثلين وإلقائهم أعقاب السجائر وعلب المشروبات والفضلات وأكياس البلاستيك...إلخ. ومع قرب المسرحية من الانتهاء يبدأ الماء في الارتفاع قليلاً على المسرح، كما تختفي الإضاءة المسلطة على الماء بالتدريج، فيصبح الماء داكن اللون مثل خلفية المسرح.
وفي هذا المستنقع الأميركي البيئي الملوث، الذي يستدعي إلى الأذهان تنصل ترمب من اتفاقية المناخ في باريس، ينتحر ويلي لومان في النهاية مفتعلاً حادثة غرق عرضي كي يحظى بقيمة التأمين البالغة 20 ألف دولار. هذا المبلغ الذي يفترض أن يتيح لابنه بيف بدء مشروعه الذي لا يتحقق. ومعروف في النص أن البائع المتجول، المحبط من الفشل والحياة والأبناء، يلفق حادثة سيارة في انتحاره.
وهذا ليس كل شيء؛ إذ يبدو أن المخرج سانشيز لاحظ بحسه المرهف أوجه الشبه بين الابن بيف ورئيس العمل بيرنارد، وأوجه التشابه بين الابن الآخر هابي وابن صديقه بيرنادر، فجعل الممثلين كليهما يؤديان الأدوار الأربعة. إذ لا يختلف الابنان في هذه العائلة المفككة في نظرتيهما، لويلي المهزوم والعاجز عن تحقيق أي من أحلامه، عن نظرة رئيس العمل الذي يقرر طرد ويلي من العمل بعد 40 سنة من التجوال. كما استخدم المخرج الممثلة نفسها، دونما كثير من التغيير في الماكياج والزي، لتمثل دور عشيقة ويلي ودور صديقة ابنه بيف، وعبر بذلك من جديد عن السقوط الأخلاقي الذي أراده ميللر.
يقول الألمان إن «البلل أصاب أصابع أقدامهم» تعبيراً عن الخذلان والفشل، ولذلك لا يمنح المخرج الفرصة للمشاهدين لتجفيف أقدامهم طوال فترة العرض. فليست هناك استراحة، واستخدم سانشيز عازف الترامبيت المعروف بابلو غيف ليرافق المشاهد بموسيقاه وهو يدور في الظلام حول الماء، وليملأ فترات استعادة النفس القصيرة التي تتوفر للمشاهدين، فكانت موسيقاه تهدأ وتصخب مع هدوء وانفلات مشاعر الشخصيات. ولا أدري إن كان سانشيز تعمد اختيار الترامبيت دون غيرها من الآلات الموسيقية بالعلاقة مع اسم الرئيس الأميركي الجديد.
نال الممثلون قدراً كبيراً من التهليل والتصفيق بعد إسدال الستار على حوض الماء. وسبح الممثل المعروف بيتر لوماير حقاً في بحر التصفيق لقاء أدائه الرائع لدور ويلي لومان، خصوصا أنه اضطر خلال أسبوع إلى أخذ الدور من الممثل مارتن راينكه الذي داهمه المرض فجأة.
اختفى الممثلون مرات عدة خلف الكواليس وعادوا من جديد خائضين بالماء لتحية الجمهور. وأنهى لوماير تحيته للجمهور على طريقة لاعبي كرة القدم حينما يسجلون هدفاً، فانزلق على الماء تماماً على ركبتيه من وسط المسرح إلى مقدمته.
شعرت بالأسى، وبالإعجاب أيضاً، للممثلين الذين اضطروا إلى تأدية أدوارهم طوال ساعتين بالأحذية والملابس المبللة. وشعرت بنوع من الحقد على المخرج أيضاً، لأنني شعرت طوال الوقت بالبلل يتسلل إلى أصابع قدمي، خصوصاً وأني وصلت إلى قاعة مسرح «شاوشبيل هاوس» تحت وابل لا يرحم من المطر الربيعي.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.