سيكون المشهد الثقافي اللندني مزدحماً بكثير الأنشطة الهامة خلال شهر يونيو (حزيران) الحالي ليس أقلّها الإعلان عن الأعمال الفائزة بالجوائز الأدبيّة الثلاث الأرفع في بريطانيا والعالم الناطق بالإنجليزيّة: مان بوكر للرواية العالميّة، وأورويل للكتابة السياسيّة وبيليز للكتابة النسائيّة.
الأخيرة التي تمنح سنويّاً منذ عام 1996 من قبل لجنة تحكيم مختارة لأفضل رواية حديثة كتبتها امرأة باللغة الإنجليزيّة مُنحت في حفل خاص أقيم بقاعة الاحتفالات الملكيّة (لندن) الأربعاء الماضي للكاتبة البريطانيّة ناعومي ألديرمان عن روايتها الديستوبيّة (القوة) - وهي بالمناسبة رشحت أيضاً على القائمة الطويلة لجائزة أورويل للكتابة السياسيّة 2017 إلى جانب القائمة القصيرة في بيليز – وكانت حققت أرقام مبيعات غير متوقعة لا سيما في أوساط النساء الشابات. ويذهب التفسير لكون الرواية تمنح هؤلاء الشابات فرصة لعيش حلم انقلاب العالم وتولي بطلات من جيلهن مقاليد السلطة على حساب الرّجال في مناخ خيال علمي كثير الإثارة، بينما يتولى صوت رجل شاب تسجيل مفاعيل هذه الأزمنة الثوريّة المغرقة بالدماء والجدل السياسي والديني والجندري.
وهذه أول مرّة تمنح فيها الجائزة لرواية من الخيال العلمي وبالذات تلك المنتمية إلى نوع أدبي يعرف بالديستوبيا (أو نقيض اليوتوبيا) حيث يقدّم العالم وكأنه اتخذ شكل كابوس كارثي يمثّل أسوأ مخاوف البشريّة. ويبدو تتويج (القوة) نوعاً من تكريس لاتجاه متصاعد الشعبيّة للأعمال الأدبيّة والتلفزيونيّة والسينمائية في الغرب لتقديم هذا النوع الأدبي المتشائم وإن بدا تلقي الجمهور لم يعد مقتصرا على الجانب المظلم في تلك الأعمال، بل هو يستقبلها بصخب صارخ وكأنها ملجأ هروب من مواجهة الواقع شديد القبح وعقار نسيان لانغلاق آفاق النجاة في أجواء الرأسماليّة المعاصرة الخانقة.
بيليز للكتابة النسائيّة شهدت ازدحاماً غير مسبوق هذا العام نسبة لعدد الأعمال المرشحة لها – إذ قارب المائتين مقابل معدل مائة وخمسين رواية الأعوام السابقة – وفي عدد المتنافسات على القائمة المبدئيّة للأعمال المرشحة ذات العيار الثقافي الثقيل: فائزات سابقات بذات الجائزة، فائزات ومرشحات من جوائز أدبيّة مختلفة، إضافة إلى أسماء معروفة في سماء الرواية باللغة الإنجليزّية، بالطبع دوماً على حساب الروايات الأولى للكتّاب الجدد، رغم أن الرواية الفائزة العام المنصرم (البدع المجيدة) كانت رواية أولى للكاتبة الآيرلندية – التي كانت مغمورة حينها – ليزا ماكينيرني.
المنافسة المحتدمة بين الروائيّات النساء للفوز ببيليز - التي تبلغ قيمتها الماديّة ثلاثين ألف جنيه إسترليني - كانت أيضاً بين البريطانيات من جهة، والناطقات بالإنجليزيّة من أنحاء العالم غير البريطانيات. وقد تقاسم الفريقان القائمة النهائيّة (القصيرة) بثلاثة أعمال لكل منهما: ثلاثة روايات لبريطانيات، ورواية واحدة لكل من كندا والولايات المتحدة ونيجيريا.
الرواية الأولى الوحيدة التي أفلحت بالوصول إلى قائمة الترشيحات النهائيّة كانت (ابق معي) للنيجيرية أيوبامي أديبايو، وتجري أحداثها المليئة بالحزن والغيرة وسجن التقاليد المقيتة على خلفيّة من أجواء الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي شهدته بلادها ثمانينات القرن الماضي، وهي تحكي قصة امرأة نيجيريّة تتزوج ولا تفلح في إنجاب الأطفال، وبعد عامين يتآمر مجتمعها عليها - باشتراك أمها ذاتها - لإعادة الاعتبار للزوج (المنكوب) من خلال تزويجه بامرأة أخرى، لتتحول حياتها من جحيم الحصار المجتمعي الخانق إلى سباق محموم في السعي لإنجاب الأطفال وفضاءات من غيرة النساء القاتلة. وقد وصف النقاد الرواية بأنها صوت نسوي ساطع رغم أجوائها الشديدة القتامة.
الروائيّة البريطانيّة المعروفة ليندا غرانت التي تذوقت طعم الفوز ببيليز للكتابة النسائيّة عام 2000 عن روايتها (عندما عشت في أزمان حديثة)، نافست على الجائزة من خلال مولودتها الجديدة (الدائرة المظلمة) والتي تدور أحداثها داخل مصحة بريطانيّة عامة في أجواء لندن خمسينات القرن الماضي لتستعرض فجاجة تعقيدات الحياة الاجتماعيّة في بريطانيا مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية بعبورها في دهاليز حكاية أخ وأخت مريضين معزولين داخل جدران تلك المصحة.
كانت هناك أيضاً (الحب الأول)، وهي عمل روائي سادس للبريطانية جويندولين رايلي تفكك فيه أدق حميميّات العلاقة الزوجيّة اليوميّة لامرأة كاتبة في منتصف الثلاثينات من العمر بعد أن أتى الزواج على كل الحب، فلم يتبق داخل أسوار المكان الافتراضي للعشق سوى دقائق الاختناق الطويلة ولحظات عض الأصابع التي كانت يوما شريكة في قرارات اتُخِذَت بتخديرٍ من مزاج موهوم بالحريّة ولذائذها.
سي إي مورغان الكاتبة الأميركيّة اخترقت القائمة القصيرة بروايتها (رياضة الملوك)، بعد شروعها في نحت صور شديدة الصراحة عن حياة بشر تعساء يعيشون بظل تراث العبوديّة الظالم في أميركا الشماليّة ويتنافسون شكلاً على تربية خيول السباق بينما تتلاعب بهم عواصف من عواطف مظلمة فيها كثير من العنصريّة والحقد والغيرة والطمع والشغف. وقد وصفت الصحف البريطانيّة (رياضة الملوك) بأنها ملحمة أدبيّة يندر وجود مثلها في الأدب الأميركي المعاصر.
في القائمة القصيرة للجائزة أيضاً تميّزت رواية الكاتبة الكندية – الصينيّة مادلين ثيين (لا تقل بأننا لا نملك شيئا) والتي استلهمت من أجواء التأسيس للصين الشعبيّة المعاصرة 1949 إلى اليوم مستعرضة الحراكات الاجتماعيّة والسياسيّة التي مارت – وتَمور - في قلب المجتمع الصيني من خلال سرد قصة تداخل مصائر ثلاثة موسيقيين موهوبين يلهمهم عشق الأنغام لينتهوا ضحايا شغفٍ يصارعون ضغوطات قاصمة في أجواء التحولات الثقافيّة العاصفة التي عاشتها الصين الشيوعيّة الحديثة.
الروايات المتنافسة هذه حازت على تقريض لجنة التحكيم باعتبارها مجموعة أصوات نسائيّة شديدة الجرأة، حميمة وعابقة بشخصيّات وجودية سرمدية، تُعلي صوت النساء في حقبات تاريخيّة مختلفة، وعبر فضاءات جغرافيّة متباعدة، لكننا أبدأ نلتصق بها لأن ذواتنا هناك، في مكان ما خلف عميق المشاعر والاضطرابات والتساؤلات والهموم الإنسانية.
لجنة تحكيم بيليز هذا العام كن خمس نساء تولت قيادتهن تيسا روس منتجة الأفلام المعروفة، وضمت كاتي ديرهام المعنيّة بالثقافة والفنون في هيئة الإذاعة البريطانية، سارة باسكوي الصحافيّة والفنانة الكوميديّة، سام بيكر المحررة والصحافيّة، وكذلك أميناتا فورنا الروائيّة الاسكوتلنديّة من أصل أفريقي.
ستكون دورة هذا العام الأخيرة التي تحمل اسم بيليز - ماركة المشروبات البريطانية الشهيرة - إذ وبحسب الروائية كاتي موس مؤسِسة الجائزة - ستمول الأخيرة مستقبلاً من قبل تحالف عدة جهات مهتمة، وسيتم تغيير اسمها إلى «جائزة الكتابة النسائية».
كانت الروائيّة موس قد عملت على إطلاق هذه الجائزة المقتصرة على الروائيات النساء عام 1996 رداً على ما اعتبرته تحيّزاً ضد النساء في جائزة مان بوكر البريطانيّة للروايات التي تغلب عليها عادة أسماء ذكورّية. وللحقيقة فإن بيليز ساهمت على نحو ملموس في تحسين أرقام مبيع روايات خطتها النساء، وصعّدت أسماء مغمورة إلى سماوات الشهرة الأدبيّة، وتحوّلت كثير من الروايات الفائزة إلى أعمال تلفزيونيّة وسينمائيّة.
وفي سؤال مشروع عن تقصير متعمد للمؤسسات العربيّة الثريّة في الشروع بتأسيس جائزة مماثلة تمنح الكاتبات العربيّات صوتاً يمكنهن الوصول إلى فضاءات أوسع بدلاً من أن يخضعن لأسوأ ما في صناعة النشر العربيّة من مثالب وبطركيات وشلليات. حتى ذلك الحين، سنصفق بحرارة لرفيقاتنا المتحدثات بالإنجليزيّة وللرواية الفائزة (القوة)، باسم النصف المغبون من البشر.
8:6 دقيقة
«بيليز» للكتابة النسائيّة تتوّج موضة «الديستوبيا»
https://aawsat.com/home/article/948826/%C2%AB%D8%A8%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%B2%C2%BB-%D9%84%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D9%88%D9%91%D8%AC-%D9%85%D9%88%D8%B6%D8%A9-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7%C2%BB
«بيليز» للكتابة النسائيّة تتوّج موضة «الديستوبيا»
موسم الجوائز الأدبيّة البريطانيّة في ذروته
- لندن: ندى حطيط
- لندن: ندى حطيط
«بيليز» للكتابة النسائيّة تتوّج موضة «الديستوبيا»
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة