مراكز البحث العربية بين صنع المعرفة وسياستها

يمكنها أن تعزز من فرص المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية

ندوة بحثية في جامعة هيوستن
ندوة بحثية في جامعة هيوستن
TT

مراكز البحث العربية بين صنع المعرفة وسياستها

ندوة بحثية في جامعة هيوستن
ندوة بحثية في جامعة هيوستن

تناولت، في مقالة سابقة، أثر مراكز البحث (المعروفة بالثنك تانك) في صناعة المعرفة السياسية بشكل خاص، والدور الذي تمارسه في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. وألمحت، في نهاية المقالة، إلى وضع البلاد العربية. ما أود إضافته حول منطقتنا محزن بطبيعة الحال، فمعظم الدول العربية تقع بكل أسف في آخر القائمة، فيما يتعلق بضخامة أو تأثير المراكز البحثية، بالمقارنة مع الدول الغربية وإسرائيل.
هناك عدد لا بأس به من هذه المراكز، وهو عدد يتنامى، لكن العدد ليس المهم هنا، كما أشرت. إنه التأثير، والتأثير مرتبط بعوامل أهمها مستوى تلك المراكز، ومستوى الوعي بأهميتها والخدمة التي تقدمها، وهذان عاملان متداخلان بطبيعة الحال. في العالم العربي مراكز بحثية (ثنك تانك)، وإن تفاوت الأمر من دولة إلى أخرى. ومستواها، حسب ما يتضح للمتابع، أقل، وتأثيرها أقل أيضاً، أقل مما ينبغي، وأقل مما هو لدى دول سبقتنا، ودول تنافسنا، ودول تؤثر على حياتنا. ولا شك أن العدد أقل أهمية من مستوى الإنجاز، وكذلك من القدرة على التأثير. لكن للعدد أثره غالباً. فحين تكثر المراكز، تتعاظم فرص العطاء والتأثير معاً، وإن لم يكن ذلك شرطاً بحد ذاته.
وحين ننظر إلى المملكة العربية السعودية تحديداً، فإن الصورة ستبدو أكثر إيلاماً. يقول أحد الباحثين الأميركيين العاملين في مراكز بحثية تابعة لجامعة رايس في هيوستن، وهو كريستيان إلريتشسين، في مقالة بعنوان «وقت مناسب لمراكز أبحاث جديدة في المملكة العربية السعودية»: «بين دول قمة العشرين، تقع المملكة في أسفل القائمة، من حيث العدد الكلي للمراكز البحثية، وما قبل الأخيرة، بعد الهند، في عدد المراكز قياساً بعدد المواطنين».
ويضيف في السياق نفسه أن تقرير «غو تو ثنك تانك العالمي» (Global Go - To Think Tank) لعام 2014، يسجل 7 مراكز بحثية سعودية مقابل 39 في تونس، و14 في الإمارات العربية المتحدة، و29 في تركيا. المركز البحثي السعودي الوحيد المسجل ضمن أفضل 150 مركزاً بحثياً في العالم هو «مركز دراسات الخليج»، الواقع في لندن. وبما أن مركزاً عالمياً للبحث في شؤون التطرف والإرهاب (تحت شعار «اعتدال») افتتح أخيراً في الرياض بمناسبة القمم الثلاث في المملكة، فإن الأمل يقوى بأن تزداد المراكز، ويكون لها دور أكبر، لا سيما أنه يعمل تحت إدارة دولية تشترك في رئاستها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية.
إن وجود مراكز البحث (ثنك تانك)، والاعتماد عليها، ليس وصفة سحرية لسياسات صحيحة أو بناءة، فحتى الدول الكبرى التي تعتمد على ما توفره مراكز البحث من معرفة ووجهات نظر يمكن الاعتماد عليها لم تسلم من ارتكاب الأخطاء الكبيرة، ولعل الولايات المتحدة أوضح الأمثلة على ذلك، فيما أقدمت عليه من مغامرات سياسية أدت إلى الفشل أو إلى الكوارث، والعراق أنموذج حي في الأذهان. لكن اللوم في تلك الحالات لا يقع غالباً على المعرفة، أو وجهات النظر الموثقة المدققة، وإنما على من يختارها، وأحياناً كثيرة من يتجاهلها، علماً بأن مراكز البحث تظل مناطق نشاط إنساني قابل للخطأ أيضاً. المؤكد هو أن السير دون اعتماد على معرفة سياسية يرفع احتمالات الخطأ.
من هنا، يبدو غياب أو ضعف حضور مراكز البحث التي توفر المعرفة السياسية المعتمدة على معايير منهجية وجهود متخصصة مظنة للضعف السياسي وللاجتهادات الخاطئة، وأن لا بديل لتلك المراكز لا سيما المستقل منها. فالمراكز التي تقع تحت مظلة الحكومات ليست مؤهلة في الغالب لتقديم الرأي المستقل النافع لأنها تظل محكومة بمصالح العاملين في تلك المراكز، وخشيتهم من تقديم ما لا يرضي صانع القرار، بل ورغبتهم في تقديم ما يرضيه. لذلك تؤكد أهم مراكز البحث الأميركية مثلاً على استقلاليتها عن المصالح السياسية والحزبية تحديداً، كما هو الحال في مركز مثل «بروكنغز» و«كارنيغي ميلون» اللذين يعتمدان على مواردهما الخاصة بوصفهما مراكز تأسست على أوقاف تركها المؤسسون. ويمكن القول نفسه عن مراكز في بريطانيا وغيرها، مثل مركز «تشاثام» البريطاني الشهير.
لكن هل يمكن لمركز يصنع المعرفة السياسية ألا يسعى للتأثير من خلال تلك المعرفة؟ إن النظر إلى المعرفة بوصفها محايدة لا يخلو من حسن نية وغفلة عن أن الجهد الإنساني مهما بلغ في السعي إلى الحياد يظل متحيزاً، وإن اختلف التحيز المقصود عن التحيز الناشئ عن تبني آيديولوجيا محددة. يأخذنا ذلك إلى ما أسميه «سياسة المعرفة». ذلك أن المعرفة محكومة بمصالح وأهداف من يسعى إليها، وهذا لا يعني أنها محكومة بعقلية تآمرية بالضرورة، وإنما برغبة في تحقيق مصالح أو أهداف محددة.
يقول مركز «بروكنغز» عن نفسه إنه يسعى إلى «توفير توصيات مبتكرة وعملية تسعى إلى 3 أهداف عامة: تعزيز الديمقراطية الأميركية، وتنمية الرخاء الاقتصادي والاجتماعي والأمن والفرص لجميع الأميركيين، وتحقيق نظام دولي أكثر انفتاحاً وأماناً وازدهاراً وتعاوناً»، ويؤكد المركز على أنه غير منتم حزبياً. ومع أن من المحللين من يراه مركزاً ليبرالياً، فإن إحدى الدراسات وجدته أقرب إلى الوسط بين الليبراليين والمحافظين من الساسة الأميركيين. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا التوازن إلى جعل «بروكنغز» أكثر تأثيراً، مع أن المركز ألزم نفسه، كما تقول أهدافه، بخدمة المصالح الأميركية. وإذا كان هذا أمراً طبيعياً، فإن العبارة تحمل من الدلالات ما يتراوح بين السعي إلى تعزيز الإنصاف أو العدالة في النظام السياسي والاقتصادي، وتغيير أنظمة حكم في بلاد أخرى بحجة أن ذلك يعزز الديمقراطية، ولكم استعملت تلك الأهداف لتبرير الهيمنة الأميركية على مناطق مختلفة، مثلما استخدم الاستعمار التقليدي مفاهيم نشر التحضر والتطوير للاستيلاء على مقدرات شعوب كثيرة.
لكن إذا كان الطبيعي أن تسعى الدول إلى خدمة مصالحها، سواء عن طريق المعرفة أو غيرها، فإنه من الطبيعي والمنطقي أيضاً، بل الضروري، أن تسعى الدول التي لا توظف المعرفة الكافية إلى خلق تلك المعرفة التي تساعدها هي الأخرى على الحفاظ على مصالحها ودرء المخاطر. أعتقد أن الأمر لا يحتمل الخيارات، وأشير هنا إلى المملكة العربية السعودية وهي تجد نفسها في مركز مؤثر عالمياً، يضعها بدوره في خضم الأحداث وتضارب المصالح، الأمر الذي يضطرها، أو يجب أن يضطرها، إلى تطوير المعرفة السياسية، بل وتسييس المعرفة، من خلال مراكز بحث قوية مستقلة على النحو الذي يخدم مصالحها دون الإضرار بأحد. التسييس سيحدث بشكل طبيعي لأنه نزوع إنساني لا مفر منه، لكن التمييز ممكن بين تسييس يقصد إلى تحقيق المصالح مع إحداث الضرر، وآخر ينشد المصلحة المتوازنة بين الذات والآخر.
وحين أقول إن على المملكة، فإنني لا أتحدث عن الحكومة وحدها، بل إنني أشير إلى الحكومة وإلى القطاع الأهلي والنخب المثقفة والمتخصصة التي يمكنها أن تشارك في صناعة القرار من خلال المعرفة السياسية والمسيسة، ولكن المسؤولة في الوقت نفسه باستشعارها للقيم والمصالح العليا. إن مراكز البحث بوصفها مؤسسات مجتمع مدني يمكنها أن تعزز من فرص المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال الرأي المؤسس على معرفة وخبرة ورغبة صادقة في تحقيق الصالح العام. ومما يعزز هذه الإمكانيات أن في المملكة اليوم عدد لا بأس به من العقول المفكرة والعالية الثقافة والخبرة، ولكن التي لا تُستثمر غالباً، أو تُستثمر في أماكن أخرى، فمن أولئك من تدعوهم مراكز البحث الأجنبية للاستفادة من خبراتهم حول مختلف القضايا، وآن أن تكون بلادهم هي الأولى بتلك الجهود.
وما يصدق على السعودية يصدق على غيرها من الدول العربية، فدون الاستقلالية ومشاركة رأس المال الخاص من خلال أوقاف مكرسة، واستثمار العقول المحلية، يصعب تصور قيام مراكز بحث قوية قادرة على المشاركة المطلوبة في صناعة المعرفة، ومن ثم صناعة القرار.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.