الأديان السماوية... دور فاعل في نشر السلام ومواجهة التطرف

في ضوء زيارة الرئيس ترمب للمنطقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)
TT

الأديان السماوية... دور فاعل في نشر السلام ومواجهة التطرف

الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)

شهد القرن العشرون حربين عالميتين ذهبتا بملايين البشر، ومع أوائل القرن الحادي والعشرين بدا كأن البشرية في مواجهة حرب عالمية أخرى وقودها التطرف والتعصب، وزادها مزيج من الأصوليات، وأدواتها سيئة إلى أقصى حد وحد، وتتنوع أشكال موتها بين الحريق والغريق، ومنها ما هو مادي وفيها ما هو معنوي، ووسط هذه المأساة الإنسانية، ضاع ويضيع السلام، وفقدت البشرية أمنها وأمانها، من مشارق الشمس إلى مغاربها.

لعل السؤال الواجب البحث عن جواب له: «هل السلام العالمي أمر ممكن بالفعل في مجتمعات بشرية عهدت الصراعات الإنسانية منذ بداياتها؟».
يبقى الجواب دون تطويل ممل أو اختصار مخل يدور حول الأديان وكيفية بسطها لقيم السلام حول الكرة الأرضية، وهل هي أدوات تدفع البشر في طريق التلاقي والألفة أم آليات لتعميق التطرف والبغضة؟
لا يمكن لمتابع جيد للأحداث أن يغفل تغيير الماء الراكد على صعيد العالم كافة، والشرق الأوسط خاصة خلال الأيام القليلة الماضية، التي شهدت فيها الرياض 3 قمم من أجل محاربة الإرهاب والأصولية، وقد كانت الأديان في القلب منها.
الزيارة الناجحة وغير المسبوقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب للشرق الأوسط، جاءت في واقع الحال خطوة مغايرة لأدوات محاربة العنف والأصولية التقليدية، أي استخدام القوة العسكرية أولاً وآخراً في مجابهة الأفكار، ولهذا كانت فكرة استيلاد ما في باطن الأديان، لا سيما الإبراهيمية الثلاث؛ المسيحية والإسلام واليهودية، من سلام وتعايش للوقوف في وجه دعاة الكراهية وحاملي رايات الصدام.
قبل أن يبدأ الرئيس الأميركي رحلته إلى الشرق الأوسط، تحدث مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هربرت ريموند ماكماستر بالقول: «هذه الرحلة تاريخية، فلم يسبق لأي رئيس زيارة الأماكن المقدسة للديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية في رحلة واحدة، وما يسعى إليه الرئيس ترمب هو توحيد الناس من كل الأديان حول رؤية مشتركة للسلام والتقدم والرخاء».
في كلمته أمام رؤساء وزعماء دول العالم الإسلامي، أشار الرئيس ترمب إلى أنه: «بعون الله ستشكل هذه القمة بداية النهاية لأولئك الذين يمارسون الإرهاب وينشرون عقيدته الخبيثة».
وفي الوقت نفسه، ذكّر الجميع بأن هذا اليوم هو بداية سلام في الشرق الأوسط، تكون فيه الأديان الرافعة الحقيقية التي تنتشل العالم من وهدة الأصولية والتطرف.
من قلب المملكة العربية السعودية التي وصفها ترمب في حديثه بأنها موطن أقدس المواقع لإحدى أكبر الديانات في العالم، أشار إلى أنه في كل مرة يقتل فيها إرهابي شخصاً بريئاً ويستخدم اسم الله على نحو كاذب، ينبغي أن يمثل ذلك إهانة لكل شخص مؤمن، فالإرهابيون لا يعبدون الله، بل إنهم يعبدون الموت. كان الرئيس ترمب موفقاً جداً في خطابه، بل متحدثاً بليغاً عن روح الأديان، وكيف أنها بعيدة كل البعد عن التناحر والتشاجر، عن الصراع والحروب، تلك المفاهيم المكذوبة التي يروجها «تجار الأديان»، أو «موظفو الله»... قال ترمب: «هذه ليست معركة بين مختلف الديانات أو الطوائف المختلفة أو الحضارات المتعددة المتباينة».
هذه معركة بين المجرمين الهمجيين الذين يسعون إلى طمس حياة الإنسان، والناس الكرماء من جميع الأديان الذين يسعون إلى حمايته، هذه معركة بين الخير والشر. جاء ترمب إلى الشرق الأوسط وهو يدرك أن الأديان السماوية ولدت مشرقية، وعاشت ونشأت، ثم انتشرت حول العالم من الشرق، ولهذا، فإن هذا الشرق الخلاق مصدر للحياة لا للموت، للتعايش لا للتصادم، وفي هذا وحده مدخل جيد لمجابهة أفكار الأصولية والمغالاة.
أكد ترمب أنه لقرون كثيرة كان الشرق الأوسط موطناً للمسيحيين والمسلمين واليهود الذين يعيشون معاً، مضيفاً: «يجب أن نمارس التسامح والاحترام المتبادل مرة أخرى، وأن نجعل هذه المنطقة مكاناً يمكن فيه لكل رجل وامرأة بصرف النظر عن إيمانهم أو عرقهم، أن يتمتعوا بحياة كريمة يملأها الأمل».
خلاصة أقوال ترمب، أنه إذا أمكن لهذه الديانات الثلاث أن تتعاون معاً، فإن السلام في هذا العالم سيكون ممكناً، ونحن بدورنا نتساءل أين يقع السلام في قلب الأديان التوحيدية الثلاث؟... هل له مكان؟... وإذا كان ذلك كذلك فأي طريق يتوجب على أتباع تلك الأديان أن يسلكوا من أجل الوصول في نهاية الأمر للغاية الكبرى أي السلام العالمي، الذي يتوجب أن يبسط مظلته على العالم برمته؟
الجواب عن السؤال المتقدم يحتاج لأعمال بحثية مطولة في واقع الأمر تتصل بالبحث في علاقة السلام بكل دين من الأديان الإبراهيمية، غير أنه في رؤية ملخصة وغير مخلة يمكننا أن نشير لما يلي:
بداية إذا طرحنا سؤالاً لاهوتياً عميقاً يتصل باليهودية: «ما إرادة يهوه إله إسرائيل النهائية تجاه الخليقة؟... هل هي السلام أم الخصام؟«.
الجواب نجده عند أحد كبار أنبياء بني إسرائيل «أشعياء» المعروف بالنبي الباكي، ففي سفره في التوراة، الإصحاح السابع عشر نقرأ ما نصه: «فيطبعون سيوفهم محاريث، ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتدربون على الحرب فيما بعد».
هذه العبارة محفورة في حاضرات أيامنا على الحائط المعروف بـ«حائط أشعياء»، في جزيرة مانهاتن بمدينة نيويورك الأميركية عند الجادة الأولى وتقاطعها مع شارع 43، وذلك في مواجهة مبنى الأمم المتحدة، للتذكير بأن الهدف الرئيسي للمؤسسة الأممية والفكرة التي نشأت من أجلها كانت الحفاظ على السلام العالمي، ودلالة الكلمات لا تحتاج إلى شرح، فالسيوف الموجهة إلى الصدور تضحى محاريث للأرض تبحث عن الزرع والماء وشبع الإنسان، والرماح تتحول إلى مناجل تحصد خير ما زرع الإنسان، ولا تعود بذلك الأمم تتطاحن ولا يبقى مجال للحرب، بل يسعى الذئب والحمل معاً دون تفكير أحدهما في الفتك بالآخر.
هذا هو المنوط بالهيئة الأممية في الفكر التوراتي الباحث عن السلام قبل عدة آلاف من السنين، وقد شخصت اليهودية عبر كتب العهد القديم حال البشرية اليوم، تلك الشاكية الباكية من العنف والأصولية، فوصفت المشهد بالقول: «أرجلهم تسعى إلى الشر، وتسارع إلى سفك الدم البريء، أفكارهم أفكار الإثم، وفي مسالكهم دمار وتحطيم، لم يعرفوا طريق السلام، ولا حق في سبلهم، قد جعلوا دروبهم معوجة، كل من سلكها لا يعرف السلام».
هل حادت المسيحية لاحقاً عن طريق البحث عن السلام؟
ليلة مولده المعجز رتلت الملائكة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
كانت حياة ورسالة السيد المسيح سلاماً متصلاً، ومقيماً، وعندما أرسل تلاميذه وحوارييه في مهمة التبشير الأولى، قال لهم: «أي بيت دخلتموه فقولوا أولاً السلام لأهل هذا البيت، فإن كان هناك ابن سلام فسلامكم يحل عليه، وإلا فيرتد إليكم»، في إشارة لا تخطئها العين إلى أن هناك من البشر من يرفضون السلام جوهراً لحياتهم، وأسلوباً لمعيشتهم مع غيرهم من الناس. أما عن تحية السيد المسيح الرسمية التي كان يستخدمها على الدوام فلم تخرج أبداً عن سياق «السلام لكم».
كان السائد في زمن السيد المسيح شريعة موسى؛ عين بعين، وسن بسن، لكن شريعة عيسى ابن مريم رأت أن «من طلب ثوبك فأعطه رداءك أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامشِ معه ميلين».
كان السلام الذي يسعى إليه هو تلك الحرية العذبة التي تضع كل شيء في وقته بنظام وترتيب وحكمة، وتتجه إلى موضوعها وتهتم به بمحبة قلبية، ولهذا قال: «طوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناء الله يدعون».
هل كان الإسلام ليفارق أو يغاير في مفهومه عن السلام؟
يبقى السلام في الإسلام بداية اسماً من أسماء الله الحسنى، «هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم»، وقد وصف البارئ عز وجل ذاته في القرآن الكريم بأنه «السلام»، الحشر (23)، والمصطلح العربي للسلام مشتق من الأصل ذاته الذي اشتق منه لفظ الإسلام، فهناك تطابق بين الإسلام والسلام.
على أن علامة الاستفهام: هل يقدر الإنسان على خوض معركة السلام دون سند أو عون إلهي؟
يوضح الإسلام أنه لا يمكن للمرء أن يفعل ذلك من دون هداية الله سبحانه وتعالى الذي يريد الخير لكل الناس، وهذه الهداية تبدأ بالدعوة إلى السلام، أو إلى دار السلام، وهي دعوة صادرة من الله إلى الإنسان «والله يدعو إلى دار السلام»، يونس (25).
والثابت كذلك أن الشريعة الإسلامية حافلة بالإشارات التي يمكن للمرء أن يرتكز عليها في تبيان عضوية العلاقة بين السلام والإسلام، وكيف أن تلك الشريعة تريد أن تجعل من السلام حاضراً وقاسماً أعظم في فكر وسلوك أمة المسلمين، فعلى سبيل المثال يتفكر المسلم في ليلة القدر، أهم ليلة من ليالي السنة؛ إذ إن الله زينها وجعلها سلاماً حتى مطلع الفجر «سلام هي حتى مطلع الفجر» سورة القدر (5).
هل وضع الإسلام دستوراً بدوره لنشر السلم العالمي منذ بداية التنزيل؟
الحادث أن ذلك كذلك، وهو الدستور الذي يكفل حتى اليوم للعالم المتنازع أن يجد حالة من السلم والتعايش الآمن، وهذا ما ورد في سورة الممتحنة: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» الممتحنة (8).
تعني الآية الكريمة السابقة أن الإسلام وضع للمسلمين مبدأ عاماً للتعايش السلمي بينهم وبين غيرهم من الشعوب يتلخص في ضرورة التعايش مع الآخرين أياً كانوا، ومعاملتهم بالعدل والإنصاف والتسامح ما دام أن هؤلاء لم يصدر عنهم أي عدوان على المسلمين، ولم يتعاونوا مع أعداء المسلمين ضد المسلمين.
يتضح مما سبق أن هناك قاسماً أعظم مشتركاً كبيراً عند أتباع الأديان التوحيدية الثلاث، قاسماً يمكنه أن يقف صداً وسداً في مواجهة الأفكار المغلوطة والشعارات الزائفة، وهو أمر تنبه إليه كبار المفكرين في العالمين العربي والغربي على حد سواء.
خذ إليك على سبيل المثال ما يقوله الشيخ الإمام محمد الغزالي الداعية والمفكر الإسلامي الشهير، عن طريق رسمه للتعايش بين الأديان والمذاهب، عبر وضعه 3 مبادئ: -
أولاً: نتفق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله وجلاله.
ثانياً: نتفق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة.
ثالثاً: ما وجدناه متوافقاً في تراثنا، نرد إليه ما اختلف عليه، وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين أتباع الأديان.
على الجانب الغربي، نجد البروفسور هانز كونغ اللاهوتي الكاثوليكي السويسري الكبير، صاحب الصيحة الشهيرة في عالمنا المعاصر: «لا سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان»، والواردة في كتابه المعنون «الإسلام رمز الأمل... القيم الأخلاقية المشتركة للأديان».
سطور الكتاب المشار إليه تؤكد أن الأديان رسائل للسلام لا أدوات للخصام، وأنه في زمن يمتلك فيه الإنسان من الوسائل التقنية الحديثة، ينبغي أن تتواصل الديانات لا سيما النبوية الثلاث، من أجل تجنب الحروب ونشر السلام.
لكن لكي يحدث هذا لا غنى عنده عن إعادة القراءة والتفسير لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية، ولتحقيق تفسير ديني يحمل في طياته روح السلام.
يشير كونغ إلى ضرورة اتباع النهج الثنائي التالي؛ وهو تفسير الأقوال والأحداث النضالية في كل رواية من الروايات في التقاليد الدينية في السياق التاريخي للزمن الخاص بها ودون التغاضي عن شيء من تلك التفاصيل التي تقدم لنا المفهوم والأبعاد الإنسانية في تلك الأزمنة الغابرة وعدم قياسها بمعطيات عصرنا الحاضر، ومن جهة ثانية، ينبغي اتخاذ الكلمات والأفعال التي تشجع على السلام في التقاليد التي يتبعها المرء على محمل الجد كإلهام للعصر الحديث. جاءت زيارة الرئيس ترمب وقمم المملكة الثلاث لتحثنا على التفكير ملياً في الدور العميق الذي يمكن للأديان أن تلعبه في طريقها لمجابهة القتلى الذين يسقطون، والأحياء الذين يتصارعون، والجميع يقف مكتوف الأيدي أمام دعوات نفي الآخر وإبعاده، بل وإقصائه من المشهد الأدبي عبر التذرع بامتلاك الحقيقة المطلقة من جهة، أو الخلاص منه نفساً وجسماً باعتباره عدو الله.
هل من خلاصة؟
الأديان لديها قوة كافية مؤثرة من أجل المستقبل على أساس الثراء الروحاني والأخلاقي، والأديان التوحيدية الثلاث يمكن أن تسهم بشكل أكبر من خلال التفاهم والتعاون، وجميعها لديها الفرصة سانحة في تقديم إسهام لا يمكن الاستغناء عنه لعالم أكثر سلاماً وعدلاً، ولهذا وبالفعل، لا يمكن أن يكون هناك سلام مستقبلي في وجه الأصوليات الظلامية دون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان دونما حوار جدي بين أتباعها.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».