شهد القرن العشرون حربين عالميتين ذهبتا بملايين البشر، ومع أوائل القرن الحادي والعشرين بدا كأن البشرية في مواجهة حرب عالمية أخرى وقودها التطرف والتعصب، وزادها مزيج من الأصوليات، وأدواتها سيئة إلى أقصى حد وحد، وتتنوع أشكال موتها بين الحريق والغريق، ومنها ما هو مادي وفيها ما هو معنوي، ووسط هذه المأساة الإنسانية، ضاع ويضيع السلام، وفقدت البشرية أمنها وأمانها، من مشارق الشمس إلى مغاربها.
لعل السؤال الواجب البحث عن جواب له: «هل السلام العالمي أمر ممكن بالفعل في مجتمعات بشرية عهدت الصراعات الإنسانية منذ بداياتها؟».
يبقى الجواب دون تطويل ممل أو اختصار مخل يدور حول الأديان وكيفية بسطها لقيم السلام حول الكرة الأرضية، وهل هي أدوات تدفع البشر في طريق التلاقي والألفة أم آليات لتعميق التطرف والبغضة؟
لا يمكن لمتابع جيد للأحداث أن يغفل تغيير الماء الراكد على صعيد العالم كافة، والشرق الأوسط خاصة خلال الأيام القليلة الماضية، التي شهدت فيها الرياض 3 قمم من أجل محاربة الإرهاب والأصولية، وقد كانت الأديان في القلب منها.
الزيارة الناجحة وغير المسبوقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب للشرق الأوسط، جاءت في واقع الحال خطوة مغايرة لأدوات محاربة العنف والأصولية التقليدية، أي استخدام القوة العسكرية أولاً وآخراً في مجابهة الأفكار، ولهذا كانت فكرة استيلاد ما في باطن الأديان، لا سيما الإبراهيمية الثلاث؛ المسيحية والإسلام واليهودية، من سلام وتعايش للوقوف في وجه دعاة الكراهية وحاملي رايات الصدام.
قبل أن يبدأ الرئيس الأميركي رحلته إلى الشرق الأوسط، تحدث مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هربرت ريموند ماكماستر بالقول: «هذه الرحلة تاريخية، فلم يسبق لأي رئيس زيارة الأماكن المقدسة للديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية في رحلة واحدة، وما يسعى إليه الرئيس ترمب هو توحيد الناس من كل الأديان حول رؤية مشتركة للسلام والتقدم والرخاء».
في كلمته أمام رؤساء وزعماء دول العالم الإسلامي، أشار الرئيس ترمب إلى أنه: «بعون الله ستشكل هذه القمة بداية النهاية لأولئك الذين يمارسون الإرهاب وينشرون عقيدته الخبيثة».
وفي الوقت نفسه، ذكّر الجميع بأن هذا اليوم هو بداية سلام في الشرق الأوسط، تكون فيه الأديان الرافعة الحقيقية التي تنتشل العالم من وهدة الأصولية والتطرف.
من قلب المملكة العربية السعودية التي وصفها ترمب في حديثه بأنها موطن أقدس المواقع لإحدى أكبر الديانات في العالم، أشار إلى أنه في كل مرة يقتل فيها إرهابي شخصاً بريئاً ويستخدم اسم الله على نحو كاذب، ينبغي أن يمثل ذلك إهانة لكل شخص مؤمن، فالإرهابيون لا يعبدون الله، بل إنهم يعبدون الموت. كان الرئيس ترمب موفقاً جداً في خطابه، بل متحدثاً بليغاً عن روح الأديان، وكيف أنها بعيدة كل البعد عن التناحر والتشاجر، عن الصراع والحروب، تلك المفاهيم المكذوبة التي يروجها «تجار الأديان»، أو «موظفو الله»... قال ترمب: «هذه ليست معركة بين مختلف الديانات أو الطوائف المختلفة أو الحضارات المتعددة المتباينة».
هذه معركة بين المجرمين الهمجيين الذين يسعون إلى طمس حياة الإنسان، والناس الكرماء من جميع الأديان الذين يسعون إلى حمايته، هذه معركة بين الخير والشر. جاء ترمب إلى الشرق الأوسط وهو يدرك أن الأديان السماوية ولدت مشرقية، وعاشت ونشأت، ثم انتشرت حول العالم من الشرق، ولهذا، فإن هذا الشرق الخلاق مصدر للحياة لا للموت، للتعايش لا للتصادم، وفي هذا وحده مدخل جيد لمجابهة أفكار الأصولية والمغالاة.
أكد ترمب أنه لقرون كثيرة كان الشرق الأوسط موطناً للمسيحيين والمسلمين واليهود الذين يعيشون معاً، مضيفاً: «يجب أن نمارس التسامح والاحترام المتبادل مرة أخرى، وأن نجعل هذه المنطقة مكاناً يمكن فيه لكل رجل وامرأة بصرف النظر عن إيمانهم أو عرقهم، أن يتمتعوا بحياة كريمة يملأها الأمل».
خلاصة أقوال ترمب، أنه إذا أمكن لهذه الديانات الثلاث أن تتعاون معاً، فإن السلام في هذا العالم سيكون ممكناً، ونحن بدورنا نتساءل أين يقع السلام في قلب الأديان التوحيدية الثلاث؟... هل له مكان؟... وإذا كان ذلك كذلك فأي طريق يتوجب على أتباع تلك الأديان أن يسلكوا من أجل الوصول في نهاية الأمر للغاية الكبرى أي السلام العالمي، الذي يتوجب أن يبسط مظلته على العالم برمته؟
الجواب عن السؤال المتقدم يحتاج لأعمال بحثية مطولة في واقع الأمر تتصل بالبحث في علاقة السلام بكل دين من الأديان الإبراهيمية، غير أنه في رؤية ملخصة وغير مخلة يمكننا أن نشير لما يلي:
بداية إذا طرحنا سؤالاً لاهوتياً عميقاً يتصل باليهودية: «ما إرادة يهوه إله إسرائيل النهائية تجاه الخليقة؟... هل هي السلام أم الخصام؟«.
الجواب نجده عند أحد كبار أنبياء بني إسرائيل «أشعياء» المعروف بالنبي الباكي، ففي سفره في التوراة، الإصحاح السابع عشر نقرأ ما نصه: «فيطبعون سيوفهم محاريث، ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتدربون على الحرب فيما بعد».
هذه العبارة محفورة في حاضرات أيامنا على الحائط المعروف بـ«حائط أشعياء»، في جزيرة مانهاتن بمدينة نيويورك الأميركية عند الجادة الأولى وتقاطعها مع شارع 43، وذلك في مواجهة مبنى الأمم المتحدة، للتذكير بأن الهدف الرئيسي للمؤسسة الأممية والفكرة التي نشأت من أجلها كانت الحفاظ على السلام العالمي، ودلالة الكلمات لا تحتاج إلى شرح، فالسيوف الموجهة إلى الصدور تضحى محاريث للأرض تبحث عن الزرع والماء وشبع الإنسان، والرماح تتحول إلى مناجل تحصد خير ما زرع الإنسان، ولا تعود بذلك الأمم تتطاحن ولا يبقى مجال للحرب، بل يسعى الذئب والحمل معاً دون تفكير أحدهما في الفتك بالآخر.
هذا هو المنوط بالهيئة الأممية في الفكر التوراتي الباحث عن السلام قبل عدة آلاف من السنين، وقد شخصت اليهودية عبر كتب العهد القديم حال البشرية اليوم، تلك الشاكية الباكية من العنف والأصولية، فوصفت المشهد بالقول: «أرجلهم تسعى إلى الشر، وتسارع إلى سفك الدم البريء، أفكارهم أفكار الإثم، وفي مسالكهم دمار وتحطيم، لم يعرفوا طريق السلام، ولا حق في سبلهم، قد جعلوا دروبهم معوجة، كل من سلكها لا يعرف السلام».
هل حادت المسيحية لاحقاً عن طريق البحث عن السلام؟
ليلة مولده المعجز رتلت الملائكة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
كانت حياة ورسالة السيد المسيح سلاماً متصلاً، ومقيماً، وعندما أرسل تلاميذه وحوارييه في مهمة التبشير الأولى، قال لهم: «أي بيت دخلتموه فقولوا أولاً السلام لأهل هذا البيت، فإن كان هناك ابن سلام فسلامكم يحل عليه، وإلا فيرتد إليكم»، في إشارة لا تخطئها العين إلى أن هناك من البشر من يرفضون السلام جوهراً لحياتهم، وأسلوباً لمعيشتهم مع غيرهم من الناس. أما عن تحية السيد المسيح الرسمية التي كان يستخدمها على الدوام فلم تخرج أبداً عن سياق «السلام لكم».
كان السائد في زمن السيد المسيح شريعة موسى؛ عين بعين، وسن بسن، لكن شريعة عيسى ابن مريم رأت أن «من طلب ثوبك فأعطه رداءك أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامشِ معه ميلين».
كان السلام الذي يسعى إليه هو تلك الحرية العذبة التي تضع كل شيء في وقته بنظام وترتيب وحكمة، وتتجه إلى موضوعها وتهتم به بمحبة قلبية، ولهذا قال: «طوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناء الله يدعون».
هل كان الإسلام ليفارق أو يغاير في مفهومه عن السلام؟
يبقى السلام في الإسلام بداية اسماً من أسماء الله الحسنى، «هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم»، وقد وصف البارئ عز وجل ذاته في القرآن الكريم بأنه «السلام»، الحشر (23)، والمصطلح العربي للسلام مشتق من الأصل ذاته الذي اشتق منه لفظ الإسلام، فهناك تطابق بين الإسلام والسلام.
على أن علامة الاستفهام: هل يقدر الإنسان على خوض معركة السلام دون سند أو عون إلهي؟
يوضح الإسلام أنه لا يمكن للمرء أن يفعل ذلك من دون هداية الله سبحانه وتعالى الذي يريد الخير لكل الناس، وهذه الهداية تبدأ بالدعوة إلى السلام، أو إلى دار السلام، وهي دعوة صادرة من الله إلى الإنسان «والله يدعو إلى دار السلام»، يونس (25).
والثابت كذلك أن الشريعة الإسلامية حافلة بالإشارات التي يمكن للمرء أن يرتكز عليها في تبيان عضوية العلاقة بين السلام والإسلام، وكيف أن تلك الشريعة تريد أن تجعل من السلام حاضراً وقاسماً أعظم في فكر وسلوك أمة المسلمين، فعلى سبيل المثال يتفكر المسلم في ليلة القدر، أهم ليلة من ليالي السنة؛ إذ إن الله زينها وجعلها سلاماً حتى مطلع الفجر «سلام هي حتى مطلع الفجر» سورة القدر (5).
هل وضع الإسلام دستوراً بدوره لنشر السلم العالمي منذ بداية التنزيل؟
الحادث أن ذلك كذلك، وهو الدستور الذي يكفل حتى اليوم للعالم المتنازع أن يجد حالة من السلم والتعايش الآمن، وهذا ما ورد في سورة الممتحنة: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» الممتحنة (8).
تعني الآية الكريمة السابقة أن الإسلام وضع للمسلمين مبدأ عاماً للتعايش السلمي بينهم وبين غيرهم من الشعوب يتلخص في ضرورة التعايش مع الآخرين أياً كانوا، ومعاملتهم بالعدل والإنصاف والتسامح ما دام أن هؤلاء لم يصدر عنهم أي عدوان على المسلمين، ولم يتعاونوا مع أعداء المسلمين ضد المسلمين.
يتضح مما سبق أن هناك قاسماً أعظم مشتركاً كبيراً عند أتباع الأديان التوحيدية الثلاث، قاسماً يمكنه أن يقف صداً وسداً في مواجهة الأفكار المغلوطة والشعارات الزائفة، وهو أمر تنبه إليه كبار المفكرين في العالمين العربي والغربي على حد سواء.
خذ إليك على سبيل المثال ما يقوله الشيخ الإمام محمد الغزالي الداعية والمفكر الإسلامي الشهير، عن طريق رسمه للتعايش بين الأديان والمذاهب، عبر وضعه 3 مبادئ: -
أولاً: نتفق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله وجلاله.
ثانياً: نتفق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة.
ثالثاً: ما وجدناه متوافقاً في تراثنا، نرد إليه ما اختلف عليه، وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين أتباع الأديان.
على الجانب الغربي، نجد البروفسور هانز كونغ اللاهوتي الكاثوليكي السويسري الكبير، صاحب الصيحة الشهيرة في عالمنا المعاصر: «لا سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان»، والواردة في كتابه المعنون «الإسلام رمز الأمل... القيم الأخلاقية المشتركة للأديان».
سطور الكتاب المشار إليه تؤكد أن الأديان رسائل للسلام لا أدوات للخصام، وأنه في زمن يمتلك فيه الإنسان من الوسائل التقنية الحديثة، ينبغي أن تتواصل الديانات لا سيما النبوية الثلاث، من أجل تجنب الحروب ونشر السلام.
لكن لكي يحدث هذا لا غنى عنده عن إعادة القراءة والتفسير لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية، ولتحقيق تفسير ديني يحمل في طياته روح السلام.
يشير كونغ إلى ضرورة اتباع النهج الثنائي التالي؛ وهو تفسير الأقوال والأحداث النضالية في كل رواية من الروايات في التقاليد الدينية في السياق التاريخي للزمن الخاص بها ودون التغاضي عن شيء من تلك التفاصيل التي تقدم لنا المفهوم والأبعاد الإنسانية في تلك الأزمنة الغابرة وعدم قياسها بمعطيات عصرنا الحاضر، ومن جهة ثانية، ينبغي اتخاذ الكلمات والأفعال التي تشجع على السلام في التقاليد التي يتبعها المرء على محمل الجد كإلهام للعصر الحديث. جاءت زيارة الرئيس ترمب وقمم المملكة الثلاث لتحثنا على التفكير ملياً في الدور العميق الذي يمكن للأديان أن تلعبه في طريقها لمجابهة القتلى الذين يسقطون، والأحياء الذين يتصارعون، والجميع يقف مكتوف الأيدي أمام دعوات نفي الآخر وإبعاده، بل وإقصائه من المشهد الأدبي عبر التذرع بامتلاك الحقيقة المطلقة من جهة، أو الخلاص منه نفساً وجسماً باعتباره عدو الله.
هل من خلاصة؟
الأديان لديها قوة كافية مؤثرة من أجل المستقبل على أساس الثراء الروحاني والأخلاقي، والأديان التوحيدية الثلاث يمكن أن تسهم بشكل أكبر من خلال التفاهم والتعاون، وجميعها لديها الفرصة سانحة في تقديم إسهام لا يمكن الاستغناء عنه لعالم أكثر سلاماً وعدلاً، ولهذا وبالفعل، لا يمكن أن يكون هناك سلام مستقبلي في وجه الأصوليات الظلامية دون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان دونما حوار جدي بين أتباعها.