المبدعون حين يصنعون شخصية الأمة

مأساة العراقيين في «سَلاماً للغربة... وداعاً للوطن»

المبدعون حين يصنعون شخصية الأمة
TT

المبدعون حين يصنعون شخصية الأمة

المبدعون حين يصنعون شخصية الأمة

لم يُصنِّف الروائي العراقي رياض رمزي كتابه الجديد الذي يحمل عنوان «سَلاماً للغربة... وداعاً للوطن»؛ إذ يصفه بـ«التأمّلات» تارة، و«الشهادة» تارة أخرى. وثمة فرق واضح بين التسميتين؛ فالتأمّل بالمعنى المُعجمي يعني «التروّي أو التبصّر في موضوع ما، والاستغراق فيه بهدف التحقق والاستيقان». أما «الشهادة الأدبية» فهي رواية حدثٍ ما بُغية نقله إلى الآخرين، شرط أن تكون آلية النقل صادقة وخالية من التزوير أو التحريف. غير أن ثيمة الكتاب في مجملها تدور في فلك التأمّل، والاستبطان، وإطالة النظر في المِحن الكثيرة التي ألمّت بالعراق والعراقيين أرضاً وشعباً؛ الأمر الذي يوسّع أفق التأمل، ويضيّق فرص الشهادة إلى أدنى منسوب من البوح المستتر الذي جاء على لسان راوي النص وكاتبه.
لا يدّعي رياض رمزي أنه «مؤلِّف» هذا النص السردي التأملي؛ لأن مهمته الرئيسية كانت تقتصر فقط على «عرض حال» بعض المفجوعين العراقيين، سواء من أصدقائه القدامى أو المُحدثين الذين تعرّف إليهم في مقهى وايتليز Whiteleys في قلب لندن. يطرح المؤلف الوسيط الذي يروي أفكار الآخرين عدداً من الأسئلة الجوهرية التي تتقصى أسباب الخراب الذي حلّ بالعراق منذ ستة عقود، ويلقي باللائمة على الأنظمة العسكرية التي تعاقبت على حكم البلاد، مروراً بهيمنة الطاغية، واستدعاء المحتل، وانتهاء بالطائفيين الذين يشبِّههم بأصحاب «القمصان السوداء» الذين هيّجوا قفائر النحل، وأشغلوا الجميع بخطر الدبابير ليستأثروا وحدهم بقرص العسل، ويقلبوا حياة العراقيين رأساً على عقب، مُجبرين إياهم على العيش في الماضي وتقديسه بشكل أعمى يُصادر فيه عقولهم وقلوبهم في آنٍ معا.
يتخذ الكاتب من رواية «الطاعون» لألبير كامو ذريعة ليثير من خلالها حفنة من الأسئلة المتتابعة التي تؤرقنا جميعاً بعد أن يحيطنا علماً بأن أهل وهران قد واجهوا جائحة الطاعون بعدم الاكتراث، والهرب من الواقع، فما هو الطاعون الذي اجتاح العراق؟ ثم تأتي الإجابة على شكل احتمالات كثيرة يجب أن ندرسها ونحللها جيداً؛ لأنها تترجح بين «داعش»، والأنظمة العسكرية، والنخب السياسية، والطُغِم العشائرية، والاحتلال الذي جاء بالطائفيين الذين يعيشون في الماضي، ويكرّسون ثقافة الحزن، ويناصبون الفرح عداءً مُستحكماً. وبسبب كثرة الطواعين تراجع العراقيون إلى الوراء، وشعرَ اليساريون بتفاقم وتيرة هذا التراجع المخيف.
يقترح الراوي أن ندرس ظاهرة الحزن التي انتشرت في الشوارع والميادين العراقية كما درسَ باختين الضحك في الساحات العامة؛ لأن الأمم العظيمة تبني هويتها الوطنية على مفاهيم حضارية وقضايا تنويرية شاملة، حيث عوّلت أميركا على الديمقراطية، وراهنت الصين على الثورة الاشتراكية، في حين وضع الفرنسيون ثقتهم في تراث الثورة الفرنسية، فلماذا يغامر «الطائفيون» العراقيون في بناء هويتهم على قضية تاريخية تخص حدثاً واحدا لا غير؟
ثمة سؤال خطير في هذا الكتاب مفاده: «لماذا لا ينتمي الطائفيون إلى البلد وإلى عاصمته؟ ألأنهم لا يستمعون لأغاني بلادهم؟» (ص35)؛ فالوطن من وجهة نظر المؤلف «تصوغهُ أغانٍ وأشعارٍ وحكاياتٍ مرويّة» (ص36)، ويورد مثالاً واقعياً على الطفلة ميرنا حنّا التي غنّت فأصغى إليها أكثر من 30 مليون عراقي، ليس لأن حنجرتها ذهبية، وإنما لأن غناءها يعزّز الانتماء إلى الوطن. إن تضييق الخناق على الغناء، وتحريم الموسيقى، ومنع الحُب، وتجريم المزاح يفضي من دون شك إلى مجتمع يهيمن عليه الحزن، وتخيّم عليه الكآبة، علماً بأن المبدعين هم الذين يصنعون شخصية الأمة، ويصوغون ذاكرتها وعقلها الباطن.
يستعرض الراوي أسماء الكثير من الأدباء والفنانين والمفكرين الفرنسيين أمثال هيغو، زولا، فلوبير، بلزاك موباسان، رودان، سارتر، بياف ورامبو، هؤلاء جميعاً وآلاف من صنّاع الثقافة والفن والفكر لا أحد يسأل عن عترتهم، أو إلى أي طائفة ينتمون؟ لا يختلف الأمر كثيراً في روسيا التي تفخر بدستويفسكي، وتولستوي، وتشيخوف، وبطرس الأكبر، وحتى المعارضون لنظام الحكم الروسي مثل سولجنستين وألكسندر هرزن اللذين أعادا اكتشاف روسيتهما من جديد بما نهلاه من ثقافة غربية؛ فلامسا وجدان الأمة الروسية. تُرى، هل يمكن تربية العراقيين على رموز الثقافة العراقية مثل المتنبي، السيّاب، البياتي، جواد سليم، يوسف عمر، مسعود العمارتلي، شمال صائب، علي مردان إلى آخر هذه القائمة النيّرة الطويلة التي تفضي إلى هُوية وطنية تسمح للعراقيين بالتصدي للأخطار المُحدقة بالوطن الجريح الذي ينزف منذ ستة عقود في أقل تقدير.
ما الذي يميّز بغداد الآن عن غيرها من الحواضر والمدن؟ وما أسطورتها التي تدلّ عليها؟ ففي موسكو هناك البولشوي ومايا بليستسكايا، أعظم راقصة باليه في القرن العشرين، وفي باريس هناك اللوفر وموباسان، وفي القاهرة هناك نجيب محفوظ وأم كلثوم. ماذا في بغداد الآن غير الكآبة والحزن الثقيل؟
يُعتبر مقهى «الوايتليز» وطناً مصغراً للاجئين العراقيين الذي يقارعون فكرة «السقوط في المنفى» كما أسماها الراوي، ففيه يستعيدون ذاكرتهم القريبة، ويستمعون إلى أغاني وحيدة خليل، وسليمة مراد، وناظم الغزالي ويسترجعون قصص حسون الأميركي، حجي راضي، عدنان القيسي وغيرهم من العراقيين الذين خلّفوا أثراً ما في ذاكرة العراق الحيّة. يرتاد هذا المقهى أناس كثيرون، لكن الراوي اختار أربعة نماذج عراقية مناضلة ومنفية أحبت العراق، وتشردّت من أجله، لكنها ظلت معتزة بكرامتها، ومحتفظة بإنسانيتها. هذه الشخصيات الأربع هي سعدي، حسين، فؤاد وجبار يأتون مذعورين، لكنهم ما إن يلجوا إلى «وايتليز» حتى يشعروا بالهدوء والأمان. أربع شخصيات من مستويات ومشارب ثقافية متنوعة تجمعهم السياسة والمنفى وحب الوطن، فسعدي عبد اللطيف قارئ نهم ومترجم جيد يجد نفسه في كل الثوار المهزومين الذين قالوا إن المستقبل للاشتراكية. أما حسين مزعل، فهو بطل ليس من هذا الزمان، يكتب نقداً رفيعاً ولا يحب المجاملة؛ لأنه ليس مهووساً بذاته. يعتقد أن سقوط بغداد قبل 758 سنة بسبب خيانة العلقمي، الوزير الأول الذي تخابر مع المغول، وصار أشبه بأبي رُغال الذي دلّ إبرهة على الكعبة. يتساءل مُحقاً: «هل أن الأحفاد من الزمن الحالي ساروا على نهج جدهم؟» (ص120). كما يعتقد حسين، مثل الراوي تماماً، بأن الأموات هم الذين يحركون التاريخ في هذه البلاد.
فؤاد كرجي هو النموذج الثالث الذي طُرد من العراق فوجد نفسه في لندن وحيداً ومطلّقاً ومنفياً. وعلى الرغم من كل المصائب التي مرّ بها، لا يزال فكهاً وساخراً، لكنه تعلّم أن يتماسك كي لا يتفتت عند أعتاب الشيخوخة.
أما الشخص الرابع والأخير فهو جبار دبيّس المنقطع إلى «السبايات» والطقوس الكربلائية، لكنه انبهر باليسار العراقي فانتمى إليه بحماس كبير جعلنا نشك، نحن القرّاء، في طبيعة إيمانه الديني من جهة، ودرجة ولائه السياسي من جهة أخرى.
نخلص إلى القول بأن الفكر النقدي الحرّ الذي يعوّل على العقل البشري المتنوِّر هو الذي يصنع الأمم المتحضرة، وأن الأدباء والفنانين والمفكرين هم الذين يؤسسون الهُوية الوطنية، ويخلقون الذاكرة الجمعية للبلد، وليس الطُغم العسكرية والعشائرية والدينية التي أرجعت العراق إلى الحقب المظلمة؛ لأن قادته الجدد لا يُحسنون إلا السير إلى الوراء.
أصدر رياض رمزي خمسة كتب، أبرزها رواية «التيس الذي انتظر طويلاً» و«الديكتاتور فناناً» اللذين لقِيا صدى طيباً بين القرّاء العراقيين والعرب.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.