إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز في لعبة ماكرون

رئيس وزراء فرنسا الجديد نسخة قريبة من صفات «سيد الإليزيه»

إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز  في لعبة ماكرون
TT

إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز في لعبة ماكرون

إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز  في لعبة ماكرون

لم تكن تسمية إدوار فيليب، رئيس بلدية مدينة لو هافر الفرنسية، الواقعة في منطقة النورماندي والمطلة على بحر المانش، رئيسا للحكومة الأولى في عهد رئيس الجمهورية الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون مفاجأة. فهذا السياسي (47 سنة) الذي تخلى عن مقعده النيابي ليكرّس نفسه لخدمة مدينته التي تعد أول مرفأ للحاويات في فرنسا والثاني - بعد مرفأ مرسيليا - للحركة البحرية العامة، كان الرجل المناسب في المكان المناسب. ذلك أن ماكرون كان يبحث عن رئيس حكومة جديد وشاب لم تطحنه السياسة وتستهلكه الفضائح. وكان يريد خصوصاً رجلا من اليمين بحيث يكون بمثابة الرمز أو الترجمة لفلسفته السياسية ولحركته «إلى الأمام» التي أرادها تخطيا لليمين واليسار معا. والمعروف أن ماكرون بدأ حياته السياسية منتميا إلى الحزب الاشتراكي وكان مستشاراً اقتصاديا للرئيس فرنسوا هولاند ثم أمينا عاما مساعدا للقصر الرئاسي قبل أن يعنيه الرئيس الاشتراكي وزيرا للاقتصاد في حكومة مانويل فالس الاشتراكية. وبكلام آخر، لم يكن ماكرون في حاجة إلى شهادة «حسن سلوك» من اليسار؛ لأنه ترعرع في أحضانه. لكنه كان، في المقابل، في حاجة إلى شهادة من اليمين. واقتناص إدوار فيليب من حزب الجمهوريين اليميني يعد صيداً ثميناً بسبب شخصية هذا السياسي من جهة، وخصوصا بسبب التداعيات التي أحدثتها تسميته وتسمية وزيرين يمينيين آخرين - وزير الاقتصاد برونو لومير، ووزير المال جيرار دارمران - داخل اليمين، واحتمال تشققه عقب الانتخابات البرلمانية يومي 11 و18 يونيو (حزيران) المقبل.
كتب الكثير عن إدوار فيليب، لا، بل خُصص له فيلم وثائقي تحت عنوان: «إدوار، صديقي اليميني». فالرجل الذي لم يسبق له أن شغل منصبا وزاريا في الماضي، دخل السياسة باكرا من باب الحزب الاشتراكي عندما كان طالباً، فتقرّب من التيار الإصلاحي الذي كان يمثله يومذاك رئيس الحكومة الأسبق ميشال روكار. إلا أنه ابتعد شيئا فشيئاً عن الاشتراكيين واقترب من اليمين المعتدل، وأصبح من أشد مناصري رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه.
والحقيقة، أن بين ماكرون وفيليب عدة نقاطا مشتركة: فكلاهما من منطقة النورماندي، الأول من مدينة أميان، والثاني من مدينة روان. وكلاهما سلك المسار الأكاديمي نفسه: معهد العلوم السياسية (سيانس بو) في باريس ثم المعهد الوطني العالي للإدارة (إينا) الذي يخرّج النخبة الإدارية والسياسية الفرنسية. وبين الرجلين «قرابة فكرية»؛ إذ يقول الثاني عن الأول إنه «يفكر مثله بنسبة 90 في المائة». وكلاهما يحب الرياضة نفسها: الملاكمة. فماكرون مارسها لفترة ثم توقف عنها... بينما كان فيليب يتدرّب، حتى تسميته رئيسا للحكومة، ثلاث مرات في الأسبوع.
يقوم التقليد في فرنسا على أن كل المتخرجين من «إينا» يدخلون بداية إلى الوظيفة الحكومية قبل أن يتوزّعوا بينها وبين القطاع الخاص. وهذا ما فعله ماكرون وما فعله كذلك فيليب. الأول، ذهب إلى بنك روتشيلد الشهير، حيث ربح الكثير من المال قبل أن يستدعيه هولاند ليعمل إلى جانبه. والثاني، استهوته مهنة المحاماة فانضم إلى مكتب جماعي يحمل اسم «دوبوفواز ــ بليمبتون إل إل بي». لكن السياسة كانت له بالمرصاد فولجها من الباب المحلي، أي في مدينته لوهافر ملتحقاً بفريق رئيس البلدية السابق أنطوان روفناخت الذي رعى أولى خطواته واحتضنه، لا، بل جعله وريثاً سياسيا له في مقعد رئاسة المجلس البلدي وفي المقعد النيابي.
* تلميذ جوبيه ومستشاره
بيد أن صعود نجم فيليب السياسي يدين به لرئيس الحكومة الأسبق آلان جوبيه الذي استدعاه في عام 2002 عند إطلاق حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» وغرضه تجميع اليمين والوسط، وضمان فوز جاك شيراك برئاسة الجمهورية. إدوار فيليب شغل يومذاك منصب مدير الحزب. ومنذ تلك الفترة بقيت علاقته ممتازة مع جوبيه. وعندما عيّن جوبيه وزيرا للبيئة في عام 2007، كان فيليب أحد مستشاريه. وعندما قرّر جوبيه خوض غمار الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين بغرض تسميته مرشحا عنه للرئاسة طلب من إدوار فيليب أن يكون ناطقا باسمه.
ولاحقاً، شغل رئيس الحكومة الجديد مناصب محلية كثيرة في مدينته ومنطقته. وبما أنه كان مقرّباً من روفناخت، فإنه ورث عنه رئاسة بلدية لو هافر في عام 2010، وقبلها وصل إلى الندوة البرلمانية من خلال النائب عن الدائرة جان إيف بسولا، مساعدا برلمانيا له واحتل مقعده عقب وفاته في العام 2012. وفي الانتخابات التشريعية التي تلت، نجح فيليب في الاحتفاظ بمقعده النيابي. ومع أن حوليات البرلمان لا تدل على أنه كان فاعلاً في المناقشات أو تقديم مقترحات القوانين، إلا أنه كان من بين الأكثر فاعلية على الصعيد العملي من النواب.
عند تسلم إدوار فيليب مهام منصبه الجديد من سلفه رئيس الوزراء الاشتراكي برنار كازنوف، حرص فيليب على تأكيد أنه ينتمي إلى اليمين. وتدل عمليات التصويت التي شارك فيها خلال العهدة النيابية الأخيرة أنه صوّت مع اليمين بشكل مستمر، لا، بل إنه صوّت ضد مشروع قانون يحمل اسم الرئيس ماكرون عندما كان وزيرا للاقتصاد. وفي عام 2016، صوّت فيليب ضد القانون المُسمّى «قانون الخمري» – نسبة لوزيرة العمل السابقة المغربية الأصل مريم الخمري – رغم أنه يسير وفق فلسفة اليمين لجهة تخفيف أعباء أرباب العمل والقيود وتسهيل التسريح. والمفارقة، أن ماكرون عهد إلى فيليب وإلى وزير الاقتصاد برونو لو مير - وكلاهما من اليمين - بالتحضير لقانون جديد للعمل يكون أكثر جذرية في إصلاحاته مما يتضمنه «قانون الخمري» الذي أخذ عليه اليمين وقتها أنه «لا يذهب بعيداً» في الإصلاحات.
من ناحية أخرى، يؤخذ على رئيس الحكومة الجديد قربه من «اللوبي النووي» في فرنسا بسبب الوظائف التي شغلها سابقاً في شركة «أريفا» المتخصصة بالصناعة النووية. ففي عام 2007، التحق فيليب بالشركة المذكورة مديراً عاما للشؤون العامة. وعملياً، كانت مهمته متابعة النواب الداعمين للصناعة النووية والوقوف بوجه المناهضين لها والساعين لأن تتخلى فرنسا - التي تنتج أكثر من 70 في المائة من طاقتها الكهربائية من المفاعلات النووية – عن الطاقة النووية. وإلى تلك الفترة، بالذات، تعود سمعة فيليب بأنه معاد للسياسة البيئوية ــ الإيكولوجية. وفيما بعد عارض بصفته نائب قوانين التخفيف من الاعتماد على النووي مصدراً للطاقة. وكانت حجته الدائمة أنه بين المحافظة على البيئة والمحافظة على فرص العمل (في القطاع النووي) فإنه يختار الثانية.
ومن ثم، بسبب مواقفه هذه، تعرّض فيليب - ومعه ماكرون - لانتقادات حادة من البيئويين. والسؤال المطروح الآن على الساحة السياسية الفرنسية يتناول طريقة العمل الجماعي بين فيليب وبين وزير البيئة نيكولا هولو، المعروف منذ سنوات بدفاعه الشديد عن البيئة ودعواته للتخلّي التدريجي عن الطاقة النووية. وللعلم، يُعد اجتذاب هولو أحد النجاحات السياسية اللافتة لرئيس الجمهورية، لأنه سبق لهولو أن رفض عروضاً سابقة بتولي منصب وزاري رغم إصرار رئيسين للجمهورية هما نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند على تعيينه.
* موضوع الشفافية
ثمة مآخذ أخرى على إدوار فيليب؛ إذ إنه لم يجلّ في ممارسة الشفافية المالية المفروضة على كل نائب. فمن جهة، عارض مشروع القانون الخاص بالشفافية الذي طرحته الحكومة الاشتراكية بعد فضائح وزير المالية السابق جيروم كاهوزاك. ومن جهة أخرى، تلقى في عام 2014 «لوماً» من الهيئة المشرفة على شفافية بيانات النواب والوزراء المالية التي أصبحت بموجب القانون إلزامية. ويؤخذ عليه أنه رفض في بيانه تقدير قيمة ممتلكاته غير المنقولة بحجة أنه «لا يعرف» قيمتها. غير أنه حرص لاحقاً، قبل تسميته رئيسا للحكومة، على تسوية أوضاعه مع مصلحة الضرائب. وبعد ذلك، قدم فيليب استقالته من البرلمان بعد التصديق على قانون منع الوظائف التراكمية مفضلاً البقاء رئيساً لبلدية لو هافر على مواصلة شغله مقعدها النيابي. لكنه بات مضطرا للاستقالة من رئاسة البلدية بسب قرار اتخذه الرئيس ماكرون وهو يمنع الجمع بين منصب وزاري وآخر انتخابي (بلدي، نيابي أو إقليمي).
رغم هذه التحفظات، يُعد تعيين فيليب «ضربة معلم» ماكرونية. فالرجل القريب من آلان جوبيه كلّف بمهمة أساسية، هي ليست فقط رئاسة الحكومة، ولكن أيضا أن يكون رئيسا للأكثرية النيابية التي يسعى للظفر بها الرئيس الجديد من خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة. وما يراهن عليه ماكرون الآن هو أن تكون استمالة ثلاثة ساسة من ساسة الصف الأول من معسكر اليمين عاملاً لتفكيك صفوف حزب الجمهوريين، وطريقاً لإعادة تركيب المشهد السياسي الفرنسي.
هذا، ومنذ ما قبل الانتخابات النيابية، طرحت عريضة من صفوف اليمين تدعو لـ«تلقف اليد الممدودة» من رئيس الجمهورية، بمعنى قبول التعاون معه عقب الانتخابات. ومن الذين يدفعون في هذا الاتجاه آلان جوبيه، تحديداً، الذي يرى أن فرنسا «لا يمكن أن تبقى في حرب أهلية سياسية دائمة»، وأنه إذا لم يحصل اليمين على الأكثرية المطلقة في البرلمان، فعليه عندها أن «يتعاون» مع رئيس الجمهورية «على القطعة» بمعنى بصدد كل مشروع قانون أو إصلاح على حدة.
* تجديد الطاقم السياسي
وحقاً، يأمل ماكرون الطامح لـ«تجديد» الطاقم السياسي الفرنسي أن تكون الانتخابات العامة (البرلمانية) المقبلة عاملاً مساعدا له على تحقيق هذا الهدف. وبعدما نسف رئيس الجمهورية الجديد اليسار الاشتراكي من الداخل بأن «امتص» ناخبيه في الرئاسيات، حيث حصل الحزب الاشتراكي على أقل من نسبة 7 في المائة من الأصوات في الدورة الانتخابية الأولى، فإنه يسعى الآن إلى تفجير اليمين أيضاً، وهذا ما أدركه قادة «الجمهوريين». وبالفعل، تفيد استطلاعات الرأي أن حزب «الجمهورية إلى الأمام»، وهو الاسم الجديد لحركة ماكرون «إلى الأمام»، سيحل في المرتبة الأولى في يونيو المقبل. لكن لا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بحصوله على الأكثرية المطلقة في البرلمان.
في هذا السياق، يعتبر ماكرون أن وجود رئيس حكومة يميني إلى جانبه وتسليم الاقتصاد والمال لوزيرين يمينيين من شأنهما تأجيج أزمة الناخب اليميني الذي سيكون عليه الاختيار، إما التصويت لصالح مرشحي رئيس يقرن القول بالفعل (دفع اليمين واليسار والوسط إلى العمل معاً)... أو التقوقع في إطار حزبي ضيق أثبت انعدام فعاليته في الانتخابات الرئاسية. ويشار هنا إلى أن حركة «الجمهورية إلى الأمام» أحجمت عن تقديم مرشحين منافسين في عدد من الدوائر، حيث يتنافس مرشحون يمينيون أبدوا استعدادهم للانضمام إلى الأكثرية الرئاسية عقب الانتخابات.
هكذا تقترب فرنسا من استحقاق انتخابي إضافي بعد معركة الرئاسية لم يسبق أن شهدت مثلها الجمهورية الخامسة منذ تأسيسها في العام 1958. ولقد لعب إدوار فيليب دوراً مهماً فيها لأنه حجرا أساسيا من لعبة الشطرنج التي يجيدها ماكرون. ذلك؛ أنه يُراد له أن يكون تجسيداً للرغبة الرئاسية في تغيير الممارسة السياسية، وضخ دماء جديدة وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتمكين المجتمع المدني من الدخول إلى السلطة وتخطي الحواجز والخنادق القديمة.
لقد أراد ماكرون أن تكون حكومته على صورته ومثاله، وأن يكون رئيسها جديداً، لكن في الوقت عينه يتمتع بخبرة سياسية، وبالقدرة على قيادة فريق حكومي والإشراف على عمله اليومي بينما التوجيهات الكبرى تعود إليه. وغير مرة شدد الرئيس الجديد على رغبته بالعودة إلى المفهوم الكلاسيكي للرئاسة، حيث «الرئيس يرأس والحكومة تحكم»... بمعنى أن الأول لن يكون مضطراً إلى الغوص في التفاصيل والاهتمام باليوميات.
هل سيكون فيليب قادرا على «ملء مقعده» وأن يقوم بالدور المنوط به؟
السؤال مطروح... لكن الإجابة عليه صعبة، وهي متروكة للآتي من الأيام.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.