إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز في لعبة ماكرون

رئيس وزراء فرنسا الجديد نسخة قريبة من صفات «سيد الإليزيه»

إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز  في لعبة ماكرون
TT

إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز في لعبة ماكرون

إدوار فيليب... قطعة الشطرنج الأبرز  في لعبة ماكرون

لم تكن تسمية إدوار فيليب، رئيس بلدية مدينة لو هافر الفرنسية، الواقعة في منطقة النورماندي والمطلة على بحر المانش، رئيسا للحكومة الأولى في عهد رئيس الجمهورية الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون مفاجأة. فهذا السياسي (47 سنة) الذي تخلى عن مقعده النيابي ليكرّس نفسه لخدمة مدينته التي تعد أول مرفأ للحاويات في فرنسا والثاني - بعد مرفأ مرسيليا - للحركة البحرية العامة، كان الرجل المناسب في المكان المناسب. ذلك أن ماكرون كان يبحث عن رئيس حكومة جديد وشاب لم تطحنه السياسة وتستهلكه الفضائح. وكان يريد خصوصاً رجلا من اليمين بحيث يكون بمثابة الرمز أو الترجمة لفلسفته السياسية ولحركته «إلى الأمام» التي أرادها تخطيا لليمين واليسار معا. والمعروف أن ماكرون بدأ حياته السياسية منتميا إلى الحزب الاشتراكي وكان مستشاراً اقتصاديا للرئيس فرنسوا هولاند ثم أمينا عاما مساعدا للقصر الرئاسي قبل أن يعنيه الرئيس الاشتراكي وزيرا للاقتصاد في حكومة مانويل فالس الاشتراكية. وبكلام آخر، لم يكن ماكرون في حاجة إلى شهادة «حسن سلوك» من اليسار؛ لأنه ترعرع في أحضانه. لكنه كان، في المقابل، في حاجة إلى شهادة من اليمين. واقتناص إدوار فيليب من حزب الجمهوريين اليميني يعد صيداً ثميناً بسبب شخصية هذا السياسي من جهة، وخصوصا بسبب التداعيات التي أحدثتها تسميته وتسمية وزيرين يمينيين آخرين - وزير الاقتصاد برونو لومير، ووزير المال جيرار دارمران - داخل اليمين، واحتمال تشققه عقب الانتخابات البرلمانية يومي 11 و18 يونيو (حزيران) المقبل.
كتب الكثير عن إدوار فيليب، لا، بل خُصص له فيلم وثائقي تحت عنوان: «إدوار، صديقي اليميني». فالرجل الذي لم يسبق له أن شغل منصبا وزاريا في الماضي، دخل السياسة باكرا من باب الحزب الاشتراكي عندما كان طالباً، فتقرّب من التيار الإصلاحي الذي كان يمثله يومذاك رئيس الحكومة الأسبق ميشال روكار. إلا أنه ابتعد شيئا فشيئاً عن الاشتراكيين واقترب من اليمين المعتدل، وأصبح من أشد مناصري رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه.
والحقيقة، أن بين ماكرون وفيليب عدة نقاطا مشتركة: فكلاهما من منطقة النورماندي، الأول من مدينة أميان، والثاني من مدينة روان. وكلاهما سلك المسار الأكاديمي نفسه: معهد العلوم السياسية (سيانس بو) في باريس ثم المعهد الوطني العالي للإدارة (إينا) الذي يخرّج النخبة الإدارية والسياسية الفرنسية. وبين الرجلين «قرابة فكرية»؛ إذ يقول الثاني عن الأول إنه «يفكر مثله بنسبة 90 في المائة». وكلاهما يحب الرياضة نفسها: الملاكمة. فماكرون مارسها لفترة ثم توقف عنها... بينما كان فيليب يتدرّب، حتى تسميته رئيسا للحكومة، ثلاث مرات في الأسبوع.
يقوم التقليد في فرنسا على أن كل المتخرجين من «إينا» يدخلون بداية إلى الوظيفة الحكومية قبل أن يتوزّعوا بينها وبين القطاع الخاص. وهذا ما فعله ماكرون وما فعله كذلك فيليب. الأول، ذهب إلى بنك روتشيلد الشهير، حيث ربح الكثير من المال قبل أن يستدعيه هولاند ليعمل إلى جانبه. والثاني، استهوته مهنة المحاماة فانضم إلى مكتب جماعي يحمل اسم «دوبوفواز ــ بليمبتون إل إل بي». لكن السياسة كانت له بالمرصاد فولجها من الباب المحلي، أي في مدينته لوهافر ملتحقاً بفريق رئيس البلدية السابق أنطوان روفناخت الذي رعى أولى خطواته واحتضنه، لا، بل جعله وريثاً سياسيا له في مقعد رئاسة المجلس البلدي وفي المقعد النيابي.
* تلميذ جوبيه ومستشاره
بيد أن صعود نجم فيليب السياسي يدين به لرئيس الحكومة الأسبق آلان جوبيه الذي استدعاه في عام 2002 عند إطلاق حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» وغرضه تجميع اليمين والوسط، وضمان فوز جاك شيراك برئاسة الجمهورية. إدوار فيليب شغل يومذاك منصب مدير الحزب. ومنذ تلك الفترة بقيت علاقته ممتازة مع جوبيه. وعندما عيّن جوبيه وزيرا للبيئة في عام 2007، كان فيليب أحد مستشاريه. وعندما قرّر جوبيه خوض غمار الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين بغرض تسميته مرشحا عنه للرئاسة طلب من إدوار فيليب أن يكون ناطقا باسمه.
ولاحقاً، شغل رئيس الحكومة الجديد مناصب محلية كثيرة في مدينته ومنطقته. وبما أنه كان مقرّباً من روفناخت، فإنه ورث عنه رئاسة بلدية لو هافر في عام 2010، وقبلها وصل إلى الندوة البرلمانية من خلال النائب عن الدائرة جان إيف بسولا، مساعدا برلمانيا له واحتل مقعده عقب وفاته في العام 2012. وفي الانتخابات التشريعية التي تلت، نجح فيليب في الاحتفاظ بمقعده النيابي. ومع أن حوليات البرلمان لا تدل على أنه كان فاعلاً في المناقشات أو تقديم مقترحات القوانين، إلا أنه كان من بين الأكثر فاعلية على الصعيد العملي من النواب.
عند تسلم إدوار فيليب مهام منصبه الجديد من سلفه رئيس الوزراء الاشتراكي برنار كازنوف، حرص فيليب على تأكيد أنه ينتمي إلى اليمين. وتدل عمليات التصويت التي شارك فيها خلال العهدة النيابية الأخيرة أنه صوّت مع اليمين بشكل مستمر، لا، بل إنه صوّت ضد مشروع قانون يحمل اسم الرئيس ماكرون عندما كان وزيرا للاقتصاد. وفي عام 2016، صوّت فيليب ضد القانون المُسمّى «قانون الخمري» – نسبة لوزيرة العمل السابقة المغربية الأصل مريم الخمري – رغم أنه يسير وفق فلسفة اليمين لجهة تخفيف أعباء أرباب العمل والقيود وتسهيل التسريح. والمفارقة، أن ماكرون عهد إلى فيليب وإلى وزير الاقتصاد برونو لو مير - وكلاهما من اليمين - بالتحضير لقانون جديد للعمل يكون أكثر جذرية في إصلاحاته مما يتضمنه «قانون الخمري» الذي أخذ عليه اليمين وقتها أنه «لا يذهب بعيداً» في الإصلاحات.
من ناحية أخرى، يؤخذ على رئيس الحكومة الجديد قربه من «اللوبي النووي» في فرنسا بسبب الوظائف التي شغلها سابقاً في شركة «أريفا» المتخصصة بالصناعة النووية. ففي عام 2007، التحق فيليب بالشركة المذكورة مديراً عاما للشؤون العامة. وعملياً، كانت مهمته متابعة النواب الداعمين للصناعة النووية والوقوف بوجه المناهضين لها والساعين لأن تتخلى فرنسا - التي تنتج أكثر من 70 في المائة من طاقتها الكهربائية من المفاعلات النووية – عن الطاقة النووية. وإلى تلك الفترة، بالذات، تعود سمعة فيليب بأنه معاد للسياسة البيئوية ــ الإيكولوجية. وفيما بعد عارض بصفته نائب قوانين التخفيف من الاعتماد على النووي مصدراً للطاقة. وكانت حجته الدائمة أنه بين المحافظة على البيئة والمحافظة على فرص العمل (في القطاع النووي) فإنه يختار الثانية.
ومن ثم، بسبب مواقفه هذه، تعرّض فيليب - ومعه ماكرون - لانتقادات حادة من البيئويين. والسؤال المطروح الآن على الساحة السياسية الفرنسية يتناول طريقة العمل الجماعي بين فيليب وبين وزير البيئة نيكولا هولو، المعروف منذ سنوات بدفاعه الشديد عن البيئة ودعواته للتخلّي التدريجي عن الطاقة النووية. وللعلم، يُعد اجتذاب هولو أحد النجاحات السياسية اللافتة لرئيس الجمهورية، لأنه سبق لهولو أن رفض عروضاً سابقة بتولي منصب وزاري رغم إصرار رئيسين للجمهورية هما نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند على تعيينه.
* موضوع الشفافية
ثمة مآخذ أخرى على إدوار فيليب؛ إذ إنه لم يجلّ في ممارسة الشفافية المالية المفروضة على كل نائب. فمن جهة، عارض مشروع القانون الخاص بالشفافية الذي طرحته الحكومة الاشتراكية بعد فضائح وزير المالية السابق جيروم كاهوزاك. ومن جهة أخرى، تلقى في عام 2014 «لوماً» من الهيئة المشرفة على شفافية بيانات النواب والوزراء المالية التي أصبحت بموجب القانون إلزامية. ويؤخذ عليه أنه رفض في بيانه تقدير قيمة ممتلكاته غير المنقولة بحجة أنه «لا يعرف» قيمتها. غير أنه حرص لاحقاً، قبل تسميته رئيسا للحكومة، على تسوية أوضاعه مع مصلحة الضرائب. وبعد ذلك، قدم فيليب استقالته من البرلمان بعد التصديق على قانون منع الوظائف التراكمية مفضلاً البقاء رئيساً لبلدية لو هافر على مواصلة شغله مقعدها النيابي. لكنه بات مضطرا للاستقالة من رئاسة البلدية بسب قرار اتخذه الرئيس ماكرون وهو يمنع الجمع بين منصب وزاري وآخر انتخابي (بلدي، نيابي أو إقليمي).
رغم هذه التحفظات، يُعد تعيين فيليب «ضربة معلم» ماكرونية. فالرجل القريب من آلان جوبيه كلّف بمهمة أساسية، هي ليست فقط رئاسة الحكومة، ولكن أيضا أن يكون رئيسا للأكثرية النيابية التي يسعى للظفر بها الرئيس الجديد من خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة. وما يراهن عليه ماكرون الآن هو أن تكون استمالة ثلاثة ساسة من ساسة الصف الأول من معسكر اليمين عاملاً لتفكيك صفوف حزب الجمهوريين، وطريقاً لإعادة تركيب المشهد السياسي الفرنسي.
هذا، ومنذ ما قبل الانتخابات النيابية، طرحت عريضة من صفوف اليمين تدعو لـ«تلقف اليد الممدودة» من رئيس الجمهورية، بمعنى قبول التعاون معه عقب الانتخابات. ومن الذين يدفعون في هذا الاتجاه آلان جوبيه، تحديداً، الذي يرى أن فرنسا «لا يمكن أن تبقى في حرب أهلية سياسية دائمة»، وأنه إذا لم يحصل اليمين على الأكثرية المطلقة في البرلمان، فعليه عندها أن «يتعاون» مع رئيس الجمهورية «على القطعة» بمعنى بصدد كل مشروع قانون أو إصلاح على حدة.
* تجديد الطاقم السياسي
وحقاً، يأمل ماكرون الطامح لـ«تجديد» الطاقم السياسي الفرنسي أن تكون الانتخابات العامة (البرلمانية) المقبلة عاملاً مساعدا له على تحقيق هذا الهدف. وبعدما نسف رئيس الجمهورية الجديد اليسار الاشتراكي من الداخل بأن «امتص» ناخبيه في الرئاسيات، حيث حصل الحزب الاشتراكي على أقل من نسبة 7 في المائة من الأصوات في الدورة الانتخابية الأولى، فإنه يسعى الآن إلى تفجير اليمين أيضاً، وهذا ما أدركه قادة «الجمهوريين». وبالفعل، تفيد استطلاعات الرأي أن حزب «الجمهورية إلى الأمام»، وهو الاسم الجديد لحركة ماكرون «إلى الأمام»، سيحل في المرتبة الأولى في يونيو المقبل. لكن لا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بحصوله على الأكثرية المطلقة في البرلمان.
في هذا السياق، يعتبر ماكرون أن وجود رئيس حكومة يميني إلى جانبه وتسليم الاقتصاد والمال لوزيرين يمينيين من شأنهما تأجيج أزمة الناخب اليميني الذي سيكون عليه الاختيار، إما التصويت لصالح مرشحي رئيس يقرن القول بالفعل (دفع اليمين واليسار والوسط إلى العمل معاً)... أو التقوقع في إطار حزبي ضيق أثبت انعدام فعاليته في الانتخابات الرئاسية. ويشار هنا إلى أن حركة «الجمهورية إلى الأمام» أحجمت عن تقديم مرشحين منافسين في عدد من الدوائر، حيث يتنافس مرشحون يمينيون أبدوا استعدادهم للانضمام إلى الأكثرية الرئاسية عقب الانتخابات.
هكذا تقترب فرنسا من استحقاق انتخابي إضافي بعد معركة الرئاسية لم يسبق أن شهدت مثلها الجمهورية الخامسة منذ تأسيسها في العام 1958. ولقد لعب إدوار فيليب دوراً مهماً فيها لأنه حجرا أساسيا من لعبة الشطرنج التي يجيدها ماكرون. ذلك؛ أنه يُراد له أن يكون تجسيداً للرغبة الرئاسية في تغيير الممارسة السياسية، وضخ دماء جديدة وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتمكين المجتمع المدني من الدخول إلى السلطة وتخطي الحواجز والخنادق القديمة.
لقد أراد ماكرون أن تكون حكومته على صورته ومثاله، وأن يكون رئيسها جديداً، لكن في الوقت عينه يتمتع بخبرة سياسية، وبالقدرة على قيادة فريق حكومي والإشراف على عمله اليومي بينما التوجيهات الكبرى تعود إليه. وغير مرة شدد الرئيس الجديد على رغبته بالعودة إلى المفهوم الكلاسيكي للرئاسة، حيث «الرئيس يرأس والحكومة تحكم»... بمعنى أن الأول لن يكون مضطراً إلى الغوص في التفاصيل والاهتمام باليوميات.
هل سيكون فيليب قادرا على «ملء مقعده» وأن يقوم بالدور المنوط به؟
السؤال مطروح... لكن الإجابة عليه صعبة، وهي متروكة للآتي من الأيام.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.