كيف تقرأ مقدمة؟

كان العرب يسمونها «خطبة الكتاب»

غلاف إحدى طبعات كليلة ودمنة
غلاف إحدى طبعات كليلة ودمنة
TT

كيف تقرأ مقدمة؟

غلاف إحدى طبعات كليلة ودمنة
غلاف إحدى طبعات كليلة ودمنة

«كيفية كتابة مقدمة» عنوان مقال لأمبرتو إيكو، ضمن كتابه الساخر «كيفية السفر مع سلمون».
المقال مكرس بالأساس للسخرية من فقرات الشكر بمقدمات الكتب، التي صارت تقليداً لا يمكن تلافيه. حتى لو وجد المؤلف نفسه غير مدين بالشكر لأحد، عليه أن يخترع من يتوجه إليهم بشكره «لأن كل بحث يخلو ممن يدين له الباحث هو بحث مشبوه!».
وفي محاكاة ساخرة للتقليد الأحمق يشرع إيكو في شكر من ساعدوه في كتابة المقال بادئاً بالآنسة التي تنظف مكتبه، مروراً بزوجته التي شجعته وأولاده الذين يوفرون له السعادة، منتهياً بمشرفي التحرير في أسبوعية الإكسبريس الذين أخذوا يذكرونه بدأب بموعد الطبع فأجبراه على اختراع موضوع للزاوية التي لم يكن يجد لها فكرة أو موضوعاً.
كما هو معروف، كتاب «كيفية السفر مع سلمون» الذي ترجمه للعربية حسين عمر، هو في الأصل تجميع لزاوية أسبوعية كان الفيلسوف الروائي الراحل يكتبها للمجلة الفرنسية، ولم يستطع الفكاك من تقليد كتابة مقدمة لكتاب يضم مقالاً يسخر فيه من المقدمات، ويشكك في ضرورتها.
مقدمة إيكو بحث في معنى السخرية، وكان من الممكن أن تكون مجرد نص آخر، توضع في أي ترتيب بين غيرها من المقالات، لكن هناك ما يُحتم وجودها على ناصية الكتاب؛ فعبر شرح معنى السخرية يبرر إيكو نفسه أمام قارئ شرير، قد يتساءل عن جدوى إعادة نشر زاوية صحافية تناولت أسبوعاً بعد أسبوع موضوعات شتى تبدو بلا رابط؛ من أدوات المائدة على الطائرات إلى أخلاق سائقي التاكسي، إلى علامات الترقيم في الكتابة الأدبية.
يأخذ إيكو ذلك القارئ الشرير من يده: «انظر! السخرية هي النسغ الحي الذي يجمع هذه الفوضى». وبعد أن يبسط رؤيته وتعريفه للسخرية وظروف كتابة المقالات ينهي إيكو مقدمته بجملة عن العمل على الترجمة مع مترجمة، لا يذكر اسمها، متحاشيا أن يشكرها، لكنه يقول إنه تسلى معها كثيراً أثناء محاولات ترجمة ما لا يُترجم. لم تأت الإشارة إلى «فعل الترجمة» وصعوباته عبثاً، بل لتنبيه قارئ آخر موغل في الشر إلى أنه كتب مقالاته بالإيطالية، وليس بالفرنسية أو بأي لغة أخرى يُترجم إليها الكتاب، ملقياً بمسؤولية أي لبس أو عدم وضوح على صعوبة نقل بعض الإشارات من لغة إلى أخرى، وبالطبع على عاتق المترجمة المسكينة التي لم يذكر اسمها والمترجمين الذين سينقلون عنها إلى لغاتهم!
القراءة الواعية لمقدمات الكتب ستجعلنا نكتشف أن الوظيفة الأساسية لهذه النصوص ليس وضع مفتاح الكتاب في يد قارئ صديق، بل تحصين المؤلف في مواجهة القارئ العدو.
كان العرب يسمون المقدمة «خطبة الكتاب» لأنها تشترك مع الخطب الدينية والسياسية في كونها مرافعة تستهدف تأليف القلوب وكسب الأنصار وتفويت الفرصة على الأعداء. فقرات الشكر التي يحرص عليها كثير من المؤلفين المعاصرين ويسخر منها إيكو، هي صدر الخطبة في المصنفات العربية القديمة، إذ تبدأ المقدمة كخطبة الجمعة بحمد الله وطلب تأييده.
وقد يحتاط المؤلف من القراء الأكثر شراً؛ الذين لا يردعهم الوازع الديني؛ فيتوجه بالشكر إلى وزير أو أمير، يرعى الأدب والفكر، وأحياناً ما يكون الكاتب واضحاً أكثر فينوه مباشرة إلى أنه لم يضع مؤلفه إلا بناء على طلب من ذلك الوزير أو الأمير.
الحمقى من رعاة التقاليد الأكاديمية الذين يشكرون مساعديهم ويسخر منهم إيكو، ليسوا على ذلك القدر من الحمق الذي يتصوره، لأن التنويه بشركاء في الكتاب، يوحي بثقل العلم الذي يحتويه، والذي لا يمكن لعقل واحد أن يحمله، مع ذلك سيبقى الشركاء هامشيين لا يتذكرهم أحد (بعضهم مذكور باسمه الأول فقط: كلارا من دار نشر كذا) ويبقى العمل باسم مؤلفه الذي يستعيد سيادته الكاملة بجملة الختام الشهيرة: «وأي تقصير يعود إلى وحدي». لا يمكن لقارئ حصيف إلا أن يلمح نبرة الفخر تحت قشرة الشهامة المدعاة التي تضع المشكورين في حجمهم الطبيعي كأعضاء برلمان صوري اختاره الكاتب الديكتاتور بنفسه!
واختراع من يشكرهم المؤلف إن لم يوجدوا في الحقيقة، ليس مجرد وفاء لتقليد أخرق، وهم ليسوا دائماً زينة تبرز قامة المؤلف الديكتاتور. الكاتب الخائف من السلطة أو من التقاليد يلجأ كذلك إلى اختراع المشكورين، وينسب لهم الكتاب بالكامل. في تاريخ الكتابة شرقاً وغرباً عشرات الكتب المنسوبة إلى أشخاص لم يوجدوا قط، وهناك مئات الروايات التي يزعم مؤلفوها أنها مخطوط عثروا عليه بالمصادفة، وتطورت وظيفة اللقية لتتسع لغرض الإيهام بواقعية الأحداث، وأفرط الكّتاب في استخدام هذه التقنية حتى ابتذلوها.
وبينما يقف المؤلفون على بعد حلقة واحدة من كتبهم التي يتبرأون منها، انفرد ابن المقفع بإلقاء درته «كليلة ودمنة» على بعد حلقتين عبر إحكام قصصي في مقدمة يزعم فيها أن مؤلف الكتاب هو بيدبا الفيلسوف، كتبه خصيصاً من أجل دبشليم ملك الهند، قبل أن يأمر كسرى بلاد فارس بترجمته إلى اللغة الفهلوية.
مؤلف ومترجم وضعهما عبد الله بن المقفع بينه وبين الكتاب، والأهم بالطبع وجود ملكين في القصة: من أمر بالتأليف ومن أمر بالترجمة، وكلاهما حرص على الاحتفاظ بالكتاب وتأمينه في خزينته الخاصة كأثمن أسرار الدولة. المقصود بالكلام هو لخليفة المسلمين وواليه والقراء الأكثر شراً الذين قد يتطوعون بالوشاية: «هذا كتاب رعاه ملكان، فهو في صالح السلطة لا ضدها».
حتى الآن لم يعثر أحد على نسخة من الكتاب في السنسكريتية أو الفهلوية، وليس هناك وجود لفيلسوف اسمه بيدبا، لكن «الفهلوة» التي مدت في عمر الكتاب، لم تنج المؤلف من مصير القتل بسبب كلام آخر أطلقه دون قناع المقدمة!



«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!