وسائل التواصل الاجتماعي صارت ديوان العرب

شعراء ملأوا الدنيا وشغلوا الناس ثم خفت بريقهم

وسائل التواصل الاجتماعي صارت ديوان العرب
TT

وسائل التواصل الاجتماعي صارت ديوان العرب

وسائل التواصل الاجتماعي صارت ديوان العرب

نشرنا في العدد الماضي، آراء عدد من الكتاب والنقاد عن أسباب خفوت حضور شعراء، مثل نزار قباني، ومحمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة، وفدوى وإبراهيم طوقان، ولميعة عباس عمارة، الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس يوما، ثم صاروا أقرب للنسيان منهم من الحضور. فما الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ ننشر في هذه الحلقة آراء عدد آخر من الكتاب والنقاد والأكاديميين العرب..
من السعودية، يقول الناقد يونس البدر، المحاضر في كلية الآداب بجامعة الملك فيصل، وعضو النادي الأدبي بالأحساء: الشعر والأدب عموماً أصبح حبيس الدراسات الجامعية، وباتت قصائد نزار ونازك وعبد الصبور نماذج تُلقى في قاعات الدرس فقط، ولا شك هم نماذج تستحق الحضور؛ لأنهم شعراء مرحلة مهمة في تاريخ الأدب العربي، ولا يمكن أن يكونوا مرحليين بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة؛ فلهم الريادة التي أسست لرؤية جديدة في الشعر على مستوى الشكل؛ إذ يعود لهم الفضل في ظهور وتطور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. أما ضعف الاهتمام بقراءة الدواوين والمتون الأدبية هذه الأيام فهو بسبب الحضور الطاغي لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت هي القناة المعرفية الجاذبة، والمؤثرة، صارت هي ديوان العرب وسجلهم، مع الأسف. وبقيت الدراسات الأكاديمية مخلصة للصرامة العلمية؛ فهي أيضاً محكومة ببعض الضوابط الفنية والآيديولوجية التي قد تقرب شاعراً وتقصي آخر، ولا سيما بعد أن اتضحت آيديولوجيات هؤلاء الشعراء واتجاهاتهم الفكرية. وفي ظل نظرية «موت المؤلف» توغلت الأبحاث في المنهجية الصارمة وتقصّي ما هو جديد في المناهج النقدية واللسانيات على حساب المدونات، وأصبح التوجه للدراسات السردية بشكل أكبر؛ وصارت السرديات هي محور الدرس في أدبية الأدب، لتأكيد أن هذه الأدبية لا تنحصر في الشعر فقط. فاستحوذت الموضوعات السردية على نصيب الأسد في الدراسات الأكاديمية، وقد لاحظت ذلك من خلال تواصلي مع الكثير من طلبة الدراسات العليا في الجامعات السعودية، فالقصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية والحكايات الشعبية موضوعات باتت محل الاهتمام الأكاديمي، وهذا بدوره قلّل من حظ الشعر في هذه الدراسات، وإن كان ثمة دراسات تأخذ الشعر مدونة لها فهي قليلة.
* بن يوسف المبارك: مشكلة ظروف محيطة
أما الشاعر السعودي عبد اللطيف بن يوسف المبارك، فيقول: من ينظر إلى التاريخ يكتشف أن لكل شخصية خالدة ولادات كثيرة بعد الموت، تستدعى حسب الحاجة، فمن الطبيعي جداً أن ترى كتابات أمل دنقل على جدران ميدان التحرير في 2011؛ لأن حالة الثورة تحتاج إلى نص أمل دنقل، كما تجد تراجعا لكتابات نزار قباني في زمن الحرب الأهلية؛ لأنه في الأصل شاعر للحب وليس للحرب. ولكن ما يلفت الانتباه حقاً هو أن نسيان شخصية لا يعني موتها بالضرورة، فربما ستعود، لكن الظروف ليست سانحة، ومن ناحية أخرى سنجد أن هناك أصواتا تنسى، بل غالبية الأصوات الشعرية منذ الزمن الجاهلي تنسى إلا إذا كانت جديرة حقاً بالخلود. وسؤال الخلود يعتبر من أكثر الأسئلة المرهقة للمبدعين، فكما يقال إن المبدع يكتب نصه لولد سيولد بعد مائة عام، يبقى السر في الخلطة السحرية التي تسعف النص في الصمود أمام عوامل التعرية والزمن، والمضحك المبكي أنه لا يمكن التكهن بكيفية الخلود؛ لذلك قال محمود درويش «تنسى كأنك لم تكن… إلى آخر القصيدة»، وتناول هذا الموضوع ميلان كونديرا بتفصيل أكبر في روايته (الخلود)، ووصل إلى نتيجة محبطة، وهي أن الخلود مجرد حدث عابر لا يمكن التكهن به، ولا السعي إليه، ويظهر ذلك جلياً في الحوار الافتراضي بين همنجواي وغوته، حيث بقي من همنجواي أنه سكير يمشي في شوارع باريس، وغوته رجل كبير يغازل صبية صغيرة تدعى بينيتا بينما كل الأعمال الإبداعية تذهب أدراج الرياح.
لذلك؛ لا يمكن وضع اللوم على النقاد أو على ظهور فن آخر أكثر رواجاً، وما يمكننا فعله هو التعامل مع كل تجربة على حدة، فشعراء القرن العشرين لا يمكن التعامل معهم بصفتهم مجموعة وحالهم كحال الجاهليين، فلا نجمع بين امرئ القيس صاحب المعلقة والسليك بن سلكة الصعلوك؛ لذلك نرى أن شخصية مثل نازك الملائكة أهم ما قدمته هو التنظير للقصيدة الحديثة، لذلك ستراها حاضرة بين أروقة الأكاديميات، تغيب وتحضر حسب الاهتمام النقدي، وشاعر مثل عبد الوهاب البياتي سيحضر إذا عادت الفكرة الشيوعية؛ لأنه حضر من خلالها أصلاً، ونزار قباني حالة غنائية حضورها مرتبط بتردي الأعمال الغنائية أو تساميها؛ لذلك لا أظن أن هذه الشخصيات تعاني مشكلة نسيان، ولكن مشكلة ظروف محيطة فقط، وما يشغلني حقاً هي الأصوات المعاصرة التي تخوض في كم هائل من الضوضاء، ولا أظن أن صدر التاريخ سيتسع لها، بل ستنسى كأنها لم تكن خبراً ولا أثراً.. وتنسى!
* عساكر: لماذا خلد المتنبي؟
ويقول الشاعر السعودي جاسم عساكر: الزمن يتآكل فيتآكل شعراء كل حقبة بتآكلها، ليس الشعراء فقط فيما أحسب، فالفنانون التمثيليون والمسرحيون والرسامون مثلا ليسوا أحسن حالا، والشعراء هم ضمن هذا النسيج المتداخل عدا ما يملّح منهم ويعلّب للحفظ في أكياس الذاكرة وثلاجة الزمن، ليس عبر إنتاجه الشعري فقط وإنما عبر التواصل المباشر مع نصوصه في أمور الحياة؛ فالمتنبي مثالاً لماذا خلد؟ خلد لأن أبياته الحكيمة تضرب في صميم المشهد في كل سياقاته التاريخية؛ لأنها تلامس واقع الحياة وتواكبها في كثير من متغيراتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن المناهج الدراسية والأكاديمية لا تكاد تخلو من نصوصه المفروضة التي تدرس للطلاب سواء نصوص شعرية أو دراسات في هذه النصوص. وبالعودة إلى الأسماء المذكورة وسواهم من الشعراء، فأعتقد أيضا أن الجيل الحالي وبعد الانفجار الرقمي الرهيب الذي جعل الثقافات تنفتح على بعضها بعضا فقد وجد ما يسد رمقه بعد تشبعه من هؤلاء الشعراء وكأن طاقاتهم الاستيعابية استنفدت ما لديها فلم تعد قادرة على تلبية نهم الحاضر بمتغيراته، ولا إشباع جوعه اليومي وهمومه الطارئة والمستجدة، وإن ما كان عسير المنال من دواوينهم يوما ما أصبح اليوم يجلب بضغطة أزرار وكأنما كلما ازداد الإنسان قربا سهلا لمن يحب خفتْ بريق معشوقه في نفسه وضمر إشعاعه، هذا عدا ما للصورة اليوم من منافسة قوية هزمت حضور الشعر وبروز الفنون الأخرى كالرواية التي تباع أضعاف أضعاف ما يباع الديوان الشعري الذي أصبح أكثر من يتداوله الشعراء أنفسهم.
وبهذا؛ لم يصبح الشاعر هو النجم وهو الرمز، فليس من «سوق عكاظ» جديد يضرب له الناس آباط دوابهم ليستمعوا للشنفري ولبيد والنابغة، وما من أحمد شوقي ولا الجواهري ولا البردوني، جدد تمتلئ في أمسياتهم القاعات ويدوي التصفيق، كيف وحتى الأطفال الذين كانوا قديما يتأثرون بحضورهم مع آبائهم هذه الأماسي ويرددون قصائد الشعر التي يسمعونها في الأقراص المضغوطة (السيديهات) وأشرطة الكاسيت، أصبح الاهتمام بالقراءة اليوم يتناقص بحكم ما طرأ على المجتمعات الحديثة من آليات تقنية كالآيباد وسواه الذي يفضله الأطفال لما يحويه من أفق شاسع للألعاب والمسليّات، كل هذا مضاف إليه ما أنتجه الزمن والتعليم والإعلام من فجوة بين الفصحى وأبنائها اليوم وتسيد الشعبي والمحكي والسهل الذي تعشقه الذهنية العربية المشغولة بالأحداث فليس لديها الوقت لتفكيك تقعيرات اللغة وحل رموزها ومحسناتها البديعية والبلاغية، إلى أن أصبحت الصورة أكثر رفاهية وراحة نفسية ومشاهدة فيلم واحد أصبحت تغني عن ألف قصيدة.
* البريكي: الشعر لا يزال له حضوره الطاغي
من الشارقة، يقول مدير بيت الشعر محمد عبد الله البريكي: معظم الشعراء الذين ذكرهم التحقيق، ما زالوا إلى وقتنا هذا يحظون بالمتابعة وقراءة نتاجهم الأدبي ودراسته عبر ندوات فكرية تتطرق إلى السمات الفنية في أعمالهم، وتسليط الضوء على تلك المرحلة باعتبارها تمثل مرحلة انتقالية للتطور والتجديد، وما تبعها من رفض وقبول وتأكيد حضور في الواقع من عدمه.
لكن بطبيعة الحال ومع العدد الكبير من الشعراء الشباب الذين استفادوا من تجارب الرواد عبر الوسائل التي سهلت وصول المعلومة وعبر الكثير من المؤسسات الثقافية والمنابر التي أتاحت لهم التعبير عن خلجات نفوسهم، وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيل ميديا أصبح من الطبيعي أن يقل التركيز على أسماء بعينها، ومنحها الزخم نفسه التي كانت تحظى به، أضف إلى ذلك أن الشاعر إنسان يتغير مزاجه حسب الظروف المحيطة به وهي كثيرة مثل المرض والإحباط وقلة الرغبة والتي تؤثر بشكل كبير في علاقته بالكتابة، وربما هي طبيعية من أجل أن تظهر طاقات جديدة تناسب أو تتفهم الواقع وتتعاطى مع الزمن والمكان بلغة ووجدان أقرب إلى التعبير؛ نظرا للتماس مع الحدث. أما فيما يتعلق بأثر الأجناس الأخرى على قلة الحضور الشعري لدى البعض فأعتقد ألا علاقة لها بهذا؛ فالشعر له حضوره الطاغي.
ومن وجهة نظري فإنه لا منافس له بحكم أنه سماعي أكثر منه قرائي فتجده في الأمسيات الشعرية والاحتفالات المختلفة، وتسمعه في الأغنية وعبر وسائل التواصل المتعددة، ويردده الناس في مجالسهم ويتمثلون بأبياته في الكثير من حالاتهم بينما تقتصر بعض الأجناس الأدبية على القراءة وهي مضطرة إلى الطباعة حتى تصل إلى الناس، ولهذا أرى أن الشعر علاقته معها علاقة تكامل وتراسل وتواصل.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي