فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية

الأحداث في كاراكاس مرآة لتجارب ما بعد الديكتاتورية والانقلابات العسكرية في القارة

فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية
TT

فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية

فنزويلا... وتحدّيات الديمقراطية في أميركا اللاتينية

تعد أميركا اللاتينية قارة مفعمة بالتناقضات، فهي وإن كانت قد شهدت بعض الاستقرار خلال السنوات الأخيرة، فإن بعض دولها تعيش أياما صعبة، ومنها ما سقط في خضم من الاضطرابات. وها هي فنزويلا، على سبيل المثال، التي كانت تعتبر في يوم من الأيام واحدة من أغنى دول العالم بفضل مواردها النفطية الهائلة، تكابد الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة منذ عدة سنوات وحتى الآن.
الحقيقة أن الكثير من الدول التي تكوّن نسيج هذه القارة، تبدو للغرباء عنها وكأنها تتشارك في قواسم مشتركة كثيرة مثل اللغة والثقافة والتاريخ. وهذا صحيح من دون شك. كذلك خلال العقود طوت دول أميركا اللاتينية صفحتي الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية، وغدت الانتخابات من العناصر الشديدة الأهمية في أنظمتها السياسية ولكنها يمكن أن تُحل النعم أو تجلب النقم في آن واحد.

يمكن الوقوف على أسباب الحكومات الدائمة الاضطراب والتغير في دول أميركا اللاتينية بعد الاستحقاقات الانتخابية، إذ يمكن للحكومات تغيير مساراتها بوتيرة فائقة السرعة وبأكثر مما تشهده الحكومات الديمقراطية الأخرى. ويمكن إلغاء العمل بالعقود الحكومية، وإخضاع الصناعات للرقابة الصارمة، أو الاستحواذ على الأصول المملوكة للدولة. وعند تقييم الأداء الديمقراطي في دول أميركا اللاتينية، فإن التساؤل الأول ينبغي أن يكون: هل للديمقراطية هناك مفهوم مختلف عن المألوف؟
بابلو جينتيلي، السكرتير التنفيذي لمجلس العلوم الاجتماعية في أميركا اللاتينية، يرى أن هذه المنطقة من العالم تمر بحالة من التشنج، ويشرح قائلا: «هناك نزاع كبير قائم في أميركا اللاتينية حول كيفية عمل الديمقراطية، وهناك الكثير من الحقائق التي تؤكد انعدام التوافق إزاء نموذج الديمقراطية المطلوب اعتماده».
وتذهب مارثا لوشيا ماركيز، الخبيرة في دراسات أميركا اللاتينية في جامعة خافيريانا الكولومبية، أبعد فتوضح أنه في الوقت الحاضر «توجد صعوبات جمة تتعلق بترسيخ الديمقراطية. وهناك توجهات سلطوية في بعض دول القارة مثل فنزويلا وكوبا، ثم ثمة ميل عند دول لاتينية محددة لجعل السلطة التنفيذية أعلى من السلطة التشريعية... بل وإعطاء السلطة التنفيذية سلطات تشريعية. وبالإضافة إلى ذلك، تسمح الدساتير المختلفة هناك بإعادة الانتخاب الذي يمنح بدوره المزيد من السلطات لرؤساء الدول، وهذا الاختلال يعظّم من الأدوار التي يلعبونها في السياسات الداخلية».
وهنا لا بد من الإشارة، إلى أن الرؤساء السلطويين يمقتون أي شكل من أشكال المعارضة. ويمكن مشاهدة هذا بوضوح في الإكوادور، حيث أشرف الرئيس اليساري رافائيل كورييا، بعد ثلاث فترات رئاسية متوالية، على انتخاب خليفته على كرسي الرئاسة لينين مورينو. وفي بوليفيا حدث نفس الشيء تحت حكم الرئيس اليساري إيفو موراليس. ومن ناحية ثانية، فإن التعديلات الدستورية، هي في غالب الأمر، الأداة التي يستخدمها الرؤساء السلطويون للتشبث بالسلطة، وهي من أبرز الأمثلة على هشاشة الديمقراطية واضطرابها في القارة الأميركية.
في الباراغواي، الدولة الصغيرة في أميركا الجنوبية الواقعة بين جارتين كبيرتين هما الأرجنتين والبرازيل، أقدم متظاهرون – أخيراً – على إضرام النيران في مبنى البرلمان أثناء الاحتجاجات الجارية ضد التعديلات الدستورية التي تسمح للرئيس بالترشح لفترة ولاية ثانية على التوالي. وللعلم، أجري التصويت على تلك التعديلات في سرية تامة داخل مجلس الشيوخ، لتأمين إعادة انتخاب الرئيس هوراشيو كارتيز، الأمر الذي يحظره دستور البلاد المعمول به منذ عام 1992.
* تعديل الدستور
لقد مرت التعديلات الدستورية، التي تسمح للرؤساء بتولي المنصب لفترات رئاسية إضافية في كل من الإكوادور وبوليفيا. كما جرت الموافقة على إعادة انتخاب الرئيس في فنزويلا، بيد أن نظام الحكم الاشتراكي هناك شهد بعض الانتكاسات في السنوات الماضية. ففي عام 2007. تعرض الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري للهزيمة بفارق ضئيل، وكانت تلك الانتكاسة التي واجهها الرئيس السابق الراحل هوغو شافيز في مسعاه للحصول على المزيد من الصلاحيات الرئاسية والقضاء على فترات الولاية الرئاسية غير المحدودة. غير أن هذه الضربة التي تلقاها شافيز وأنصار حركة شافيزمو الاشتراكية المؤيدة له كانت ذات أثر محدود.
وبعدما شهد خليفته الرئيس نيكولاس مادورو، سيطرة المعارضة اليمينية على الجمعية الوطنية (البرلمان)، قضت على فاعلية المعارضة أحكام المحكمة العليا في فنزويلا. إذ حكم القضاة الموالون لشافيز بأن الجمعية الوطنية «متهمة بازدراء المحكمة العليا». وبالتالي، من خلال الاستيلاء على سلطات البرلمان، تمكنت المحكمة العليا من القضاء على آخر أشكال المعارضة المؤسساتية المنظمة المناهضة لحكم مادورو.
وعلى الرغم من أن وضع النظام الحالي في فنزويلا متراجع الآن، فإن هذه الحلقة من التاريخ المعاصر تسلّط الضوء على أوضاع الديمقراطية الهشّة للغاية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، منع زعيم المعارضة الأبرز والمرشح الرئاسي الأسبق، هنريكي كابريليس، من الترشح في الانتخابات الرئاسية لمدة 15 سنة. ونتيجة لذلك، اندلعت الاحتجاجات الحالية العارمة في شوارع العاصمة كاراكاس والمدن الأخرى ضد نظام مادورو بصورة تكاد تكون شبه يومية. وبينما يطالب السواد الأعظم في معسكر المعارضة برحيل مادورو عن السلطة، تقترب فنزويلا من التحول إلى واحدة من أكثر المناطق عنفا في القارة.
الخبيرة ماركيز، فإن الرئيس مادورو دأب على القضاء على كل المنافسين السياسيين الذين قد يعملون على مناهضة حركة شافيزمو الاشتراكية في الانتخابات الرئاسية لعام 2018. وفي حالة فنزويلا، الدولة الأكثر تطرفا من الناحية السياسية في المنطقة، ينصح جينتيلي قائلا: «إذا كان لديك حريق مشتعل فأسوأ ما يمكنك فعله هو وضع الوقود بجانبه. وليس في مصلحة فنزويلا على الإطلاق أن تكون المناصب في البلاد مقتصرة على مصالح مجموعة واحدة دون أخرى. ولن يجني أي قطاع فيها خيراً إذا ما استمر في إبادة القطاع الآخر».
* البرازيل والأرجنتين
من جهة ثانية، صار المواطنون في الآونة الأخيرة أكثر اهتماماً بشؤون بلادهم، وما عادوا يطيقون الصمت على الممارسات الخاطئة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الوضع الحالي في البرازيل، التي تجد نفسها في مستنقع أزمة سياسية خلّفت آثاراً اقتصادية مدمرة. ففي العام الماضي دفعت الرئيسة السابقة ديلما روسيف ثمن فضائح فساد اتهم بها حزب العمال الحاكم. وعلى الرغم من أن روسيف لا تتحمل مسؤولية تلك الاتهامات بصورة مباشرة، فإن فضيحة الفساد التي تتعلق بشركة النفط الكبرى «بتروبراس» المملوكة للحكومة قضت على شعبية حكومتها، وعلى شعبية الرئيس الحالي ميشال تامر أيضاً. ووفق جينتيلي «ثمة حيرة عظيمة وسخط كبير فيما يتعلق بالطبقة السياسية الحاكمة في تلك البلاد».
وعلى حدود البرازيل، اتخذت الأرجنتين القرار بتعديل الدستور للسماح للرئيسة السابقة كريستينا فيرنانديز كيرشنر بالترشح لولاية رئاسية ثالثة في انتخابات عام 2015 الرئاسية، غير أن الأداء السيئ وتهم الفساد وانقسام معسكر اليسار والوسط الذي كانت تمثله فيرنانديز كيرشنر – التي لم تترشح في ذلك العام – أدى إلى خسارة مرشحها الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام مرشح اليمين موريسيو ماكري في أواخر 2015.
الحقيقة، أن هناك عدداً من دول أميركا اللاتينية التي، مع عودة الديمقراطية بعد عقود، حظرت التجديد للرؤساء، في محاولة لمنع نشوء أنظمة حكم سلطوية. من هذه الدول تشيلي والبيرو، على سبيل المثال، فهذان البلدان «الجاران» لا تسمح للرئيس بتولي المنصب بعد فترتين رئاسيتين متتاليتين، ولقد قاومتا بشدة إغراءات التعديلات الدستورية. ولكن على الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، فإن الأحداث في فنزويلا تذكّر القارة بأسرها أن الديمقراطية هناك فعلاً ضعيفة. وحيث إن المنظمات الإقليمية التي تمثل هذه الدول، مثل الكتلة التجارية لبلدان القطاع الجنوبي «ميركوسور» أو منظمة الدول الأميركية «أواس»، لم تقدم سوى ردود فعل ضعيفة ومحدودة على تصرفات نظام حكم نيكولاس مادورو، وفي ظل الأفعال الأخيرة من جانب المحكمة العليا الفنزويلية، لا بد من وجود ردود فعل أكثر قوة وصرامة. ووفقا للخبراء في شؤون أميركا اللاتينية، فإن نموذج الديمقراطية الجديد قد يأخذ طريقه نحو التشكل في المستقبل، ولكن ليس بالضرورة في وقت قريب، وبالتالي، علينا الانتظار لنرى كيف ستتجه الأحداث.
في بوليفيا، يقول مراقبون إن الرئيس أيفو موراليس، في السنة الـ 11 من مدته الرئاسية، بات مهتماً بالحملة الانتخابية أكثر من اهتمامه بتحسين ظروف المواطنين وأوضاعهم. مع ذلك، يشير هؤلاء إلى أن هدفه الأساسي هو الحصول على دعم البلاد في عام 2019 لتعديل القانون بحيث يتاح له الترشح لفترة رئاسية رابعة. وفي وقت سابق من هذا الشهر، بعد تحرك شعبي، وافقت الحكومة على رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 11 في المائة لتصل إلى نحو 287 دولارا أميركيا.
* مسار فنزويلا
رونالد رودريغيز، الخبير في شؤون فنزويلا في جامعة ديل روزاريو في جمهورية كولومبيا المجاورة، يقول: إن فنزويلا معتادة على الأنظمة القاسية «فخلال القرن التاسع عشر، اعتاد القادة النافذون المحليون على تعديل الدستور. كذلك يمكن للمرء الحديث عن حكام أشداء خلال النصف الأول من القرن العشرين ومنهم خوان فيشنتي غوميز، الذي عدّل الدستور ثماني مرات، وهو ما يشير إلى أن تعديل الدستور من الممارسات المعتادة، في حين أنه خلال الحقبة الديمقراطية لم يتم تعديل الدستور إلا مرة واحدة».
وبالتركيز على الوضع في فنزويلا، فإنه يزداد سوءاً كل يوم عن اليوم الذي يسبقه، حسبما تشير الإحصاءات الأخيرة حيث بلغ عدد القتلى في الاحتجاجات الحاشدة تجاوز 30 قتيلا حتى الآن، في حين ازداد عدد الجرحى على 500. وتزداد الأرقام مع مرور الأيام. كذلك تكشف المعطيات الجديدة عن نية مادورو واعتزامه التمسك بالسلطة بأي ثمن. وكان قد صدم العالم أخيراً بإعلانه غير المتوقع عن تشكيل مجلس تأسيسي وطني لصياغة دستور جديد. والجدير بالذكر، أن سلفه هوغو شافيز، مؤسس التيار الشافيزي اليساري، هو الذي صاغ الدستور الحالي عام 1999.
من المفترض الآن إجراء الانتخابات الرئاسية، التي ينبغي اختيار خليفة لمادورو، عام 2018. إلا أنه ما زال طي المجهول ما إذا كانت تلك الانتخابات ستجرى أم لا، خاصة أنه يمكن أن يسفر التعديل الجديد للدستور من جانب مادورو عن بقائه في السلطة لأجل غير مسمى.
بطبيعة الحال تعهدت قوى المعارضة اليمينية بمقاومة أفعال الرئيس اليساري، مناشدة الشعب مواصلة الخروج في مسيرات في الشوارع والساحات. وتقول ليليان تنتوري، زوجة ليوبولدو لوبيز، أحد قادة المعارضة والمعتقل السياسي الذي أمضى ثلاث سنوات في السجن: «كيف يعقل أن يرغب ابن شافيز في القضاء على الشيء الوحيد الذي تركه شافيز في البلاد وهو دستور يزخر بحقوق الإنسان؟ ما يحدث هو أن النظام الحاكم، مع الأسف، لا يلتزم لا بالقانون ولا الدستور، ونحن نواجه مشكلة حيث لا توجد ديمقراطية في فنزويلا»، على حد زعمها.
في سياق متصل، كان مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هاري مكماستر ورئيس البرلمان الفنزويلي (معارض) خوليو بورخيس قد اتفقا أخيراً في العاصمة الأميركية واشنطن على الحاجة إلى إنهاء الأزمة السياسية والاقتصادية التي تشهدها فنزويلا بشكل سريع وسلمي، بحسب إعلان صادر عن البيت الأبيض. وفي هذه الأثناء، تواجه فنزويلا أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها وسط معاناة السكان من نقص حاد في الغذاء والدواء أمام خلفية سب تضخم مرتفعة للغاية، وتطالب المعارضة اليمينية الرئيس مادورو، بالتخلي عن السلطة وإجراء انتخابات رئاسية جديدة. كذلك تتهم المعارضة مادورو أنه من خلال فرض دستور جديد على البلاد إنما يسعى إلى الاستيلاء على السلطة الوحيدة الباقية للبرلمان، حيث الغالبية للمعارضة، من أجل حكم البلاد دون رقابة أو توازن. ومن ثم، من المتوقع أن يتفادى الدستور الجديد الذي يريده مادورو إجراء انتخابات جديدة، وهي من المطالب الأساسية لقوى المعارضة.
هذا الحال دفع البابا فرنسيس للإعراب عن قلقه إزاء الوضع في رسالة وجهها إلى كبير الأساقفة الكاثوليك في فنزويلا قائلاً إن بالإمكان حل المشاكل إذا كانت هناك «رغبة في بناء الجسور» و«إقامة حوار والالتزام بالاتفاقات». أما زعيم المعارضة هنريكي كابريليس فقال إنه تم اعتقال 85 عنصرا من الجيش بسبب انتقادهم لحكومة الرئيس. وجاءت عمليات الاعتقال تلك مع تصاعد القلق من إمكانية قيام الجيش بانقلاب ضد الحكومة الحالية، وفق مصادر صحافية.
على صعيد، في خطوة أخرى قد تفاقم الأمور أكثر بدأت سلطات فنزويلا عملية التخلي عن عضويتها في «منظمة الدول الأميركية»، التي هي تجمع كبير لدول أميركا الجنوبية والشمالية، وذلك رداً على ضغوط المنظمة باتجاه تغيير مسار البلاد، وإدانتها للانتهاك المنظم من جانب السلطات الحاكمة في فنزويلا لحقوق الإنسان. والواقع أنه في حال انسحاب فنزويلا، ستكون بذلك أول دولة تترك المنظمة في تاريخها. مع ذلك لن يكون الأمر بالبساطة وبالسرعة التي يأملها مادورو، إذ يمكن فرض غرامة مالية على فنزويلا لمغادرة الاتحاد. ولقد أعربت بعض دول أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو، إضافة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن القلق من تفاقم الأزمة التي تشهدها فنزويلا.
* «تجارب» لاتينية متعددة
على صعيد آخر، له صلة بهشاشة الديمقراطية الأميركية اللاتينية، نشير إلى أنه أثناء فترة حكم الزوجين نيستور وكريستينا كيرشنر في الأرجنتين، كان هناك الكثير من وقائع اضطهاد الصحافة الحرة التي كانت مقالاتها الافتتاحية تزعج الحكومة. وكانت أشهر قضية في هذا السياق قضية صحيفة «كلارين» التي حاولت الحكومة تفكيكها بالقوة. وجارٍ التحقيق مع الرئيسة السابقة كريستينا اليوم في اتهامات فساد، وإثراء غير مشروع، وكذلك يجري التحقيق مع أعضاء آخرين في إدارتها.
ولكن، على الجانب الآخر، تمثل كوستاريكا نموذجاً مغايراً تماماً في أميركا اللاتينية، حيث تُعرف بأن ليس لديها جيش نظامي، ولطالما كانت دولة ديمقراطية مسالمة طوال أكثر سنوات القرن العشرين. كذلك من الملاحظ أنها واحدة من أكثر الدول الصديقة للبيئة على مستوى العالم. وغير بعيد عن كوستاريكا، وبعد ماض مضطرب اتخذت السلفادور خطوة استثنائية تتمثل في حظر استخراج المعادن لتكون بذلك أول دولة في العالم تفعل ذلك. وجاء هذا القرار رغبة منها في الحفاظ على مواردها المائية النادرة، وحمايتها من الملوثات الناتجة عن هذه الصناعة. ولقد ضحى البرلمان باتخاذه هذا القرار بالأرباح من أجل الحفاظ على البيئة والسكان.
في إطار هذا النقاش حول ما إذا كان مفهوم الديمقراطية في أميركا اللاتينية يتغير أم لا، من المهم مراجعة الدور التاريخي الذي اضطلعت به الأحزاب السياسية التي كانت عنصراً أساسيا في الوصول إلى الديمقراطية الصحية.
للأسف فقدت الكثير من الأحزاب العريقة ذات التقاليد التاريخية، التي اعتادت تمثيل قطاع كبير من السكان في البلاد، رونقها وروحها وهويتها الآيديولوجية. وهو ما فتح الباب أمام الأحزاب التي تسعى إلى الفوز بالانتخابات من خلال قادة يعتمدون في الوصول إلى السلطة على قوة شخصيتهم وشعبيتهم فقط.
ويتضح كثيراً هذه الأيام أن هناك نوعين من أنظمة الحكم في أميركا اللاتينية: نوع ذو توجه اشتراكي يفقد قوته ونفوذه في المنطقة كحال فنزويلا والإكوادور وبوليفيا وكوبا ونيكاراغوا. ونوع آخر يميل إلى تيار اليمين في دول وسط أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو. والقادة اليمينيون لهذه الدول لا يترددون في وصف الوضع في فنزويلا بفقدان حالة الديمقراطية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.