فرنسا تصنع نقطة التوازن وسط تباين توجهات الاقتصاد العالمي

نتيجة الرئاسيات تدعم توجه المركزي الأوروبي نحو التشديد

مناصرون للرئيس الفرنسي المنتخب يحتفلون بفوزه اول من أمس
مناصرون للرئيس الفرنسي المنتخب يحتفلون بفوزه اول من أمس
TT

فرنسا تصنع نقطة التوازن وسط تباين توجهات الاقتصاد العالمي

مناصرون للرئيس الفرنسي المنتخب يحتفلون بفوزه اول من أمس
مناصرون للرئيس الفرنسي المنتخب يحتفلون بفوزه اول من أمس

بين حمائية الغرب وإغراق الشرق، ظهرت بوادر ارتياح في القارة الأوروبية انعكست عالميا بفوز إيمانويل ماكرون بكرسي الرئاسة الفرنسي؛ حيث يدعم إلى حد ما مبدأ العولمة الذي تدافع عنه القارة في وجه الحمائية القومية التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمرشحة الفرنسية الخاسرة مارين لوبان... كما أنه يدعم التجارة الحرة مع التزام بالضوابط في وجه الإغراق السلعي الذي تمارسه القوى الاقتصادية في أقصى الشرق بقيادة الصين.
وخشيت أوساط المستثمرين والمتعاملين حول العالم المد والجزر المناهض للهجرة والحمائية، وتنامي العزلة التي اجتاحت العالم، مع حدثين بارزين تمثلا في فوز ترمب والاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، مع احتمالات تشاؤمية بانتشار «فيروس العزلة والانفصال» إلى داخل الكتلة الأوروبية الموحدة، لكن هذه الحقبة من الاستقطاب «انكسرت» في الوقت الراهن عند «نقطة الثقل» السياسي التي قدمتها فرنسا للعالم.
ونتيجة لذلك، صارت فرنسا للعالم وخاصة الولايات المتحدة «حليفا» يمكن الاعتماد عليه في الاتحاد الأوروبي من منظور دفاعي واقتصادي.
وعلى الجهة الأخرى، وخلال قمتي مجموعة السبع في بعد أيام قليلة في مايو (أيار) الحالي، ومجموعة العشرين في يوليو (تموز) المقبل، سيتمكن الأوروبيون من تشكيل جبهة موحدة في مواجهة «أميركا» دونالد ترمب الذي ينتهج الحمائية. بينما على جبهة ثالثة داخل الاتحاد الأوروبي ستبقى فرنسا متضامنة مع الدول الأخرى خلال مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ورحبت صحيفة «نيويورك تايمز» بانتخاب ماكرون لكونه خيارا ضد «العزلة في أجواء من المرارة... وانتصارا للأمل والتفاؤل على الخوف والرجعيين». وكتبت صحيفة «فرانكفورتر الغمايني تسايتونغ» الألمانية أن «العالم نجا من كابوس... فقد تفادى العالم الغربي زلزالا سياسيا جديدا بعد ترمب وبريكست».
ويدعم ماكرون البقاء في الاتحاد الأوروبي على عكس خصمته المهزومة مارين لوبان، ومع وجود نحو 500 مليون مستهلك، يعتبر الاتحاد الأوروبي سوقا ضخمة للسلع الأميركية، وتظل الكتلة أكبر شريك تجاري لأميركا. وذلك في وقت يظهر فيه الاهتمام الأميركي البالغ، مع إعطاء وزير التجارة الأميركي ويلبر روس الأولوية لفتح محادثات تجارية مع الاتحاد الأوروبي.
وكانت مجرد احتماليات فوز لوبان بالانتخابات الفرنسية مثيرة لكثير من التشاؤم، خاصة إذا اتجهت عاصمة النور إلى الانفصال بدورها عن أوروبا «فريكست»، وهو الأمر الذي كان ليقود إلى تأثير خطير على التجارة العالمية.
ورحبت أنجيلا ميركل، التي تؤمن بالاتحاد الأوروبي والتبادل الحر ويمقتها المتطرفون، بـ«الأمل»، لأن الرئيس الفرنسي الجديد يدافع عن «الانفتاح على العالم» ويؤيد بقوة «اقتصاد السوق الاجتماعية».
وكتبت «نيويورك تايمز» عن الأسباب العميقة لفوز ترمب ولبريكست، وأيضا حصول لوبان على 34 في المائة من الأصوات، قائلة: «يشعر كثيرون بأنهم مهمشون بسبب العولمة والركود الاقتصادي والحكومات العاجزة والبطالة والإرهاب وتدفق المهاجرين».
وقال بول دونوفان من مصرف «يو إس بي» إن «المستثمرين قد يعتقدون أن السياسة المناهضة للمؤسسات انتصرت، لكن هذا التفكير غير عقلاني»، وأضاف: «التفاوت في المستوى المعيشي يغذي اقتصاد كبش الفداء؛ أي الرغبة في تحميل مجموعة خارجية مسؤولية المشكلات القائمة».
وشدد الرئيس الفرنسي الشاب مرارا مساء الأحد في كلمته على أنه يواجه «مهمة ضخمة» تتمثل في إصلاح الاتحاد الأوروبي والقضاء على البطالة وانعدام المساواة وتحرير الاقتصاد مع حماية العمال في آن واحد. وقال إن هذه الإصلاحات الحساسة جدا هي المفتاح «لكي لا يكون للفرنسيين أي سبب للتصويت للأحزاب المتطرفة بعد اليوم».
لكن كبير خبراء الاقتصاد في مصرف «كوميرسبنك» الألماني يورغ كرامر حذر من تبدد أمل ماكرون مع استحقاق الانتخابات التشريعية الشهر المقبل. وقال: «نتفهم جيدا ارتياح بروكسل وبرلين وعواصم أخرى لفوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية. لكن ماكرون سيواجه صعوبة في الحصول على أكثرية في مجلس النواب تتيح له تطبيق برنامجه».
وقالت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني أمس إن الانتخابات الفرنسية تقلل من المخاطر السياسية والتحديات المقبلة، رغم أن الوكالة رأت أن ماكرون يواجه معركة صعبة في ظل ارتفاع معدلات البطالة في فرنسا إلى نحو 10 في المائة، مقابل 4 في المائة في الدول الحاصلة على التصنيف نفسه (AA)، وأكدت «فيتش» ضرورة القيام بإصلاحات مالية والالتزام بتكامل الاتحاد الأوروبي.
وفي إشارة مشجعة لأوروبا، وصلت ثقة المستثمرين في منطقة اليورو إلى أعلى مستوى لها منذ عقد تقريبا، وقفز مؤشر سنتيكس الشهري لمعنويات المستثمرين إلى 27.4 نقطة في مايو الحالي، من 23.9 نقطة في أبريل (نيسان) الماضي.
وجرى الاستطلاع في الفترة من 4 إلى 6 مايو الحالي، موضحا قلقا نسبيا بين أوساط المستثمرين بشأن عدم الاستقرار السياسي، الذي انخفض بالفعل قبل انتخابات الأحد الفرنسية، وقالت سنتيكس للأبحاث إن المستثمرين توقعوا انخفاضا في حالة عدم اليقين السياسي في منطقة اليورو.
ورغم الأداء الباهت للسوق الأوروبية أمس، فإن الاقتصاد الأوروبي بعد فوز ماكرون يعطي دفعة للبنك المركزي الأوروبي لتشديد السياسة النقدية «عاجلا»، وقام البنك المركزي الأوروبي بضخ مليارات اليوروات في اقتصاد منطقة اليورو منذ بضع سنوات من خلال برنامج التحفيز لشراء السندات، ومع انتعاش التضخم خلال الشهور القليلة الماضية تبدو آفاق النمو أكثر «جاذبية».
ودافع ماريو دراغي رئيس المركزي الأوروبي بوضوح وقوة عن موقف البنك «التكيفي» حاليا، إلا أن السيناريو الأكثر ترجيحا هو تشديد السياسة النقدية نظرا لتحسن الاقتصاد وانخفاض التوترات المالية مع مخاطر سياسية أقل، بعد نجاح خطة التيسير الكمي التي قادها المركزي الأوروبي.
وستقود أي تلميحات بتحول السياسة إلى ارتفاع في عائدات السندات الأوروبية، وتضييق الفوارق بين عائدات السندات الأميركية ومنطقة اليورو وقوة العملة الموحدة لـ19 دولة.
وتضمن انتخاب ماكرون أن تلتزم فرنسا باتفاقية باريس للمناخ التي تم الاتفاق عليها العام الماضي في العاصمة الفرنسية 195 دولة بما فيها الولايات المتحدة، وربما ستكون مهمة ماكرون الأولى إقناع ترمب بالبقاء على مسار الاتفاق في أوسلو الأسبوع المقبل، وحث مستثمري 15 تريليون دولار في الأصول الحكومية على التمسك بالاتفاق.
ويرى مراقبون أن ماكرون لن يغير شيئا من الموجة القومية في الغرب، ولن يكون هناك سوى ثورة حضارية حقيقة قادرة على وقف هذه الموجة، ورجحوا أن الأميركيون الذين نادوا بأن كمال أوروبا «هو مجرد حلم»، رجعوا خالين الوفاض مع توقف موجات القومية والشعبية في أوروبا. وجلب انتصار ماكرون انتصارا آخر للذين يريدون الاتحاد الأوروبي «على قيد الحياة»، بالتزامن مع إلمام الجميع بالصعاب والمشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في وجه الرئيس الجديد.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».