محنة الإرث الثقافي العربي

ثقافتنا اليوم في حالة استضعاف تتعرض لغارات فكرية وسلوكية ومفاهيمية

ابن رشد  -  فريدريك هيغل
ابن رشد - فريدريك هيغل
TT

محنة الإرث الثقافي العربي

ابن رشد  -  فريدريك هيغل
ابن رشد - فريدريك هيغل

أكد الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل على وجود ما سماه «روح الأمة»، فلم يعتبرها مجرد وعاء مؤسسي/ جغرافي. وعلى الرغم من كل مكونات الأمة، فإنها لديها ما يمكن اعتباره روحها الجمعية التي تميزها عن باقي الدول والمجتمعات، وتقديري أن المكون الرئيسي لهذه «الروح» هي الثقافة التي ينشأ عليها المجتمع ويطورها مع مرور القرون، فالثقافة هي ما تعطي للمجتمعات شكلاً خاصاً يميزها، ويكون له دوره الهام في بناء النسيج المجتمعي والتماسك السياسي، بل وصناعة هوية المجتمع، ولكن تطور العلاقات الدولية أفرز لنا ما هو معروف بالعولمة وتوابعها، التي جعلت الثقافة تتأثر بثقافات المجتمعات الأخرى بشكل قوي وأسرع، إضافة لبزوغ مفاهيم دولية جديدة جعلت الثقافة مكوناً في المعادلات السياسية بين مفهوم صراع الحضارات أو مسعى كثير من الدول لمحاولة طمس الروافد الثقافية الموروثة، كما يحدث عند المناقشات الخاصة ببعض مسائل حقوق الإنسان التي تدفع نحو وضع حد سياسي/ قانوني للفصل بين مفهوم الحداثة والتقاليد. وفي الحالتين السابقتين، فإننا للأسف كأمة عربية نكون في الوضع الدفاعي عن إرثنا الثقافي، بل والحضاري أو حتى هويتنا المرتبطة بالإسلام والعروبة، خصوصاً بعد إشعال الفتيل المغرض للربط بين الإسلام والإرهاب، على سبيل المثال.
نتيجة هذه التفاعلات، فإننا نواجه امتداداً للصدام الحقيقي أو المفتعل بين الحداثة على المستوى الدولي وتقاليدنا في صياغة أو الحفاظ على مفاهيمنا الثقافية، خصوصاً في زمن أصبحت فيه الثقافة سلعة يتم تبادلها بشكل موسع، سواء على المستوى الإنساني أو الاقتصادي أو التجاري أو حتى السياسي، بعدما أطلق المفكر الأميركي جوزيف ناي مفهوم «القوة الناعمة»، الذي أدخل الثقافة كمكون في قوة الدول وتأثيراتها الدولية، وقد كان من المفترض أن تكون الثقافة بالنسبة لنا قيمة مضافة على المستوى الدولي، ولكن العكس حدث، خصوصاً بعد الغارة العنيفة «لشيطنة الإسلام»، الذي يعد أهم مكون في الهوية العربية ودرة تاج لغتها، وأهم أسس مراحل تقدمها الفكري والثقافي والعلمي عبر قرون، وهو ما ساهم في وضعنا جميعاً اليوم في حالة حداد، ليس على ثقافتنا العربية فحسب، ولكن على عدم قدرتنا الفعلية للمضي قدماً نحو النهضة الثقافية استناداً إلى موروث ضخم من الفكر والقيم والتقاليد والأدب والتاريخ والفنون.
لا خلاف على أننا نواجه اليوم سؤالاً حول ما إذا كان تراثنا الثقافي، الذي يعد وعاء هويتنا، صالحاً لأن يكون ضمن روافد نهر الثقافة الدولية بعد العولمة؟ والسؤال الأشد خطورة هو صحة ما يدعيه بعض المفكرين الغربيين وغيرهم - وللأسف من بيننا أيضاً - من أن إرثنا الثقافي في حالة صدام مع عالم اليوم ومرحلة ما بعد الحداثة. وتقديري أن الإجابة على السؤالين تبدأ من أن هذا الإرث الثقافي العربي لم يُخلق من العدم، ولكن نتيجةً لتفاعل عدد من المكونات عبر التاريخ، إضافة لمحورية عنصر الإسلام، فقد تولد شكلاً ثقافياً مختلفاً، والأهم أن هذه الثقافة شهدت تفاعلاً واضحاً من وإلى الثقافات المحيطة بها بشكل تبادلي وجدلي لا خلاف عليه حتى القرن السادس عشر، عندما آلت نقاط الارتكاز السياسية من المركز العربي إلى الآستانة. وخلال هذه الفترة، فإن الثقافة العربية أنجبت الكثير من العلماء والفلاسفة والشعراء، مثل ابن خلدون وابن رشد والرازي والغزالي وابن النفيس وابن الهيثم وغيرهم، بل حتى في علوم الدين، فإن فكر المعتزلة - على سبيل المثال لا الحصر - قد اعتمد على منهجية فلسفات يونانية، وطور مفاهيم عميقة في الدين، وتم تصديرها للفكر المسيحي، ومنه إلى الثقافة الأوروبية، فكان للثقافة العربية دورها التفاعلي الصحي والبارز، وكما أشرنا خلال مقالة ابن رشد السابقة، فإن عصر النهضة الأوروبي بُني على فلسفة هذا الرجل وآخرين من قبله، وبالتالي فإننا لسنا في حاجة لإثبات قدرة هذه الثقافة على التفاعل مع العالم الخارجي، رغم الصراعات المرتبطة بفترات ممتدة من تاريخنا مع الغرب وغيره من الحضارات، فمقارعات السيوف لا تحول دون تبادل الفكر والعلوم والثقافة والتفاعل بينها.
واستناداً إلى ما سبق، فإن اللبنة الأساسية للثقافة العربية لا تزال قوية وقادرة على المساهمة في الثقافات الدولية المختلفة، ولكن المشكلة ستظل في أننا لم نبن بعد على عصر النهضة الفكرية الذي شهدها العالم العربي، التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر على أيدي أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، إضافة إلى الحركة الفنية والأدبية والصحافية التي تلت هذه الحركة مباشرة، وكانت مركزها مصر بدعم من الشام والعراق، واستمرت حتى مطالع النصف الثاني من القرن الماضي، ولكنها تراجعت بشكل كبير حتى أصبحت ثقافتنا اليوم في حالة استضعاف تتعرض لغارات وسهام فكرية وسلوكية ومفاهيمية لا تجد وسيلة لصدها أو استيعابها بشكل فعال حتى وصل الأمر للتأثير على هويتنا، بالتالي يصبح الحل الأمثل هو ضرورة الدفع نحو نهضة ثقافية ثانية يكون أساسها تطوير الإرث الثقافي العربي الذي أصبح اليوم جزءاً مهماً من الأمن القومي العربي، وهنا تؤول مسؤولية هذه الثورة الفكرية المنتظرة على عاتق الدولة في المقام الأول قبل مثقفيها ومجتمعاتها لتجديد هذه الثقافة بكل مشتملاتها.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.