بعد عقود من التهميش... أكراد سوريا يؤسسون إعلاماً خاصاً بهم

عانى أكراد سوريا على مدى عقود طويلة، تهميشاً وحرماناً من القراءة والكتابة بلغتهم الأم جراء سياسات عنصرية وصلت ذروتها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي؛ عندما منع الرئيس الراحل حافظ الأسد الأكراد السوريين من التحدث بلغتهم في المؤسسات والدوائر الحكومية.
لكن بعد انطلاق الثورة في شهر مارس (آذار) 2011، أسس المعارضون إعلاماً بديلاً لمواجهة الإعلام الرسمي الناطق باسم الحكومة، في حين تنفس الأكراد الصعداء ليعكفوا على تأسيس إعلام كردي خاص بهم مبني على مبادرات شبابية مستقلة.
* إذاعات تخاطب مستمعيها بالكردية
«نخاطب الجمهور بلغة بسيطة ومفهومة، وندمج العربية الشائعة مع ترجمتها الكردية لتصبح اللغة المستخدمة في البرامج»... بهذه الكلمات بدأت الإعلامية شيرين إبراهيم حديثها مع «الشرق الأوسط» وأضافت: «لا شك عندما تتحدث بلغة جمهور منطقتك ستحظى باهتمام ومتابعة أكبر».
وتعمل شيرين كمذيعة ومعدة برامج في إذاعة «أرتا إف إم» وتعني «المقدس»، وهي أول إذاعة كردية محلية بدأت بثها من بلدة عامودا التابعة لمحافظة الحسكة، أوائل يوليو (تموز) 2013. وتبث برامجها بأربع لغات: الكردية والعربية والسريانية والأرمينية.
واعتبرت شيرين أنّ انتشار الإعلام الكردي بمثابة تأكيد على الهوية الثقافية للأكراد، ولفتت: «نسعى لإظهار خصوصيتنا كشعب له لغة وموروث ثقافي، كان مغيّباً عن الإعلام السوري الرسمي والخاص».
وتعمل في المناطق الكردية نحو 10 إذاعات محلية، إحدى هذه الإذاعات «هيفي إف إم» وتعني «الأمل»، بدأت بثها من مدينة القامشلي (أقصى شمال شرقي سوريا) في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، لتتناول المواضيع الثقافية والاجتماعية المنوعة ونشرات الأخبار.
ولدى حديثه مع «الشرق الأوسط» نقل عامر مراد مدير إذاعة هيفي أنّ: «كل من دخل هذا المجال ملم باللغة الكردية، سواء من يديرها أو يعمل فيها، حتى المذيعون والمذيعات يتم اختيارهنّ بحسب خبراتهنّ في إتقان الكردية كتابةً وقراءة».
ويضيف مراد أن معظم برامج الإذاعة تبث باللغة الكردية، لكنه أشار: «إننا نبث بالعربية البرامج العلمية فمثلاً لدينا فقرة (دنيا تك) تبث بالعربية كون كل المفردات تكنولوجية بالعربية».
واتجه الإعلام الكردي إلى التخصص أكثر، حيث انطلقت في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2015 إذاعة «جين إف إم» وتعني «الحياة»، ومقرها بلدة عامودا، وهي أول تجربة إذاعية نسائية كردية.
وفي حديثها مع «الشرق الأوسط» قالت الإعلامية أفين شيخموس المديرة التنفيذية للإذاعة، «إننا نعمل على تعزيز دور المرأة في المجتمع والدفاع عن حقوقهنّ ونشر الوعي الجندري».
ولم تخفِ صعوبة العمل بالمجال الإعلامي عموماً، والنسائي خصوصاً، وتعزو الأسباب إلى: «قلة الخبرات وحداثة العمل ونقص التمويل، إضافة إلى ضعف البرامج التدريبية»، بحسب أفين شيخموس.
* اللغة والهوية
منذ بداية عام 2014 ظهرت العشرات من الصحف والمجلات والدوريات الكردية الخاصة المطبوعة، إحداها مجلة «سورمَي». المجلة كانت لها بدايتان؛ أولاها صدرت في القامشلي بين أعوام 2006 - 2008، وكانت تصدر حينها بالعربية فقط، وتوقّفت لأسباب أمنية، فيما كانت البداية الثانية نهاية 2015، حيث أخذت شكلها الحالي.
وعن أهمية النشر والكتابة باللغة الكردية، يوضح الكاتب عباس موسى مدير القسم العربي لسورمَي لـ«الشرق الأوسط»، أنّ اللغة هي المعبِّر الأول عن الهوية الكردية.
وأتهم عباس السلطة الحاكمة بأنها عمدت إلى حرمان الأكراد من اللغة لعقود طويلة، منوهاً «أن تعمل في جهة تنشر باللغة الكردية يعني أننا نسير في اتجاه الحفاظ على هذه الهوية».
ومجلة سورمَي دورية مطبوعة تصدر كل شهرين مرة في مدينة القامشلي، تنشر باللغتين العربية والكردية في مدن الشمال السوري، وعن الصعوبات التي تعتري عمل المجلة، ذكر موسى أهمها وقال: «تلك المتعلّقة بالطباعة بشروط جيّدة تضمن طباعة أنيقة، والشحن ومشكلاته التي لا تنتهي، وأخرى متعلّقة بخططنا الاستراتيجية حول استمرارية وديمومة العمل».
كما تأسست مجلة «RÊ» في القامشلي أواخر 2016، وتعني بالعربية (الطريق)، وهي مجلة أدبية ثقافية، تصدر كل شهرين مرة، حيث صَدر منها ثلاثة أعداد، تنفرد بموضوعات المسرح والشعر والقصة والرواية والنقد والترجمة.
وعن مشاعره بالعمل مع جهة تنشر بالكردية، قال الصحافي خوشمان قادو في حديث مع «الشرق الأوسط» إنه: «مسرور لأني أعيش في مرحلة باتت اللغة الكردية تنتعش في المناطق الكردية بسوريا»، مضيفاً: «لغتنا تعني لنا الكثير فهي كانت وطننا كما كانت الأم التي عملت جاهدة على حمايتنا من محاولات طمس هويتنا وثقافتنا».
وذكر قادو أنّ المجلة تنشر باللغتين العربية والكردية، وأكد أنّ لكل قسم خصوصية تتبع ثقافة كل لغة، وقال: «اخترنا الثقافة لمواجهة العنف والتطرف».
* عقود من القهر
يستخدم أكراد سوريا الأحرف اللاتينية في الكتابة، حيث تندرج اللغة الكردية ضمن مجموعة اللغات الهندو - أوروبية، ووضع قواعدها الأمير جلادت بدرخان، ونشر كتابه المعروف «الأبجدية الكُردية وأسس القواعد الكُردمانجية» وصدر سنة 1932 بدمشق، ولا يزال يعد من أمهات الكتب والمراجع الكردية.
وكانت اللغة الكردية محظورة لعقود حتى سنة 2011، ومُنعت من التدريس والتعليم في المدارس الحكومية والمعاهد الخاصة.
يروي المترجم عبد الله شيخو أنه وفي صيف عام 2009، تعرض لاستجوابات ومضايقات أمنية استمرت ثلاثة أشهر من قبل المخابرات السورية في دمشق، على إثرها اعتقلوه بضعة أيام وتعرض للتعذيب، وقتها كان طالباً جامعياً يدرس الحقوق، والتهمة كانت: «تمت الوشاية بي وبصديقي لاقتنائنا كتباً باللغة الكردية في المدينة الجامعية، تم فصلنا من المدينة وكادوا أن يقوموا بفصلنا من الجامعة».
ويعمل عبد الله حالياً مترجماً مع مشروع هُنار الثقافي بالقامشلي الذي تأسس بداية العام الحالي، وتعني «الرمان»، يترجم الأدب العالمي والعربي إلى لغته الأم الكردية، ويقول إن: «اللغة معمار الهوية الإنسانية والقومية لأي مجموعة بشرية»، ويشير أن ضعف انتشار الكردية بين كرد سوريا مرده: «قلة الكوادر والمختصين نتيجة عقود القهر والكبت الثقافي اللذان مارستها الأنظمة المتعاقبة».
وشدد المترجم عبد الله أنّ تطوير اللغة وتثبيتها يحتاج إلى مؤسسات وإمكانيات تتجاوز قدرات الأفراد المحدودة، واستخلص حديثه بالقول: «وهو ما يجب أن يتبناه الكُرد وشركاؤهم في سوريا كمنهج لتطوير الكردية وإغنائها».
وفي شهر أكتوبر 2012، قامت قناة «أورينت نيوز» السورية، بتخصيص ساعة للبث باللغة الكردية، وقد عبر جوان عثمان وهو مقدم برامج بالنشرة الكردية عن مشاعره وقال: «شعور جميل أن أقف أمام الكاميرا وأتحدث إلى الجمهور الكردي بلغتنا الأم»، وتمنى في ختام حديثه أن تصبح اللغة الكردية رسمية في سوريا مستقبلاً، وتدرس في الجامعات ليتعلمها العرب وباقي المكونات.