هل تمر الرواية الغربية بحالة موت سريري؟

بعد سقوط الأفكار الكبرى التي طرحتها الحداثة بداية القرن العشرين

«كوخ العم توم» كان تأثيرها أساسيا في دعم حركة تحرير العبيد الأميركيين
«كوخ العم توم» كان تأثيرها أساسيا في دعم حركة تحرير العبيد الأميركيين
TT

هل تمر الرواية الغربية بحالة موت سريري؟

«كوخ العم توم» كان تأثيرها أساسيا في دعم حركة تحرير العبيد الأميركيين
«كوخ العم توم» كان تأثيرها أساسيا في دعم حركة تحرير العبيد الأميركيين

يَلحظ مؤرخو الأدب أنه لا يكاد يمر عقدٌ من السنوات، منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، دون تواتر ادعاءات متجددة بموت الرّواية، وانتفاء قيمتها كشكلٍ أدبي. وهم في ذلك لا يعنون بالطبع توقف الرّوايات عن الصدور، أو حتى توقف إعادة إحياء القديم منها، لكنهم يشيرون إلى حالة من فقدان الغاية والمعنى الكلّي، وتحول الأعمال الجديدة منها إلى «مجرد اجترار مكرور داخل نظام مغلق من المرجعيّات الثقافيّة»، دون أن تضيف أي جديد.
بالطبع، فإن عرّافي موت الرّواية هؤلاء لم يكونوا سوى قرّاء مداومين على الأعمال الروائيّة، أو الروائيين أنفسهم، أو نقاد يعتاشون بنحو أو آخر من وراء اشتغالهم بتفكيك الروايات، ولذا فإن توقع سوء نيّة منهم تجاه هذا الشكل الأدبي ليس من الحكمة في شيء.
لا شك أن هنالك شيئاً ما قد حدث للرواية - أو كان في طور الحدوث - بدءاً من أربعينات القرن الماضي، على نحو جعلها تفقد شيئاً من روحها ودورها في الحياة الاجتماعية والثقافيّة، لتصل اليوم إلى ما يصفه بعض النقادِ بحالة أشبه بموتٍ سريري، وأن تكرر الإعلانات عن نهاية الرواية في كل عقد كان مجرد إشارة إلى تمكن بعض الأفراد الفطناء من التقاط تحولاتٍ ثقافيّة واجتماعية فاعلة، قبل أن يراها الجميع بوقت قصير.
تنطلق هذه الرؤية من تصورٍ إيجابي لدورِ الرّواية - والآداب عموماً - في تحقيق المستوى الحضاري الذي وصلت إليه البشريّة اليوم، وأنها وراء تهذيب غرائز البشر، وبناء التعاطف بينهم، خلال 250 عاماً من تاريخها، مقارنة أقلّه بوقت كانت فيه كل المجموعات العرقيّة والثقافيّة تتقبل العبوديّة والمذابح الجماعيّة والإعدامات كأمر طبيعي: الرئيس الأميركي توماس جيفرسون مثلاً كان يدافع بحرارة عن إبادة الأميركيين الأصليين، بينما كان دور رواية مثل «كوخ العم توم» محورياً في دعم حركة تحرير العبيد الأميركيين.
لكن أجيال «عرّافي» موت الرواية هؤلاء رأت عبر العقود الأخيرة عدة تغييرات أساسيّة في الحياة المجتمعيّة المعاصرة أفقدت الرواية دورها، لا شك في مقدّمها التقدّم التكنولوجي الحاسم الذي غيّر كل أشكال التعلم والترفيه على نحو كلّي أو كاد، بحيث لم تعد فكرة البشر الأساسيّة عن الترفيه قراءة رواية جادة في مئات أو آلاف الصفحات زمن انتشار الإنترنت والهواتف الجوالة ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى ثقافة ارتياد المقاهي والمجمّعات التجاريّة التي تتنافس مجتمعة على «وقت» المستهلكين. ويرتبط بذلك على نحو ما النظريّة القائلة إن الرّواية في حقيقتها منتج برجوازي بحت، رافق فترة صعود البرجوازيّة إبان مرحلة الثورة الصناعيّة، وتطور الرأسماليّة في شكلها الحديث خلال القرن الثامن عشر، وإن التركيبة الطبقيّة للمجتمعات اليوم غيّرت من شكل تلك الطبقة على نحو حاسم، جعل من ذلك الشكل الأدبي غير ذي صلة بقيم وثقافة مجتمعها، وخارج سياق تطوره الفكري والعاطفي. ووصف آخرون عقماً إبداعياً أصاب هيكليّة الرواية، بعد سقوط تجربة الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، بحيث لم تعد قادرة على إعادة طرح ذاتها بأشكال جديدة توافق مزاجات جمهور المتلقّين المعاصرين في مرحلة «ما بعد» الحداثة.
لكن أكاديميين معنيّين بتقصي تاريخ الرّواية الحديثة يجعلون من أزمتها مجرد عَرَضٍ لمناخ تأزّم ثقافي شامل تواجهه الحياة المعاصرة، بعد سقوط كل الطموحات والأفكار الكبرى التي طرحتها الحداثة بداية القرن العشرين، وحالة الإنهاك والتردي الثقافي التي تعيشها في أجواء التّلفيق العام الذي سمّاه البعض ما بعد الحداثة، أو الحداثة السائلة، أو حتى اللاّ - ما بعد الحداثة – كنايةً عن التّناقضات والتّخبطات وانعدام الجديد، فكأنه «عالم مات قديمُهُ، ولمّا يولد جديده بعد»، على حد وصف غرامشي.
بيتر بوكسآل وبريان تشايتي، محررا موسوعة أكسفورد لتاريخ الرّواية الإنجليزيّة (والآيرلنديّة)، في المقابل، وآخرون معهما، يقفان على نقيض من ذلك كلّه، معتبرين أن الرّواية ما زالت رغم كل شيء أهم أدوات البشر لاستطلاع التحولات الثقافيّة والمجتمعيّة، وأن البشر بحاجة دوماً إلى تخيّل المستقبل كي يُمْكِنهم تشكيله، ولا شك عندهما أنه هنالك في صفحات ما، في رواية ما، يولد الآن ذلك «الجديد» الذي طال انتظاره، والذي سيملأ الفراغ الذي تركه موت الحداثة.
لكن بوكسآل نفسه يعترف، في كتاب آخر له، بنوع من فقدان حيويّة الرّواية في مرحلة ما بعد الحداثة، ويفسّر ذلك بأن «النقّاد الأدبيين، الذين يعوّل عليهم دوماً في خلق توتر إيجابي، يتحدى الشكل الأدبي ويطوره، خرجوا من التيار العام، وأصبحوا أكاديميين منعزلين داخل أسوار الجامعات والكتب المتخصصة»، مستقيلين هم وجامعاتهم من مهمتهم التاريخيّة، تاركين السّاحة لنقاد مزيفين وأشباه روائيين (وأشباه روائيّات أيضاً) يفسدون علينا - بسوء ذوقهم - الحياة والثقافة والقراءة والرّواية معاً، دون أن يكون لدى الناس غير المتخصصين مرجعيات يقيسون بها الغثّ من الثمين. فتولى تجار الكتب - لا غيرهم - مسألة تشكيل الذّائقة الأدبيّة العامّة، موظِّفين في ذلك تقنيّات التسويق الحديث وأساليب الترويج التجاري للمنتجات، دون كبير اهتمام بقيمة المحتوى الأدبي.
ولعل ذلك يفسّر - على نحو ما - غياب الألق من روح الرّواية، وتنبؤات العرّافين المتشائمة بموتها القريب، رغم المفارقة في أن ذلك يحدث في وقت تكاثرت فيه أعداد العناوين الصادرة - على افتراض أنها روايات - وتضخّم أرقام المبيع منها.
وجهة نظر بوكسآل أن الرّواية، منذ تشكلها المعاصر في ظل الرأسماليّة، قدّمت للبشر أفضل أداة سيكولوجيّة على الإطلاق للتعاطي مع التغيير شبه الدائم والمتسارع الذي تعيشه المجتمعات بسبب من النظام الرأسمالي ذاته، فهي تعمل كمنطقة عازلة في الحّد الفاصل بين العالم الموجود والعالم الممكن، بين ما نعرفه ونفهمه، وما لا ندرك كنهه بعد، ولذا فإن الرّواية - بشكل أو بآخر - باقيةٌ ما بقي التغيير.
لكن دفاع بوكسآل المستميت هذا يضع يده على موضع جرح الرّواية تماماً. ففي مزاج مرحلة «ما بعد الحقيقة»، التي أوصلتنا إليها مؤسسات الإعلام الجماهيري المعاصر، ومنتجو «الحقيقة» الزائفة في هوليوود و«فيسبوك» و«سي إن إن» و«نيتفليكس»، عندما أصبحت غالبية المُستهلكين قانعة بتقبل الكذب وكأنه حقائق سرمديّة، ما دام متوائماً مع ما اعتادوا على استهلاكه من سرديّات موجهة أساساً لخدمة المنظومة الرأسماليّة المهيمنة، تقلّصت تلك المسافة الفاصلة بين الواقعي والمتخيّل، وبين العالم الحقيقي وذاك المفترض، تلك المساحة التي كانت دوماً فضاء «الرّواية» ومساحتها وملعبها.
لم يعد المستهلك اليوم بعد «ما بعد حقيقتهم» هذه بحاجة لإعمال خياله في تصوّر عوالم أخرى ممكنة، فتجار الآيديولوجيا قاموا بالمهمّة الإبداعيّة بالنيابة عنه، وقدّموا له سرديّات متقاطعة يُسند بعضها بعضاً، ولذا هو يفتح قناة التلفزيون فقط كي يربت المذيع على كتفه طمأنة أن ما قرأه على الإنترنت أو في صحيفته - إذا كان هنالك من لا يزال يقرأ الصحف - هو «الحقيقة» التي شربها دوماً، وأنه لا بأس بالعودة إلى النوم من جديد، وهو أمر لا شك مريح، إذ إن البحث عن الحقائق الموضوعيّة أمر شاق، يعجز معظمنا عن دفع فاتورته. ولذا تحول العمل الروائي إلى مجرد ثرثرة طويلة لا تكاد تختلف عن «تغريدة» فارغة على «توتير» إلا بعدد الأحرف، تكرّس الأوهام ذاتها التي يعيشها المستهلك مسبقاً.
كما قتل لنا رولان بارت المؤلّف جاعلاً للنص حياة مستقلّة عن مبدعها، يأتي تجار «ما بعد الحقيقة» اليوم ليقتلوا لنا النص الروائي أيضاً. يا صديقي دون كيشوت، أي ريح شؤم تلك التي شبت علينا من الغرب؟



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.