الموضة ترد الاعتبار للجمال الأسود

منذ أن استعان الراحل سان لوران في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بعارضات أفريقيات لأول مرة، لم تشهد ساحة الموضة ثورة مماثلة ولا إعادة اعتبار للجمال الأسود كالذي تشهده حاليا.
فمن بين 7.035 عارضة شاركن في نحو 241 عرضا احتضنتها عواصم الموضة الأربع: نيويورك ولندن وميلانو وباريس، مؤخرا، كانت نسبة السمراوات اللاتي ينحدرن من أصول أفريقية 1.6 في المائة، وهي نسبة معقولة مقارنة بالسابق عندما كانت مثيلات ناعومي كامبل أو تيرا بانكس أو ملايكا وجوردان دون، وغيرهن يظهرن في عروض يتيمة هنا وهناك، وقلما يحصلن على عقود ترويجية لماركات التجميل العالمية. فمما تذكره العارضة ناعومي كامبل أنها اشتكت في بداية مسيرتها للمصمم الراحل إيف سان لوران بأن مجلة «فوغ» الفرنسية ترفض ظهورها على غلافها بسبب لون بشرتها، فما كان منه إلا أن تدخل متوسطا لها لتكون أول عارضة سمراء تتصدر غلاف المجلة في تاريخها. طبعا لا ننسى أنه إلى جانب علاقاته الشخصية الطيبة واحترام أوساط الموضة له، كان مُعلنا له كلمة.
لحسن حظ العارضات الحاليات أنهن لا يحتجن لتدخلات ووساطات مماثلة للحصول على عروض مُجدية، فوضعهن أفضل بكثير إذا كان ما تابعناه طوال عروض الموضة الأخيرة هو المقياس. وطبعا لا ننسى أنهن في ظل التغيرات الجذرية التي يمر بها العالم عموما والموضة خصوصا اكتسبن قوة لا يستهان بها. فقد تحمس كثير من المصممين للاختلاف هذا الموسم في رد فعل على السياسات التفريقية والشعبوية التي ظهرت في الولايات المتحدة وتشهد زخما مقلقا في أوروبا وباقي أنحاء العالم. كل من مارك جايكوبس، كريستيان سيريانو، و«دولتشي آند غابانا» وسيمون روشا ومحلات «جي كرو» ومايكل كورس وألبيرتا... وآخرون، تبنوا الاختلاف وتغنوا به، وإن كان أليساندرو ميشال، مصمم «غوتشي» أكثرهم وضوحا في موقفه، فهو لم يكتف بهن في عروضه، بل استعان بهن في حملاته الترويجية أيضا، تماما كما فعل إيف سان لوران في الستينات.
ما لا يختلف عليه اثنان أن عالم الموضة يتغير بشكل متسارع وصادم في الوقت الحالي. فإلى جانب تولي رجل، ومن أصول أفريقية، رئاسة تحرير مجلة «فوغ» البريطانية لأول مرة في تاريخها، ورجل آخر النسخة العربية، التي لم يكن أحد يتوقع إصدارها من الأساس لأسباب كثيرة، فإن لعبة الكراسي المتغيرة لم تتوقف بعد... بدأت منذ بضع سنوات نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية، ولا تزال تصدعاتها تظهر بين الفينة والأخرى وكأنها عقد لؤلؤ تتساقط حباته وتنفرط في كل موسم تقريبا. فمن خروج جون غاليانو من دار «ديور» مطرودا إلى إقالة ألبير إلباز في العام الماضي، مرورا باستقالة راف سيمونز وغيرهم، كانت هناك أيضا تغييرات على مستوى الرؤساء التنفيذيين. الأسباب هنا تجارية محضة ومردها أن أرقام المبيعات لم تعكس قدراتهم بعد أن شهدت عدة أسواق كانوا يعولون عليها تباطؤا وتراجعا. ما زاد الأمر سوءا أن تحمسهم الشديد للتوسع بافتتاح محلات جديدة في بعض هذه الأسواق وضعهم في ورطات يصعب خروجهم منها سوى بإغلاقها. ورغم أن القصة لم تكتمل أو تُكتب نهايتها بعد، فإن المؤكد أنها لا تفتقد عنصري التشويق والمفاجأة. ما يطمئن في العملية كلها أن هذه التغييرات، أو بالأحرى الخَضّات، ليست سلبية بالكامل؛ فقد نتجت عنها على الأقل هذه الرغبة الجامحة في معانقة الاختلاف، سواء تعلق الأمر بالجمال الأسود، أو بثقافات بعيدة؛ بما في ذلك الحجاب وما شابه من أمور لم تكن تخطر على البال من قبل. فالخريطة الشرائية تغيرت وأصبحت القوة في يد امرأة الشرق الأوسط، فضلا عن أن عدد الناجحات اللاتي ينحدرن من أصول أفريقية في الولايات المتحدة الأميركية في ازدياد وكذلك تأثيرهن، وليس أدل على هذا من أوبرا وينفري ومثيلاتها.
في عالم الموضة لم تقتصر الانقلابات على بيوت الموضة والمجوهرات والساعات فحسب، وإن ظل التركيز منصبا عليها، بل شملت مجالات أخرى، مثل المجلات البراقة والمتخصصة. فهذه كانت تبدو بمأمن من اضطرابات الأسواق وتذبذباتها، وبالتالي كانت تراقب وتُعلق وتُؤثر ولا تفكر أنها ستدخل اللعبة يوما، إلى أن أدخلها الجانب التجاري في النهاية إلى المعمعة. فقد شهدت هي الأخرى تراجعا في مبيعاتها ونسبة إعلاناتها، وهو ما استدعى تدخلات جذرية استهدفت تغيير قياداتها في الأشهر القليلة الأخيرة، فيما يمكن تشبيهه بالانقلابات العسكرية. فقد أقيلت رئيسة تحرير مجلة «فوغ» العربية، السعودية دينا الجهني، بعد صدور عددين فقط من المجلة، وحل محلها رجل برتغالي الأصل هو مانويل أرنو الذي كان رئيس تحرير مجلة «أركيتكست دايجيست» بالشرق الأوسط. وبينما أعلنت أليكساندرا شولمان استقالتها رئاسة النسخة البريطانية في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي بعد 25 عاما، خلفها لأول مرة في تاريخها الذي يمتد إلى أكثر من قرن رجل. أما إيمانويل فارنيتي فهو الرجل الثالث الذي تسلم مقاليد المجلة نفسها بنسختها الإيطالية بعد وفاة فرانكا سوزاني في العام الماضي. وهكذا في غضون بضعة أشهر تولي ثلاثة رجال رئاسة مجلة ظلت لقرون الميدان الذي تجول فيه المرأة وتصول.
تعيين إدوارد إيننفول، في النسخة البريطانية يظل الأكثر إثارة على المستوى العالمي، لأنه كان مفاجأة بكل المقاييس؛ فهو ليس رجلا أو من أصول أفريقية فحسب؛ بل لا ينتمي إلى الطبقات الراقية ولا حتى المتوسطة التي توالت على رئاسة أغلب المجلات البراقة منذ تأسيسها. اسمه مثلا لم يكن واردا مقارنة باسم المرشحة الأولى لخلافة أليكساندرا شولمان، ألا وهي نائبتها إميلي شيفيلد، فهذه أخت سامانثا كاميرون زوجة ديفيد كاميرون رئيس حزب المحافظين السابق، وغني عن القول إنها تنتمي للطبقة الأرستقراطية البريطانية إلى جانب تاريخها الصحافي. لكن على ما يبدو لم تعد الارستقراطية البريطانية تشد ناشر «كوندي ناست» الأميركي أو يراها متماشية مع العصر كما كانت عليه الحال منذ قرن تقريبا.
فقد انتبه إلى أنه كما تغيرت خريطة الموضة، تغيرت لغتها، والأهم من كل هذا: صورتها. فإدوارد إيننفول مثلا نشط على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعله يتحدث لغة شريحة مهمة من الزبونات بطلاقة، فضلا عن أن صناع الموضة يشهدون له بحسه الفني الذي يظهر في جلسات التصوير التي يُشرف عليها في زمن أصبحت فيه الصورة أبلغ من ألف كلمة.
ما يشهدون له به أيضا أنه لم ينس جذوره الأفريقية، وفي كل مناسبة يعبر عن هذه الجذور بمطالبته بالاحتفال بالجمال الأسود، والتنديد بتهميش العارضات السوداوات، وما شابه ذلك. خلال عهده في مجلة «دبليو»، مثلا، أطلق حملة تحت عنوان: «أنا مهاجر» كانت رد فعل على سياسات دونالد ترمب التفريقية. أما بالنسبة لدعمه العارضات السوداوات، فلم يعبر عنه في تصريحاته فحسب؛ بل أيضا في جلساته التصويرية، التي وجدت ترحيبا من قبل الراحلة فرانكا سوزاني، رئيسة تحرير «فوغ» الإيطالية. وهذا ما أكده غلاف المجلة في عام 2008 الذي تصدرته مجموعة من العارضات السوداوات، وحقق مبيعات غير متوقعة أو مسبوقة، الأمر الذي استدعى إعادة طبع 40 ألف نسخة منه.
هذا النجاح شجع مجلات أخرى على أن تحذو حذوه مثل «هاربز بازار»، وأيضا بيوت الأزياء، على الاستعانة بهن في حملات ترويجية مثل الحملة الأخيرة لدار «غوتشي»، فقد كان كل أبطالها سود.
ما أضفى على هذه الحملة زخما وقوة، أن المسألة، كما شرحت الدار، لم تكن مجرد رسالة مفادها بأن «السود قادمون» أو أن الدار الإيطالية ترحب بالاختلاف في رد فعل على سياسات دونالد ترمب التفريقية والسياسات الشعبوية عموما، بقدر ما كانت التفاتة تقدير لإسهاماتهم في مجالات فنية متنوعة وتذكيرا بها. فالحملة مستلهمة من موسيقى الـ«سول» التي انتعشت في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في ستينات القرن الماضي، وأيضا من الفنان المالي الأصل مالك سيديبي من خلال صور التقطها تسجل ثقافة الشارع الشبابية.
** صراع خفي بين الصحافة المكتوبة والصورة
* لا يزال الجدل حول الصحافة المكتوبة مقارنة بالصورة ووسائل التواصل الاجتماعي، يتردد. الدليل أنه زاد بعد تعيين إدوارد إيننفول خلفا لرئيسة التحرير السابقة أليكساندرا شولمان بسبب الاختلافات بينهما.
فالمعروف عنها أنها صحافية متمرسة وكاتبة لها مجموعة من المؤلفات إلى جانب اهتماماتها الفنية والثقافية التي كانت تخصص لها حيزا لا بأس به في المجلة. وخلال سنواتها الـ25 لم تُخف نفورها من ثقافة النجمات، لا سيما نجومية تلفزيون الواقع، وقاومت طويلا ظهورهن على أغلفة مجلتها قبل أن تستسلم لمتطلبات السوق والإعلانات في السنوات الأخيرة. إيننفول في المقابل رجل صورة، كما أنه على العكس من رئيسات التحرير المخضرمات، لن يقبل العمل في الظل، وهو ما يؤكده حسابه على «إنستغرام»، الذي يظهر فيه في لقطات «سيلفي»، وأيضا مع شخصيات مهمة ومؤثرة في مجالات الموضة والفن، وطبعا بوصفه متخصصا في التصوير وليس في الكتابة، يشير إلى تغيير واضح لا يحتاج إلى أي شرح.
** همسات جانبية
* في عام 2015 ظهرت العارضة جوردان دون على غلاف «فوغ» بالنسخة البريطانية في ثاني ظهور لعارضة سمراء على غلاف المجلة منذ 12 عاما... الأول كان من نصيب ناعومي كامبل.
* حتى بالنسبة لـ«برادا» فقد كانت أول مرة استعانت فيها بعارضة سمراء في عام 1994 وكانت بطلتها ناعومي كامبل ولم تعد الكرة إلى عام 2013 مع العارضة ملايكا فيرث.