سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم

يصنع في ورش خراطة بخبرات المنشقين والأجانب.. وقذائف الهاون أبرزها

سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم
TT

سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم

سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم

لم يكن كشف «الجبهة الإسلامية»، أكبر التشكيلات العسكرية في سوريا، عن أنها تمتلك مصانع ذخيرة محلية الصنع في البلاد، مفاجئا. فمسار الأزمة التي امتدت على طول البلاد وعرضها لأكثر من ثلاث سنوات، في ظل «الشح» بالدعم العسكري لمقاتلي المعارضة السورية، دفع مقاتلي المعارضة إلى محاولات «الاكتفاء الذاتي من السلاح».
واستعانت تلك القوات، بحسب قيادي ميداني معارض، بخبرات «الضباط المنشقين عن القوات النظامية، وبخبرات المقاتلين الإسلاميين الذين سبق أن قاتلوا في العراق»، ما أسهم في توفير ذخيرة أساسية لقوات المعارضة، لكنها لم تعطها القدرة على الحسم.
يقتصر الحديث عن التصنيع العسكري عند المعارضة السورية على ثلاثة وجوه بشكل أساس، تقول مصادر المعارضة لـ«الشرق الأوسط» إن أبرز إنجازات الصناعة المحلية هو تصنيع قذائف الهاون بعيارين متفاوتين، واستخدمت على نطاق واسع في دمشق وريفها. والثاني هو تصنيع المواد المتفجرة من المواد الكيميائية لتستخدم في العبوات الناسفة وعمليات التفخيخ. أما الثالث فكان تطوير الصواريخ المحلية الصنع، بما يمنحها قدرة على الوصول إلى مناطق أبعد جغرافيّا، علما بأن هذه الصناعة اقتصرت على حشوات الصواريخ وهيكلها المعدني، من غير أن تصل إلى صناعة الرأس المتفجر نفسه.
ولم تظهر صناعة المعدات العسكرية عند المعارضة السورية، طوال ثلاث سنوات، قبل أن تعلن «الجبهة الإسلامية» عن استحداث مدفع «جهنم»، قبل أسبوعين بموازاة استحداث «جبهة النصرة» مؤسسة التصنيع العسكري، أطلقت عليها اسم «بأس»، من غير أن تكشف تفاصيل الصناعات. ويشير مسار الاعتماد على الذات في تصنيع سلاح فعال في الميدان، وخصوصا في مناطق ريف دمشق المحاصرة، إلى الاعتماد شبه الكامل على جهود ذاتية لمواصلة القتال ضد النظام الذي يستخدم المدرعات وسلاح الجو وأحدث الصواريخ.
ويأتي الاعتماد على السلاح المحلي الصنع، تعويضا عن «الشح» الذي تلا مرحلة الاستيلاء على غنائم عسكرية، هي ذخائر ومدافع وبنادق آلية خفيفة ومتوسطة، من مخازن ومقار القوات النظامية التي تجري السيطرة عليها. وقال مصدر قيادي معارض في شمال سوريا لـ«الشرق الأوسط» إن «خبرات المنشقين من الجيش النظامي، وخبرات المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا خارج سوريا في السابق، وخصوصا العراق، أسهمت في التوصل إلى منظومة صناعة للذخيرة، تعوض عن النقص بالمعدات العسكرية»، مشيرا إلى أن معظم خبرات المقاتلين الأجانب «تركزت على صناعة المواد المتفجرة، بما يتخطى الذخائر والسلاح». وقال المصدر: «من يستطِع تكرير النفط بطريقة بدائية، لن يستعصي عليه تصنيع الذخيرة».
وبينما تطورت صناعة مدافع الهاون بشكل قياسي، منذ بداية عام 2013، لم تتمكن قوات المعارضة من إنتاج كمية كبيرة من الصواريخ المحلية الصنع. وترجع المصادر ذلك إلى «عدم الاعتماد بشكل أساس على الصواريخ في المعارك، كون منصاتها ستكون مكشوفة»، لكن «استخدامها لقصف المناطق البعيدة المدى، وتتجاوز الـ10 كيلومترات مثل قصف ريف اللاذقية، يجعل الحاجة إليها أكثر إلحاحا». وأوضح أن تصنيع الصواريخ المحلية الصنع «اقتصر على تطوير صواريخ الغراد ومدها بحشوات دافعة إضافية، وتشكيل جسمها المعدني أحيانا، بعد توفر رؤوسها المتفجرة».
وبينما تتنافس الكتائب المقاتلة في ما بينها من أجل تطوير عتادها العسكري، تفوقت «الجبهة الإسلامية» بصناعة قذائف المورتر التي تطلق من مدافع هاون في ريف دمشق، بعد تحويل ورشات الخراطة الصناعية في المليحة وجوبر وغيرهما من مناطق الغوطة الشرقية لدمشق، إلى مصانع تنتج ما يزيد على ألف قذيفة مورتر من عياري 80 و120 مللم شهريا، وهي كمية تغطي أغلب الجبهات جنوب ووسط سوريا إضافة إلى العاصمة وريفها.
وبثت الجبهة الإسلامية تقريرا مصورا عن أحد معاملها المنتجة لقذائف الهاون والصواريخ المحلية الصنع، تحدث فيه أحد قادة الجبهة، قائلا: «بدأنا التصنيع بصانعة الألغام والقنابل اليدوية، وذلك نتيجة الحاجة في ظل قلة الموارد».
وتتشارك الجبهة الإسلامية مع فصائل أخرى موجودة في حلب، كانت أول من صنع قذائف المورتر، ما أعطى المعارضة قدرة أوسع على التحرك، لكن المقاتلين في الجيش الحر لم يتمكنوا من صناعة السلاح، وكانت الجبهة الإسلامية أول من أعلن صناعة مدفع «جهنم» بعد ثلاثة أشهر من العمل المتواصل، حيث يتميز المدفع بقدرته على إلقاء قذائف يزيد وزنها على 200 كيلوغرام، إلى مسافة تقارب خمس كيلومترات، بقدرة تفجيرية تعادل تفجير براميل الموت المتفجرة، التي تلقيها الطائرات المروحية لقوات الأسد.
ويوضح مقاتلون من الشمال أن هذا المدفع يمكنه إطلاق قذائف يبلغ وزنها من 5 كلغ إلى 40 كلغ، كما يمكنه إطلاق 15 قذيفة دون أن تتأثر سبطانته»، كما تفوق قدرته التدميرية مساحة 200 متر مربع، كما يحتوي على منصتين لإطلاق الصواريخ محلية الصنع وأبرزها صاروخ «روهينغا» في مؤشر إلى «المسلمين المضطهدين في بورما، ميانمار».
ويؤكد أحد المقاتلين في كتائب «أحرار الشمال»، المتمركزة في محافظة إدلب أن «نيران هذا المدفع بدأت يغير من شروط المعركة الميدانية لصالح المعارضة»، مشيرا إلى أن «مساحة التفجير التي تحدثها قذائفه كبيرة جدا مقارنة بالأسلحة الأخرى التي يصنعها المقاتلون». ويقول المقاتل المعارض إن «مدفع (جهنم) جرى استخدمه للمرة الأولى في معركة القصاص لأهلنا في بانياس، وكان لاستخدامه الأثر الكبير في تحرير الكثير من الحواجز النظامية في إدلب».
وتصنع حشوة مدفع «جهنم» من جرار الغاز المسال المستخدمة للأفران في البيوت والمحال التجارية، حيث يقوم صناع هذه القذائف بثقب جرة الغاز وحشوها بمادة «TNT» المتفجرة، إضافة إلى مواد أخرى شديدة الانفجار غالبا ما يجري استخراجها من الصواريخ والبراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات النظام السوري على القرى والبلدات السورية ولا تنفجر. ويوصل بالمقذوف «جرة الغاز» أسطوانة قطرها نحو خمسة إنشات بطول نحو 90 سم تعبأ بالبارود ومواد دافعة أخرى، إضافة إلى مسمار الاشتعال في أسفل الأسطوانة الطولية، ويتراوح وزن هذه القذائف بين 20 إلى 30 كلغ.
وبموازاة الكشف عن هذا المدفع، انفردت جبهة «النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة وحدها في إنشاء مؤسسة لـ«التصنيع الحربي»، بحسب ما أعلنته على حسابها على موقع «تويتر» ويتركز عمل المؤسسة الذي أطلق عليه اسم «بأس»، وفق مصادر جهادية، على «مجال التطوير والإنتاج الحربي القائم على أسس علمية مؤسسية لم تشهدها الساحات من قبل». وتأتي هذه المؤسسة ضمن مشروع بدأت به «جبهة النصرة» منتصف العام الماضي هدفه صناعة بعض أنواع الأسلحة والذخائر اعتمادا على آلات ومعدات استولت عليها من المصانع ومعامل الدفاع في مناطق سيطرتها.
ونقلت «مؤسسة المنارة»، التي تعتبر الذراع الإعلامية للجبهة عن المسؤول الجهادي قوله إن «المؤسسة تنتج اليوم الكثير من مدافع الهاون بعيارات مختلفة مع قذائفها، إلى الكواتم وقطع غيار لبعض الأسلحة، وقواعد بعض المدافع الرشاشة إلى مخازن كلاشنيكوف والعبوات والصواعق وغيرها، هذا بالإضافة إلى الصواريخ».
وإذا كان مراقبون يتوقعون أن تتمكن جبهة «النصرة» في القريب العاجل من تحديث بعض المدافع وتطوير مداها، قال ناشطون إنه يجري تحويل بعض المستودعات في مدينة حلب إلى ورش لتصنيع الأسلحة، حيث يعمل عناصر المعارضة على مخارط عملاقة مستخدمين رقاقات معدنية، كما يستخرجون مادة «تي إن تي» من الصواريخ التي أطلقتها القوات النظامية عليهم ولم تنفجر ويعيدون تعبئتها في أسلحتهم، وبحسب الناشطين فإن العاملين في هذه الورش يستعينون بمواقع على «شبكة الإنترنت» لإتقان صناعة الأسلحة البدائية.
لكن هذه الأسلحة التي يجري تصنيعها ليست فاعلة في الحرب التي تخاض على الأراضي السورية، بحسب ما يؤكده الخبير العسكري العميد المتقاعد نزار عبد القادر لـ«الشرق الأوسط»، موضحا أن «نوعية هذه الأسلحة متخلفة جدا». ويقول: «هي عبارة عن مدافع هاون يجري تصنيعها عبر أنابيب معدنية، إضافة إلى قذائف لهذه المدافع يستخدم المتفجرات في تصنيعها داخل ورش صناعية استولت عليها المعارضة السورية».
وتظهر أشرطة فيديو بثها ناشطون على موقع «يوتيوب» مصانع للسلاح تنتشر في ريف إدلب شمال سوريا الخاضع بمعظمه لسلطة المعارضة. ويوضح عبد القادر أن معظم هذه المصانع عبارة عن ورش «خراطة»، لافتا إلى أن «هذا السلاح ليس فاعلا ولا يمكن أن يؤدي إلى تغيير المعادلات الميدانية، لا سيما أن النظام يملك قوة نارية هائلة وأسلحة ذات مدى بعيدة لا تمتلكها المعارضة ولا تستطيع تصنيعها».
ويضيف عبد القادر: «هذه النوعية من الأسلحة يمكن أن تستخدم في حروب المواقع السريعة بحكم سرعة حركة تركيبها وفكها، وكذلك استخدامها على النقيض من النظام الذي يستخدم عادة أسلحة ثقيلة يسهل استهدافها».
ولا تمتلك المعارضة السورية أي خبرات تقنية بين صفوفها تشرف على تصنيع هذه الأسلحة، فالضباط العسكريون الذين انشقوا عن النظام وانضموا إلى المعارضة معظمهم من قطاعات المشاة الذين تقتصر خبراتهم على الخطط الميدانية، لكن الخبير العسكري نزار عبد القادر يؤكد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» أن تصنيع مثل هذه الأسلحة البدائية لا يحتاج إلى خبرات تقنية أو أكاديمية، إذ يكفي أن تتوفر المواد حتى تجري عملية التصنيع»، ويضيف: «تصنيع مدفع الهاون يحتاج فقط إلى وجود أسطوانات وأحيانا يجري الاستعانة بشرائح معدنية من أجل تطوير المدى».
وبحسب أشرطة الفيديو التي تبث على مواقع المعارضة، فإن المشرفين على تصنيع الأسلحة هم من المقاتلين العاديين وأحيانا من سكان القرى ذوي الخبرات الصناعية. وتتركز معظم مصانع المعارضة في مناطق الشمال السوري، لا سيما في إدلب وحلب.
وتعد الجبهة الإسلامية التي تشكلت نهاية عام 2013 أكبر تجمع للقوى الإسلامية المسلحة في سوريا. وقد أعلنت الجبهة في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) انسحابها من هيئة الأركان بسبب ما سمته «تبعية هيئة الأركان للائتلاف الوطني وعدم تمثيليتها». أما كتائب «أحرار الشام» فهي من أبرز الفصائل الموجودة على الأرض، والمنتشرة على نطاق واسع.
وكانت نواة الجبهة أنشئت في عام 2012 حيث انضمت إلى هيئة الأركان، قبل أن تنفصل عنها، ويقدر عدد مقاتليها بما بين 35 و40 ألف مقاتل. والجبهة هي عبارة عن تحالفات لنحو 20 من المجموعات. تضم الجبهة ألوية الفاروق، الفاروق الإسلامي، لواء التوحيد، لواء الفتح، لواء الإسلام، صقور الشام، ومجلس ثوار دير الزور. أكبر فصائل الجبهة وأكثرها سطوة هي حركة أحرار الشام الإسلامية بقيادة حسان عبود، الذي يعرف أيضا بأبي عبد الله الحموي، وهو رئيس الجبهة (اعتقلته السلطات السورية بعد مشاركته في هجمات في العراق، وأطلق سراحه في أوائل عام 2011 كجزء من عفو عام).
وكانت حركة أحرار الشام اندمجت في فبراير (شباط) 2013 مع ثلاث حركات أخرى لتكوين حركة أحرار الشام الإسلامية. ويعرف عن مقاتليها قوتهم وانتظامهم. وكانت الحركة من أوائل من استخدموا أجهزة التفجير واستهدفوا القواعد العسكرية للحصول على السلاح. وتقول الجماعة إنها تدير 83 كتيبة في كل سوريا، بما في ذلك دمشق وحلب.
ومن أسس الجبهة أيضا، لواء الإسلام الذي يقدر عدد مقاتليه بنحو 9000، وقد تأسس لواء الإسلام في منتصف عام 2011 على يد زهران علوش، وهو ناشط سلفي اعتقلته السلطات قبل سنتين من تأسيس اللواء. تصاعدت أهمية اللواء بعد تبنيه تفجير مقر مكتب الأمن القومي بدمشق في يوليو (تموز) 2012، حيث قتل الكثير من كبار مسؤولي الأمن بمن فيهم وزير الدفاع، صهر الرئيس الأسد.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.