«عسكرة» سوريا... حصيلتها «بعثنة» المجتمع و«لبرلة» الديكتاتورية

العائلة التي ليس لها أحد في سلك الجندية تموت جوعاً وقهراً

«عسكرة» سوريا... حصيلتها «بعثنة» المجتمع و«لبرلة» الديكتاتورية
TT

«عسكرة» سوريا... حصيلتها «بعثنة» المجتمع و«لبرلة» الديكتاتورية

«عسكرة» سوريا... حصيلتها «بعثنة» المجتمع و«لبرلة» الديكتاتورية

عند أي حاجز لقوات النظام في دمشق يزدحم الخط العسكري بالسيارات التي تمر سريعاً دون تفتيش وتدقيق في البطاقات الشخصية، فيما يبدو الخط المدني أقل ازدحاماً لولا توقفها والانتظار طويلاً في طوابير التفتيش والتفييش. هذا المشهد اليومي الاعتيادي خلال السنوات الست الأخيرة، يظهر مدى استفحال حالة العسكرة في المجتمع السوري، في ظل حرب داخلية بدأها النظام على معارضيه، قبل أن تتحول إلى حرب مفتوحة بمشاركة قوى دولية وميليشيات خارجية إلى جانب الأطراف السورية. ويتحدث معارض سوري، يعيش في ريف دمشق، عن «طغيان» ظاهرة العسكرة على جميع مناحي الحياة في سوريا، لا سيما في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، فيقول إن هناك كوات ومنافذ بيع في محطات الوقود والأفران والمؤسسات مخصصة للعسكريين إلى جانب كوات مخصصة للنساء وأخرى للرجال من المدنيين، ولأن الأفضلية للعسكر في كل شيء، يترك المدني ليأكله انتظار لساعات طويلة، بينما يحصل العسكري على حاجاته بسرعة. ويرى المعارض السوري الذي رفض الإفصاح عن اسمه أو استخدام اسم مستعار: «بما أن الأفضلية في كل الأمور للعسكري، في المشافي والمدارس والجامعات والوظائف وغيرها، فمن الطبيعي أن يتجه الفقراء إلى دفع أبنائهم للالتحاق بالجيش للحصول على تلك الامتيازات». ويتابع المعارض قوله: «في عقدي الثمانينات والتسعينات كانت الأفضلية لمنتسبي حزب البعث الحاكم، بالترافق مع عملية (تبعيث) الشعب من خلال تنسيب تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات بشكل شبه إلزامي، لم تواجه رفضاً اجتماعياً معلناً إما بسبب الخوف من اضطهاد النظام وإما خوفاً من التهميش وفقدان فرص العمل. في مرحلة كان من المتعارف عليه أن (أصغر مجند أو بعثي في الجيش بإمكانه التحكم بمصير أي مدني أعزل)». ويضيف المعارض: «اليوم تعاد التجربة ذاتها على نحو أكثر فجاجة، إذ تستغل حاجة الذين أفقرتهم وأضعفتهم الحرب لزجهم في الجيش، فالعائلة الفقيرة التي ليس من بين أفرادها عسكري تحتمي به، ويعينها على تلبية احتياجات العيش الأساسية، تموت من الجوع والقهر».
إنعام، أرملة سورية، عمرها 46 سنة، نزحت مع أولادها من المناطق المدمرة إلى أطراف دمشق، وهي ترتزق من العمل في توضيب الخضار، دفعت ابنها للتطوع في إحدى الميليشيات المقاتلة إلى جانب النظام، بهدف الحصول على موافقة أمنية لاستئجار غرفة تؤويها وأبنائها. إنعام تقول: «لولا ابني العسكري لكنت الآن أبيت في الحديقة العامة، فالموافقة الأمنية على استئجار غرفة سكنية منحت باسم ابني، ولو لم يكن عسكرياً لما حصلنا عليها، ولا على أي شيء آخر، بالأخص، عند اشتداد أزمات تأمين الغاز والمازوت والخبز والماء... إلخ». مع هذا، لا تخفي إنعام قلقها الدائم على حياة ابنها التي انقلبت رأساً على عقب منذ تطوعه، وحولته إلى شخص شرس وعدائي مع عائلته، لكن - حسب كلامها - «لا يوجد حل آخر، فإذا لم يتطوع كان سيُساق إلى الخدمة الإلزامية أو سينتسب إلى الجماعات المسلحة!».
من جهة أخرى، هناك لينا، التي بعد نيلها الشهادة الثانوية، تطوعت في إحدى الفرق النسائية التابعة لقوات النظام، مبررة ذلك بأنه «أفضل سبيل للعمل والحياة الكريمة» - كما تقول. إلا أن هذا القرار، الذي رفضه أهلها رفضاً قاطعاً، اتخذته أثناء تقدمها لامتحان الثانوية العامة على خلفية حادثة وقعت أمامها، إذ ضبط مراقب القاعة طالبة تتلقى الإجابات من خارج القاعة عبر تطبيق (واتساب)، فهدّدته الطالبة بقريبها العسكري ما لم يتركها وشأنها. ولدى إصرار المراقب على سحب الورقة وطردها من قاعة الامتحان، حضر العسكري إلى القاعة بسلاحه، وعندها اضطر المراقب للاعتذار طالباً الصفح والمغفرة. ولأن لينا ليس لديها أشقاء ذكور قررت هي حمل السلاح «لتأخذ حصتها من السلطة وتحصيل حقها بالعيش»، حسب تعبيرها، بدل «إضاعة الوقت بالدراسة والبحث عن فرص عمل تافهة»!!.

شراء الولاء
التوجه إلى حمل السلاح جاء ضمن سياق السياسة التي اتبعها النظام في شراء ولاءات الشباب العاطلين عن العمل، وتجنيدهم في ميليشياته، منذ اندلاع الثورة ضده عام 2011. إذ استخدم المال والأمن لجذب أكبر عدد من الشباب والشابات، وأغدق عليهم امتيازات خاصة كالسلاح والسيارات والأذون الأمنية عبر مؤسسات الأحزاب الموالية والمنظمات التابعة لها والأجهزة الأمنية وشبكاتها المتغلغلة في النسيج الاجتماعي السوري. وفي هذا السياق، مثال آخر يجسده مدرس ثانوي اشتكى صراحة من أنه عاجز عن توجيه أي ملاحظة لطلابه، لأن بينهم مجندين في الأجهزة الأمنية، فإذا تأخر أحدهم عن الحصة أو الامتحان فإنه - أي المدرس - لا يجرؤ على منع أحدهم من الدخول، وخصوصاً، إذا تذرع الطالب لتبرير غيابه بتكليفه بمهمة أمنية!

ميليشيات لكل المكونات
خلال 6 سنوات من الحرب يمكن القول إن المجتمع السوري بات «ثكنة عسكرية»، تضم العشرات من الجماعات المسلحة المعارضة ومقابلها العشرات موالية للنظام، تحض على الالتحاق بالأخيرة جهات «مدنية» منها مجموعات نسائية، كـ«مجموعة سيدات سورية الخير»، التي تقود حملات إعلانية إعلامية تدعو الشباب والشابات عبر ملصقات وإعلانات طرقية، إلى حمل السلاح، وتؤنب من يقف منهم على الحياد متفرجاً!!
ومعظم هذه الحملات نشطت بعد عام 2012 الذي شهد تنظيم وتجنيد أكثر من مائة ألف من المتطوعين ضمن ما سُمّي «قوات الدفاع الوطني» التي أشرف على تشكيلها وتنظيمها وتدريبها الحرس الثوري الإيراني، وأوكل مهمة قيادتها للسوريين. وتوالى عام 2013 ظهور الميليشيات الرديفة للقوات النظامية في مناطق سيطرة النظام، لتغطي أطياف المجتمع السوري السياسية والطائفية ومكوناته، بهدف استقطاب أكبر عدد ممن لا يمكن ضمهم إلى عديد القوات النظامية كاليافعين والكهول والنساء. من هذه الميليشيات «نسور الزوبعة» التي هي الجناح العسكري لـ«الحزب السوري القومي الاجتماعي»، و«كتائب البعث» المشكّلة من المنتسبين لحزب البعث، و«الحرس القومي العربي» التي تدّعي حمل الفكر الناصري القومي و«المقاومة السورية - كتائب تحرير إسكندرون» في الساحل، إلى جانب ميليشيات فلسطينية تتبع لفصائل فلسطينية موجودة في سوريا ومحسوبة على خط نظام بشار الأسد السياسي كـ«فتح - الانتفاضة» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة»، ومنها «لواء القدس» و«حركة فلسطين حرة».
كذلك ثمة ميليشيات شكلت على أساس طائفي شيعي، مثل لواء «الإمام الباقر» من شيعة عشيرة البقّارة بمحافظة حلب، و«الغالبون» و«جنود المهدي» و«قوات الرضا» وغيرها من الميليشيات التي نظمتها ورعتها إيران. أما الكتائب المسيحية والدرزية التي شجّع النظام على تشكيلها ورعاها، فأبرزها «كتائب سوتورو» في مناطق المسيحيين السريان بشمال شرقي سوريا، و«قوات الغضب» وتضم مسيحيين من محافظة حمص، و«كتائب الموحّدين» و«كتائب حماة الديار» تضم أتباع النظام من دروز الجنوب السوري.
هذه الميليشيات تقاتل إلى جانب تشكيلات عسكرية أخرى انبثقت عن قوات النظام وتحظى ببعض الاستقلالية عنها، أبرزها «قوات النمر» و«قوات الفهود»، وتشكيلات أخرى أسسها رجال أعمال داعمون للنظام، كـ«ميليشيات البستان» التابعة لـ«جمعية البستان للأعمال الخيرية» برئاسة رامي مخلوف (ابن خال بشار الأسد) و«صقور الصحراء» التي شكلها محمد جابر في محافظة اللاذقية من ضباط سابقين ومحاربين متطوّعين، و«لواء أسود الحسين» الذي شكله محمد توفيق الأسد، قريب رئيس النظام السوري، الذي قتل في مارس (آذار) 2015. وغيرها من ميليشيات يموّلها رجال أعمال من المستفيدين من النظام ورجاله.

«الفيلق الخامس»
ثم بعد التدخل الروسي العسكري أكتوبر (تشرين الأول) 2015، أشرفت موسكو على تشكيل ميليشيات جديدة، منها «الفيلق الخامس - اقتحام» لتجنيد الشباب، وأعلن عن تشكيله عام 2016، عبر حملة إعلانية واسعة شملت خطب الجمعة وبرامج التلفزيون والإذاعة ورسائل الهواتف الجوالة والصحف والإعلانات الطرقية. وراحت تزين للشباب الحياة العسكرية وتمجّد البطولة وفداء الوطن و«قائد الوطن»، مع إغراءات بالحصول على راتب 200 دولار، أي ضعفي ما يتقاضاه المتطوع في ميليشيا الدفاع الوطني (100 دولار). أو العسكري الإلزامي (50 دولاراً). وتركزت حملة الدعوة إلى الالتحاق بـ«الفيلق الخامس» على حملة الشهادات الجامعية العالية بمختلف الاختصاصات من الموظفين في الدولة. وخضع مَن كان منهم في سن المطلوبين لخدمة الاحتياط للتخيير بين السوق إلى الاحتياط أو التطوع في «الفيلق الخامس»، وهما خياران «أحلاهما مرّ»، حسب تعبير طبيب عسكري متقاعد جرى سوق ابنه المهندس إلى الاحتياط، وتابع: «اخترنا الاحتياط على أن نسعى عبر معارفنا ليخدم قرب مدينته، لأن الفيلق الخامس اقتحام لا يوحي اسمه بالخير أبداً».

تشكيلات نسائية
عملية «العسكرة» الحالية على قدم وساق لم تقتصر على الذكور، بل سعى النظام منذ عام 2012 إلى زج النساء (من عمر بين 18 و50 سنة) في أتون المعركة، فشُكّلت كتائب نسائية، أبرزها «لبؤات الدفاع الوطني» و«المغاوير النسائية». وخلال مارس 2017، خُرّجت الدفعة الأول دفعة من فصيل «خنساوات سوريا»، في قرية حامو قرب مدينة القامشلي بشمال شرقي سوريا بإشراف الأمين القطري في حزب البعث هلال هلال، المكلف من قبل النظام بإدارة ملف تجنيد النساء ضمن كتائب عسكرية.
نسرين (30 سنة) من الساحل، وتعمل ممرضة في دمشق، تفاخر أمام زملائها بأنها حملت السلاح للدفاع عن «بيتها وعائلتها ووطنها وقائدها». وتدّعي أن ليس أمامها أي خيار آخر بعد مقتل 3 من إخوتها الشباب على أيدي من تسميهم «الإرهابيين» و«مقتل أعداد كبيرة من أبناء قريتها الساحلية، ولم يعد هناك سوى النساء والعجائز والأطفال وهؤلاء بحاجة للحماية». وتشير إلى انعدام الأمان في القرى وانتشار عصابات السرقة والخطف في تلك المناطق نظراً لغياب الرجال في المعارك، «ظهرت عصابات متخصّصة في سرقة مؤن البيوت».
للعلم، حمل المرأة السلاح في سوريا ليس جديداً. إذ سبق للنساء أن أشركن بحمل السلاح على نحو محدود في «حرب تشرين» (أكتوبر) 1973 ضد إسرائيل، بعدما كانت معسكرات تدريب النساء تقتصر على الدفاع المدني والإسعاف خلال عقدي الخمسينات والستينات اللذين شهدا مواجهات مع إسرائيل. ولكن مع بداية الثمانينات التي شهدت مواجهات دامية بين نظام حافظ الأسد والإخوان المسلمين، ضُمّت النساء إلى صفوف الجيش والشرطة في كليات تدريب خاصة، بجانب تشكيلات مُسلحة تابعة لحزب البعث.

مسيرة العسكرة
مع هذا، فإن مظاهر «عسكرة» المجتمع التي يعمّمها ويعمقها النظام اليوم، بدأت مع بداية عهد حكم آل الأسد في السبعينات بعد إقرار الدستور بـ«قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي للدولة والمجتمع» التي أفرزت فكرة «الجيش العقائدي»، وشرّعت احتكار البعث للجيش، مع حظر نشاط الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى في المدارس والجامعات والمؤسسة العسكرية. وضمن هذا السياق، جاء إدخال مادتي التربية العسكرية والثقافة القومية البعثية إلى مناهج التدريس الأساسي (ابتدائي - إعدادي - ثانوي). وخُصّص يوم دراسي أسبوعي لها شتاءً ومعسكرات تدريب صيفاً، يخضع لها الذكور والإناث في مراحل التعليم الأساسي وتقتصر على الذكور في مراحل التعليم الجامعي، وذلك بإشراف «منظمة الطلائع» للمرحلة الابتدائية ومنظمة «اتحاد شبيبة الثورة» للمرحلتين الإعدادية والثانوية، وفي المرحلة الجامعية تحت إشراف «اتحاد طلبة سورية».
ثم هناك دورات تدريب عسكرية أطلقها رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، كدورات المظلية والصاعقة للمرحلتين الإعدادية والثانوية، التي نشطت في الثمانينات، لكنها لم تصمد طويلاً لنفي رفعت الأسد خارج البلاد بعد محاولته الانقلاب على شقيقه، وأيضاً لسوء الصيت الذي رافق خريجي دورات المظليين، لا سيما الفتيات اللاتي تورّطن في حملة شنها رفعت الأسد لنزع الحجاب عن رؤوس النساء في الشوارع والمدارس، وكانت من أبشع الأحداث الاستفزازية الراسخة في الذاكرة السورية.
وترافق إدخال مادة التدريب العسكري الجامعي خلال السبعينات مع دخول الآليات العسكرية الثقيلة إلى حرم الجامعات بغرض تدريب الطلاب الذكور، بالتوازي مع انتقال مركز صنع القرار من وزارة التعليم إلى مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية لحزب البعث، وإبعاد الكادر التدريسي غير البعثي عن الجامعة.

البعث «العجوز»
خلال التسعينات، بعد سحقه الإخوان المسلمين داخل سوريا، توطّد حكم الأسد الأب، مدعوماً بقاعدة توازنات اقتصادية دمشقية، شكّلت مع كبار المسؤولين في النظام «درع حماية» للحكم. وبعدها دخلت البلاد مرحلة ركود عام، تغولت خلالها الأجهزة الأمنية وتغلغلت في كل مفاصل الحياة السورية لتصيبها بالفساد الكامل.
وفي غضون ذلك، أخذت تتكوّن طبقة جديدة من أبناء المسؤولين وشركائهم من رجال المال تحت السطح، وجدت فرصتها للصعود مع وصول الأسد الابن إلى السلطة بعد رحيل والده. هذه مثلت الرافع الأساسي للعهد الجديد الذي بدا خلاله إرث الأب ثقيلاً ومظاهر «العسكرة» العقائدية منّفرة. أيضاً راح حكم البعث العجوز يضغط على الطبقة الشابة الصاعدة، ليشكل عبئاً يصعب - إن لم يكن مستحيلاً - التخلص منه.
وجاءت حملة «التطوير والإصلاح» التي أطلقها الابن للحد من سلطة البعث «الاشتراكي»، والعمل على إحداث انقلاب اقتصادي على مرحلة التحول الاشتراكي التي استغرقت 4 عقود، والتوجه نحو ما اصطلح على تسميته بـ«اقتصاد السوق الاجتماعي المفتوح». وهو مصطلح وجد للاستهلاك السوري حصراً، جرى الترويج له كإجراء لا بد منه للانضمام إلى الشراكة الأوروبية التي تعني كذلك إنهاء مظاهر «العسكرة»، والتخلص من وزر التركة العقائدية. وهكذا تقرّر تغيير لون الزي المدرسي الذي كان كاكياً (مثل البزات العسكرية) في كل مراحل التعليم ما قبل الجامعي إلى أزرق ورمادي للذكور وأزرق ووردي للإناث. وعام 2003، إضافة لإلغاء مادة التربية العسكرية من المناهج المدرسية، ألغي التدريب العسكري في الجامعات.
ويروي أيمن ن. (47 سنة)، اللاجئ السوري في ألمانيا، ذكرياته في مدارس البعث، فيقول: «عندما لجأت إلى ألمانيا قبل 4 سنوات وتابعت كيف يتلقى الأولاد تعليمهم في المدارس، أدركت أنني لم أتلقَّ تعليمي في مدرسة مدنية، بل في ثكنة عسكرية. في المرحلة الابتدائية كنا نصطف صباحاً لتأدية تحية العلم وترديد الشعارات البعثية بشكل ببغائي. يقول المدرس: رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء الوطن العربي الموحّد والدفاع عنه. فنجيب بصوت واحد: مستعدٌ دائماً. وفي الإعدادية والثانوية، كنا نردد ما هو أشنع في الاجتماع الصباحي... عهدنا: أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية. ونسحق، أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة. وهذه العبارة كانت مكتوبة على لوحة ضخمة وتتصدر مدخل الجامعة تطالعنا طوال الوقت. الآن أحاول تذكر ماذا كانت تعني لي تلك الشعارات فلا أتذكر سوى أنها كانت كلمات وطلاسم وأن من المحرمات الخروج على النظام». وعن ذكرياته عن الجامعة والتدريب العسكري، يروي بحسرة: «لم تكن سوى علك صوف... علاك فارغ. حرمنا من الإحساس بوجودنا كطلبة يرغبون بالتعلم والمعرفة والارتقاء بمكانتهم في المجتمع كسائر البشر، كنا عساكر دون حرب».

«لبرلة» الديكتاتورية
بعد اندلاع الثورة ضد نظام الأسد في مارس 2011، عادت أصوات قدامى البعثيين لتعلو مطالبة بإعادة مادة التربية العسكرية إلى المدارس. ومنهم من رد أسباب خروج الشباب في مظاهرات مناهضة للنظام إلى «حالة التسيب» التي حصلت جراء إلغاء حصة التربية العسكرية، حتى أن مجلس محافظة دمشق طالب عام 2012 بإعادة مادة التربية العسكرية إلى المدارس بعد إلغائها بنحو 10 سنوات. كما اقترح فصل كل موظف ثبتت مشاركته في المظاهرات المناهضة للنظام باعتبارها أعمال «تخريب».
لم تسمع تلك الأصوات لأن حكم الأسد الابن، في مواجهة الثورة ضده، لم يعد بحاجة لغطاء البعث وحده ليأخذ شرعية البقاء. بل برزت حاجة لغطاء يمثل كل الأطياف والتيارات والأحزاب الأخرى إلى جانب الطوائف والقوميات والفئات. وبالتالي، انطلقت عقائد جديدة مغايرة لعقيدة البعث. عقائد لمحاربة «التطرف الإسلامي» والإرهاب، استلزمت إطلاق عملية عسكرة واسعة لا تقتصر على الأطفال والشباب في المؤسسات العلمية والعسكرية، بل تستهدف جميع المكوّنات دون استثناء. ولعل الملصق الذي نشرته إحدى تلك المجموعات وتظهر فيه خريطة سوريا تلبس اللباس العسكري القتالي (المموّه) وممهورة بشعار القوات المسلحة، تعبّر تماماً عن سوريا اليوم بعد 6 سنوات من حرب عبثية، قتلت وشردت نصف السوريين، وأفقرت 80 في المائة منهم، ودمّرت ثلثي المناطق المأهولة.
ويمكن القول إن «عسكرة» المجتمع السوري التي تعود بداياتها إلى مرحلة الانقلابات العسكرية، تكرّست بآخر انقلاب (يوم 8 مارس 1963) عندما استدعت اللجنة العسكرية للانقلاب قادة حزب البعث «للمشاركة معها»، وهو ما سهّل استيلاء قائد القوى الجوية (يومذاك) حافظ الأسد على الجيش والحزب بشكل نهائي في انقلاب 16 أكتوبر 1970.
أخيراً، لا بد اليوم من القول إن «العسكرة» تبلورت وباتت اليوم تعبر بفظاعة عن انفلات الديكتاتورية. إذ أصبح كل عسكري يحمل سلاحاً ليقمع الأدنى منه رتبة ويُرهب المدنيين. وبذا تمكنت الحرب من «لبرلة» الديكتاتورية وتعزيز حالة العداء للمجتمع المدني بتعبيراته السياسية والدينية والثقافية والإعلامية.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.