«هاري» مكماستر جنرال ومفكر سياسي

طوت واشنطن صفحة سياسة الرئيس باراك أوباما، بعد فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وكان واضحاً قبل أن يتسلم ترمب مهام منصبه رسمياً خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، أنه سيتعاطى مع الشؤون الدولية والسياستين الخارجية والدفاعية بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي اتبعها سلفه خلال ثماني سنوات. وكان الجانب الأبرز هنا إعادة النظر في توجه أوباما ليس فقط نحو تبريد التوتر مع إيران، بل التعامل معها بصفتها شريكا في منطقة الشرق الأوسط. وللعلم، هذا دور قديم جديد راود مخيلة حكام طهران منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي عندما كان إبان «الحرب الباردة» يسعى إلى أن تكون إيران «شرطي الخليج» والقوة الإقليمية الأكبر في شرق المتوسط. التغير في تعامل واشنطن في عهد ترمب بدأ سياسيا في سلسلة مواقف متشددة من غيران، وعسكرياً بتعيين عدد من القادة العسكريين في مواقع مؤثرة سياسيا، لعل أبرزهم الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع الجديد، والجنرال هربرت مكماستر، مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي.
الجنرال هربرت ريموند مكماستر، والشهير باسم «هاري»، ليس عسكرياً وفق النظرة الكلاسيكية المحدودة للقائد العسكري، بل هو شخصية مثقفة سياسيا، ومتعمقة بشؤون الأمن والدفاع، وبين أهم إنجازاته خارج ميادين القتال إعداده أطروحة دكتوراه متميزة صدرت عام 1997 مفصلة ومنقحة في كتاب عن حرب فيتنام بعنوان «التقصير في تأدية الواجب»، وكيف قصّرت القيادات العسكرية الأميركية في إدارة تلك الحرب وإعطاء النصح اللازمة للقيادة السياسية؛ ما أنتج أسوأ نكسة عسكرية استراتيجية للولايات المتحدة بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية. ومن ثم، يرى متابعو المشهد السياسي أن تعيينه مستشاراً لشؤون الأمن القومي خلفاً لجنرال آخر هو مايكل فلين، يثبت مدى جدية الرئيس الأميركي الجديد في إحداث نقلة نوعية بتعاطي واشنطن مع الأزمات العالمية، ومنها، بطبيعة الحال أزمات الشرق الأوسط التي تراكمت وتفاقمت في عهد سلفه.

بطاقة هوية
ولد هربرت ريموند «هاري» مكماستر يوم 24 يوليو (تموز) عام 1962 في مدينة فيلادلفيا: «مهد الاستقلال الأميركي» وكبرى مدن ولاية بنسلفانيا بشمال شرقي الولايات المتحدة. وأنهى تعليمه الثانوي في أكاديمية فالي فورج العسكرية الشهيرة عام 1980، ومن ثم تخرج ملازماً من الأكاديمية العسكري الأميركية في ويست بوينت عام 1984، وفيما بعد حصل على درجة الماجستير ثم الدكتوراه في التاريخ الأميركي من جامعة نورث كارولينا – تشابل هيل، وكما سبقت الإشارة كانت عن الاستراتيجية الأميركية الفاشلة في حرب فيتنام.
كانت أولى المهام التي أسندت إليه في خدمته العسكرية مع فرقة المدرعات الثانية في قاعدة فورت هود بولاية تكساس، ثم عام 1989 نقل مكماستر للعمل في الكتيبة الأولى التابعة للفوج المدرع الـ66 في بامبرغ بألمانيا، حيث خدم حتى عام 1992، وشملت خدمته في ألمانيا في تلك الحقبة مشاركته في «عملية عاصفة الصحراء».
إبان «عاصفة الصحراء» عام 1991 كان مكماستر برتبة نقيب أسندت إليه مسؤولية قيادة «مجموعة العقاب» التابع لفوج الخيالة المدرع الثاني في معركة الدبابات المعروفة بـ«معركة 73 إيستينغ» بجنوب شرقي العراق ضد قوات الحرس الجمهوري العراقي. ولإنجازاته في تلك المعركة التي تغلبت فيها قوته الصغيرة على قوة عراقية أكبر منها بكثير دباباتها سوفياتية الصنع، منح مكماستر وسام «النجمة الفضية».
بعد هذه المحطة الميدانية المهمة، ابتعد مكماستر لبعض الوقت إلى الأجواء الأكاديمية؛ إذ مارس (آذار) تدريس التاريخ الأميركي في ويست بوينت بين عامي 1994 و1996. وشملت المواد التي درسها للطلبة العسكريين بعض المعارك التي خاضها. ثم في عام 1999، تخرج في كلية الأركان والقيادة للجيش الأميركي، في خطوة كبرى أخرى نحو القمة.

في «القيادة الوسطى»
وعاد العسكري – المؤرخ في ذلك العام ليقود السرية الأولى في فوج الخيالة الـ66، وتولى حتى عام 2002 مناصب عدة في القيادة الأميركية الوسطى (سنتكوم)، منها مسؤوليات متصلة بالتخطيط وتنفيذ العمليات في العراق. وفيما بعد ترقيته إلى رتبة مقدم (الفتنانت كولونيل) ثم عقيد، عمل مكماستر مع القيادة الوسطى ضابطا تنفيذيا مساعدا للفتنانت جنرال جون أبو زيد. ومن ثم، بعد ترقية أبو زيد إلى رتبة جنرال بأربع نجوم وأسندت إليه قيادة القيادة الوسطى - التي تشمل منطقة الشرق الأوسط – عيّن مكماستر مديراً للمجموعة الاستشارية للقيادة.
الخطوة التالية، بعد فترة زمالة من كلية الجيش الحربية أمضاها في معهد هوفر بجامعة ستانفورد خلال عام 2003، انتقل مكماستر في العام التالي 2004 ليقود فوج الخيالة المدرع الثالث، الذي لم يلبث أن نشر للمرة الثانية في العراق. وكلف يومذاك بتأمين مدينة تلعفر، القريبة من مدينة الموصل بشمال البلاد.
خلال تلك المهمة في شمال العراق، قاد مكماستر قواته للتغلب على المسلحين المقاومين في تلعفر. غير أنه اختار عام 2006 أن يبتعد مرة أخرى عن الميدان، ويعود إلى مجال الأبحاث. وبالفعل، التحق بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في العاصمة البريطانية بصفة كبير باحثين، وكان من اهتماماته المباشرة اعتماد سياسات وتكتيكات أفعل في مواجهة الإرهاب.
لقد فضل مكماستر في تلك الحقبة (بين 2006 و2007) أن تفوته فرصة ترقيته إلى رتبة عميد (بريغادير جنرال) على الرغم من السمعة الطيبة التي اكتسبها في الأوساط العسكرية الأميركية خلال خدمته الميدانية في العراق. ولكن في أواخر 2007 بعد عودة الجنرال ديفيد بترايوس من العراق قدّر الأخير كفاءته، وكان ضمن كوكبة من الضباط الذين حصلوا على الترقية. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال سنة كاملة بين أغسطس (آب) 2007 وأغسطس 2008 كان مكماستر أحد أفراد نخبة من الضباط الأميركيين الذين عملوا مستشارين لبترايوس، الذي كان قد عين قائداً للقيادة الوسطى (تولى لاحقاً إدارة وكالة الاستخبارات المركزية «السي آي آيه»)، في مسائل مكافحة التمردات المسلحة.
المهمة التالية لمن غدا الآن «الجنرال» مكماستر كان منصب مدير تطوير المفاهيم والتجارب في مركز تكامل قدرات الجيش بقاعدة فورت مونرو العسكرية في ولاية فيرجينيا. وفي هذا المنصب كان من مهامه بلورة المفاهيم والخطط المستقبلية المتعلقة بالقوات المسلحة، وتحديداً القوات البرية.
وواصل مكماستر من هذا المنصب صعوده الوظيفي. وعام 2010 التالي، اختاره هيئة الأركان الأميركية ليكون نائباً لقائد قوة «إيساف» المتعددة الجنسية في أفغانستان لشؤون التخطيط. وبعد ذلك في مطلع عام 2012 رقي إلى رتبة لواء (ميجور جنرال)، وأسند إليه منصب آمر مركز مناورات التميز التابع للجيش في قاعدة فورت بنينغ بولاية جورجيا.
ثم في فبراير (شباط) رقي إلى رتبة فريق (لفتنانت جنرال)، وأسند إليه منصب نائب رئيس التدريب وفلسفة القيادة في مركز تكامل قدرات الجيش.
خلال هذه المرحلة كان الضابط الكفء والمتعدد المواهب قد أصبح نجماً حقيقياً داخل القوات المسلحة وخارجها، لدرجة أن مجلة «تايم» اختارته عام 2014 ضمن الشخصيات المائة الأكثر تأثيراً في العالم. كما كتب عنه جنرال أميركي متقاعد بتقدير كبير، واصفاً إياه بأنه «مهندس مستقبل الجيش الأميركي».
بعد فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية متغلباً على المرشحة الديمقراطية ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، في نوفمبر، الماضي، كان كثرة من المراقبين يتوقعون منه أن يسند مناصب مهمة إلى عدد من الشخصيات العسكرية. وكان ذلك التوقع مستنداً إلى خطبه الانتخابية، ومنها بصفة خاصة، ترداده عبارة «العمل على جعل أميركا قوة عظمى من جديد». وكان ترمب في هذا التوجه يخالف بالمطلق سياسة المهادنة التي اتبعها سلفه.
وبالفعل، كان بين التعيينات المبكرة التي لفتت المتابعين اختيار الرئيس الجديد الجنرال جيمس ماتيس وزيراً للدفاع، وجنرال آخر هو مايكل فلين مستشاراً لشؤون الأمن القومي. إلا أن فلين، صاحب الشخصية المثيرة للجدل، سرعان ما وجد نفسه يغرق في وحول السياسة.
ووسط عاصفة الاتهامات حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية لمصلحة المرشح الجمهوري، كشف الإعلام النقاب عن أن فلين أجرى اتصالات غير معلنة مع السفير الروسي في واشنطن. وكانت هذه السقطة كافية، لخروجه من فريق ترمب، مفسحاً المجال أمام شخصية مختلفة أكثر حصافة وكياسة في التعامل مع السياسة والسياسيين.
وهكذا أشرعت الأبواب أمام «هاري» مكماستر...