نظرة جديدة لدور المحافل الماسونية لحظة غروب الدولة العثمانية

بدت لنخب مشرقية بمثابة خلاص روحي في فترة تاريخية دقيقة

مقر محفل لندن الماسوني
مقر محفل لندن الماسوني
TT

نظرة جديدة لدور المحافل الماسونية لحظة غروب الدولة العثمانية

مقر محفل لندن الماسوني
مقر محفل لندن الماسوني

كلما ذكرت الماسونية، لا سيما في الشرق العربي، استدعت معها أجواء المؤامرة والغموض، واتهامات العمالة والارتباط باليهودية العالمية، بل وحتى اعتبار ماسونيي الشرق بمثابة طليعة استخباراتية وحصان طروادة غربي متقدم زرعته القوى الاستعمارية المتطلعة، طمعاً، إلى تركة الدولة العثمانية التي كانت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تلفظ أنفاسها الأخيرة وكأنها «رجل أوروبا المريض».
لكن الحقيقة أن هنالك غيابا غير مفهوم تماما للبحث العلمي الدقيق عن أدوار محتملة لعبتها المحافل الماسونية المحلية في فلسطين ولبنان وسوريا أثناء تلك اللحظة الدقيقة من التاريخ، وهي المنطقة التي كانت، ولعدة مئات من السنين، منطقة عثمانية تتبع الباب العالي - دون الحدود الحالية التي فرضتها القوى الاستعمارية مطلع القرن العشرين - ومسرحاً لتحولات عالمية في الهيمنة والسياسة والحروب كان لها ما بعدها من أصداء عبر العالم. بالطبع فإنه يمكن تعليل ذلك جزئياً بالطبيعة السرية التي هي سمة العمل الماسوني عموماً، وغياب بالمجمل لدراسات تاريخية عن المنطقة في تلك المرحلة تقترب من تتبع حيوات الناس العاديين بدلاً من التركيز المعتاد على أرباب الحكم والسياسة وقادة الجيوش. لكن ذلك يعني بالضرورة فهماً ناقصاً - إن لم يكن مغلوطاً ربما - لماهية التحولات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي عاشتها تلك المنطقة، والتي هي لا شك مستمرة - بشكل أو بآخر - في التأثير على مصائر شعوبها حتى وقتنا الراهن.
من هذه الزاوية، يأتي كتاب الباحثة دوروثي سومير «الماسونية في الإمبراطورية العثمانية: تاريخ للأخوية وتأثيرها في بلاد الشام» - الصادرة طبعته الورقية حديثاً بالإنجليزية عن «دار توريس وشركاه» بلندن - ليلقي بإضاءة نادرة على تأثير المحافل الماسونية في سياق الحراك الاجتماعي والاقتصادي شرق المتوسط، لتنتهي بنا إلى فتح آفاق لنظرة واقعية ونقاش موضوعي عن دور هذه الأخوية في تشكيل استجابة المنطقة لتحولات الأزمنة، عوض التسليم لفخ التعميم والتصنيفات المسبقة والشعارات، ومن دون الخوض في جذور الماسونية ذاتها كحركة، وهو مجال اختلفت حوله الآراء وتباعدت. فترة الخمسين سنة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية كانت أشبه ما تكون بحالة احتضار طويل لإمبراطورية عاشت مجداً وعنفواناً لعدة قرون، لكن مصيرها بدا محتوماً في مواجهة الصعود الأوروبي، وتصاعد النزعات القومية والآيديولوجيات بين رعايا الباب العالي، والصعوبات الاقتصادية
الفائقة، وهو ما انعكس على رعايا السلطان في المشرق على هيئة ضغوط اجتماعية وهزات ثقافية وأزمات هويات مات قديمها – أو كاد – ولم يتشكل جديدها بعد. وفوق أوهان الإمبراطورية، عانت منطقة شرق المتوسط ذاتها من حروبها الدينية الأهلية وصراعات دموية حادة بين طوائفها وإثنياتها خلال مراحل مختلفة، وسيولة غير مسبوقة في أنظمة التعليم وفرص العمل وبيروقراطية الدولة على نحو أنتج غياباً - وتطلعاً - لهوية موحدة تجمعُ برجوازيي المنطقة ونخبتها، تتجاوز العثمنة التركية، والطوائف والأعراق.
تقول سومير إن نظام الماسونية وافق هذه التطلعات، فبدت الأخوية بالنسبة لنخب مشرقية عاشت تلك المرحلة بمثابة خلاص روحي، وتقوية للفرد في مواجهة تغييرات عامة شديدة القسوة وغير مفهومة الأبعاد، وقدمت لها هيكلية فعالة لتجاوز خطوط الانقسام الطائفي والعرقي اجتماعيا، لا بل وشرعت لها أيضاً آفاقاً للتواصل مع الماسون الأجانب سواء في الشام ذاتها أو حتى عند سفرهم إلى أوروبا.
وتَلحظ سومير أن ماسونيي بلاد الشام تجنبوا إدخال السياسة إلى محافلهم، على عكس محافل مصر والمناطق المتاخمة للباب العالي، وهي تقول إن ماسونياً سورياً مثل جورجي زيدان مثلاً أصيب بخيبة من تفشي العمل السياسي في شرايين الماسونية المصرية، وهو ما انتهى به إلى اعتزال الأخوية، بينما أعرب ماسونيون مصريون عن خيبة أملهم نتيجة الغياب التام للسياسة من محافل الشام، ولعل أشهرهم جمال الدين الأفغاني الذي كان يعد العمل الماسوني أداة مهمة للتغيير ومواجهة تحولات السياسة والمجتمع.
تقدم سومير وصفاً شديد الحيوية لنخبة مدينة بيروت التي التحقت بالماسونية مطلع القرن العشرين، فبدت كأنها طلائع برجوازية مدينية نشطة، معنية بشكل خاص بالثقافة والتعليم والأعمال الخيرية، لكن محفلهم لم يغدُ بمثابة ناد ثقافي منعزل، بل شرع مبكرا باستقطاب أعداد متزايدة من النشطاء المعنيين عموماً بتقدم المجتمع والشأن العام، وفُتحت عدة محافل جديدة لاستيعاب تلك الأعداد المتزايدة. وتضيف سومير أن عدد الماسون تجاوز في عام 1908 ألفاً وخمسمائة من الأعضاء الفاعلين، ليكونوا بالتالي أكبر مجموعة منظمة في المشرق غير المجموعات الدينية.
بعد بيروت، انتشرت المحافل أيضاً في جبل لبنان وطرابلس شمالا، مع غلبة ملحوظة لنخبة المثقفين عليها. وكان التحاق أبناء عائلات الإقطاعيين والأثرياء بها: سرسق وطراد ويانس وغيرها من عوائل لبنان النافذة، هو ما أضفى أكبر جاذبية للأخوية في المناطق اللبنانية تحديداً.
وبينما كانت بيروت بفضائها المتحرر نسبياً وكثرة زوارها الأجانب وتأثرها البالغ بالثقافات الأوروبية بيئة طبيعية لانتعاش الماسونية، كانت طرابلس في المقابل مدينة محافظة عموماً وأقل ارتباطا بالتوجهات المنتقدة للحكم التركي، لأن أغلب سكان المدينة مسلمين سنّة، ومع ذلك، فإن الماسونية نجحت باستقطاب نخبة من كبار تجار وأثرياء المدينة لعضويتها؛ إذ رآها معظمهم أفضل وسيلة لكسر خطوط الفصل الديني، وبناء جسور تعاون إيجابي مع النخب المتنورة والثرية من الطوائف الأخرى.
لكن ذلك يجب ألا يدفع بنا للاعتقاد بأن معظم الملتحقين بالماسونية في تلك المرحلة كانوا نفعيين عمليين؛ إذ تُشدد سومير على القول إنها وجدت غالبية الملتحقين بالماسونية المشرقية وقت تأسيسها من المُتصدين للعمل العام في مجتمعاتهم المحلية وأعضاء فاعلين في جمعيات ثقافية أو هيئات خيرية أو ما شابه. كما أنها، وإن ضمت في عضويتها كثيرا من الأثرياء وكبار التجار، أيضاً استقطبت قادة رأي ومفكرين وأكاديميين وصحافيين ومهنيين من قطاعات مختلفة، ففي مجال الصحافة مثلاً كان معظم روادها في المنطقة ماسونيين: سليم البستاني وجبران تويني ويعقوب الصراف وإبراهيم اليازجي وبشارة الخوري وبشارة تقلا ومحمد كرد علي وفارس نمر. ومع كل ما يقال عن اختراق أجهزة الاستخبارات والحكومات الغربية لمحافل الماسونية في المشرق – ولا بد من أن بعض الأعضاء على الأقل كانوا ولو بصفتهم الشخصية على اتصال بحكومات أجنبية - فقد قدمت الماسونية لهذه الكوادر النخبوية إطاراً سمح لها ببناء جسور تفاهم عبر المدن والطوائف والخلفيات، ومثل قناة لتبادل الأفكار والنقاشات بين نخب مجتمعية مؤثرة بشأن الهوية القومية لسكان الإقليم - في ظل تبخر الجنسية العثمانية الجامعة - وشكل المستقبل، ونواة لاستكشاف الطبقة البرجوازية المحلية لذاتها بعد انفصالها المحتوم عن عاصمة الإمبراطورية، وهي أدوار جد خطيرة في مرحلة دقيقة كان يستعصي توفرها من خلال أي قنوات أخرى، لا سيما بعد موجة الحروب الأهلية التي عصفت بالشام خلال القرن التاسع عشر وما تمخضت عنه من مذابح وفظائع وتهجير، في مقابل إصرار منهج الماسونية على تجنب اتخاذ مواقف سياسية صريحة.
وتذكر سومير أن محافل المشرق عكست تنوعات على مستوى فهمها وممارستها للماسونية، نتجت أساساً عن تنوع البيئات المحلية الثقافية للمحافل، وهو ما تقول إنه تسبب باندلاع خلافات وصراعات أحياناً بين المحافل المختلفة على نحو استدعى في مرحلة ما تدخل المحافل الاسكوتلندية الأم للفصل بين المتنازعين.
لم تستهدف دراسة سومير الدفاع الصريح عن الماسونية بصفتها حركة، لكنها عرضت استجابة نخب المشرق للتحولات العاصفة في لحظة غياب الإمبراطورية، واستفادتها الفعالة من قناة الحركة الماسونية للتواصل في ظل غياب بدائل حقيقية قادرة على تجاوز إرث الصراعات العنصرية المحلية. ومع ذلك، فإن الدراسة - على أهميتها الفائقة - تعاني من تركز اهتمامها على المحافل اللبنانية أساساً، مع شبه انعدام المعلومات المتوفرة عن محافل فلسطين، التي لا شك تمثل بدورها تجربة فريدة لتحولات نخبة مجتمع جنوب الشام في أجواء بدايات المشروع الصهيوني وحكم الانتداب البريطاني، وكانت لتثير فضول المهتمين بتاريخ المنطقة.



سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي
TT

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

صدر عن دار «نوفل - هاشيت أنطوان» كتاب «موجَز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَيْن» للكاتب والسياسي العراقي الكردي سردار عبد الله. في هذا الكتاب، الذي نال تنويهاً من جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلات، يحاول سردار عبد الله، من خلال رحلتين قام بهما في عام 2018 إلى الهند، ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي.

هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً في منتصف القرن التاسع عشر، أسهمت تلك السنة في تعزيز دور الشيخ لإحداث تغييرات بعد عودته؛ إذ تبنى الطريقة النقشبندية التي باتت تسمى فيما بعد باسمه «النقشبندية الخالدية». تقودنا هذه الرحلة إلى أحداث تاريخية مهمة حينها مثل سقوط ولاية بغداد والطريقة الصوفية البكتاشية. فكانت طريقته الصوفية بمثابة البديل الروحي أولاً؛ ما أحدث تحولاً كبيراً في تركيبة الزعامة الكردية، التي انتقلت من طبقة الأمراء والإقطاع إلى رجال الدين المتنوّرين.

اتخذ الكاتب قراراً جازماً بألا يعود من الهند ما لم يعثر على ذلك المكان المجهول، غير أنه في رحلة بحثه تلك، يخوض في التاريخ تارة وفي العجائب والطرائف التي يصادفها في تلك البلاد تارة أخرى.

«كيف لنملةٍ أن تطارد نسراً؟»، يتساءل الكاتب، كيف لمريدٍ أن يقتفيَ آثارَ شيخٍ حملَ الشريعةَ على جناحٍ والحقيقةَ على آخر، وجابَ بهما أصقاع الدنيا مُحلِّقاً؟

في هذه الرحلة الممتعة في الزمان والمكان والروح، يُشاركُ الكاتب قرّاءَه تفاصيلَ رحلتَيْه إلى الهند عام 2018؛ بحثاً عن خانقاه الشاه عبد الله الدهلوي. هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً خلال بدايات القرن التاسع عشر، عاد من بَعدِه إلى كردستان وبغداد والشام، يحملُ طريقةً أحدثتْ تحوّلاً كبيراً في المنطقة، في فترةٍ مهمّةٍ تاريخيّاً شهدتْ سقوط ولاية بغداد، وسقوطَ الإمارات الكُرديّة؛ ما خلق فراغاً رهيباً في السلطة.

في كتابه، الذي يقع في 216 صفحة، يتساءل سردار عبد الله ثانية: «لماذا يثور مَن تتلمذ على يد الشيخ النقشبندي، بدءاً بالشيخ النهري في كردستان وصولاً إلى الأمير عبد القادر في الجزائر، ضدّ المحتلّين؟»، فتأخذ الرحلة بُعداً أعمق...

ويكتشف كاتبُنا. فبعدما اتخذ قراراً جازماً بألّا يعود من الهند ما لم يعثر على المقام المنشود، سيعثر المُريد على كنوز المعرفة ودُرَرِ المشاهَدات وهو في طريقه إلى الوجهة الأساسيّة.

وسردار عبد الله - كاتبٌ وسياسيّ كرديّ ومرشَّحٌ سابق لرئاسة العراق. ترأّس هيئة تحرير مجلّاتٍ وصحفٍ كرديّةٍ عدّة، بعد سنواتٍ قضاها في جبال كردستان ضمن قوّات البيشمركة الكرديّة. له إصدارات عدّة باللغتَيْن الكرديّة والعربيّة. «موجز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَين» هو كتابه الثاني الصادر عن «دار نوفل» بعد روايته «آتيلا آخر العشّاق» (2019).