معارك اليسار الفرنسي على طريق الحكم

قراءة حول أداء مرشحيه إبان عهد «الجمهورية الخامسة»

فرنسوا ميتران
فرنسوا ميتران
TT

معارك اليسار الفرنسي على طريق الحكم

فرنسوا ميتران
فرنسوا ميتران

* تعرف الحقبة السياسية الحالية بـ«الجمهورية الفرنسية الخامسة»، وارتبط تأسيسها بشخصية الجنرال شارل ديغول «منقذ» فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. أما أول انتخابات رئاسية عرفتها فأجريت يوم 21 ديسمبر (كانون الأول) 1958 فكانت الانتخابات التي تنظم على أساس نظام «المجمع الانتخابي»، حيث يشكل أعضاء المجالس التمثيلية بدءاً بأعضاء المجالس البلدية والعمد، وانتهاء بالبرلمان الهيئة الناخبة. ولكي يفوز المرشح عليه الحصول على 50 في المائة أو أكثر من الأصوات. غير أن هذا النظام ألغي بعد استفتاء نظم عام 1962، واستعيض عنه بالاقتراع المباشر في انتخابات عام 1965.
في الانتخابات الأولى عام 1958 خاض اليسار الفرنسي المعركة ضد الجنرال ديغول بالمرشح الشيوعي جورج ماران، لكن ديغول فاز بغالبية ساحقة بلغت 78.51 في المائة من أصوات «المجمع»، مقابل أقل بقليل من 13 في المائة لماران، وحاز مرشح ثالث هو ألبير شاتليه على النسبة الباقية.

انتخابات 1965
في الانتخابات الثانية عام 1965 مثّل اليسار المرشح الاشتراكي (الرئيس لاحقاً) فرنسوا ميتران، الذي حصل في الدورة الأولى على 32 في المائة من الأصوات، متخلفاً عن الرئيس الجنرال شارل ديغول - المرشح الأبرز لليمين والوسط - الذي حصل على 45 في المائة، وبالتالي اضطر إلى خوض جولة إعادة ضد ميتران. وفي الجولة الثانية الحاسمة فاز ديغول 55 مقابل 45 في المائة لميتران، ليبدأ فترة رئاسية جديدة. وللعلم، ترشح في الجولة الأولى مرشح يساري ثان هو مارسيل باربو، لكنه لم يحصل سوى على 1.15 في المائة من الأصوات.

انتخابات 1969:
أجريت هذه الانتخابات مبكرة عن موعدها الأصلي إثر استقالة ديغول (78 سنة)، في أعقاب خسارته استفتاءً شعبياً لإجراء تعديلات تتصل بمجلس الشيوخ والإدارات المحلية. ولقد خاض اليسار هذه الانتخابات منقسماً ومتشرذماً خلف مرشحين ماركسيين واشتراكيين عدة، أبرزهم القيادي الشيوعي العتيق جاك دوكلو، وعمدة مدينة مرسيليا الاشتراكي غاستون دوفير (صار وزيراً فيما بعد)، وزعيم الحزب الاشتراكي الموحّد ميشال روكار (صار رئيساً للوزراء فيما بعد)، ومعهم الاشتراكي الراديكالي لوي دوكاتيل، واليساري التروتسكي آلان كريفين.
وبسبب تشرذم اليسار عجز مرشحوه عن بلوغ الجولة الثانية التي حسمها المرشح الديغولي ورئيس الوزراء يومذاك جورج بومبيدو لمصلحته، متغلباً على المرشح الوسطي آلان بوهير، رئيس مجلس الشيوخ ورئيس الجمهورية بالوكالة (بحكم رئاسته مجلس الشيوخ) في حينه، بـ58.2 في المائة مقابل 41.8 في المائة. ولقد تصدّر دوكلو مرشحي اليسار في الجولة بحصوله في الجولة الأولى على 21.27 في المائة، محتلاً المرتبة الثالثة خلف بوهير بفارق بسيط (أكثر بقليل من 2 في المائة).

انتخابات 1974:
أجريت بعد وفاة الرئيس جورج بومبيدو إبان شغله منصب الرئاسة. وهذه المرة كان اليسار أقل انقساماً من قوى اليمين والوسط، وبرز فرنسوا ميتران بعد إعادته توحيد صفوف الاشتراكيين وتنظيمهم الحزبي وسحبه إليه نسبة كبيرة من القاعدة الشعبية للشيوعيين. وفي المقابل، انقسم اليمين والوسط بين مرشحين قويين هما المرشح الديغولي جاك شابان دلماس رئيس الوزراء السابق (ورئيس مجلس النواب لاحقاً) وعُمدة مدينة بوردو (بين1947 و1995) ووزير المالية فاليري جيسكار ديستان زعيم تيار الوسط الجمهوري المستقل (يمين الوسط).
وأخفق شابان دلماس، تحت وقع بعض الفضائح التي أثارتها الصحافة الشعبية، في التقدم من الجولة الأولى إلى الثانية؛ إذ احتل المرتبة الثالثة خلف المتصدر ميتران (43.25 في المائة) وجيسكار ديستان (32.6 في المائة)، ولم يحصل إلا على 15.1 في المائة من الأصوات. وكان بين أبرز مرشحي اليسار الآخرين، بجانب ميتران، كل من البيئي رينيه دومون واليسارية المتشددة آرليت لاغييه والتروتسكي آلان كريفين. وفي المقابل، شهدت هذه المعركة إطلالة مرشح جان ماري لوبان اليمين المتطرّف الذي حصل على أقل من 1 في المائة من الأصوات.
ولكن في الجولة الثانية، عادت قوى اليمين والوسط، هذه المرة، فاصطفت كلها خلف جيسكار ديستان ليفوز على ميتران بفارق بسيط (50.8 في المائة مقابل 49.2 في المائة) ويدخل قصر الإليزيه.

انتخابات 1981
شهدت هذه الانتخابات تطوّراً مفصلياً في الحياة السياسية المعاصرة لفرنسا في عهد «الجمهورية الخامسة»؛ إذ أصبح فرنسوا ميتران، زعيم الاشتراكيين واليسار الفعلي، أول رئيس يساري للجمهورية.
المثير في الأمر أن ميتران احتل المرتبة الثانية في الجولة الأولى خلف الرئيس جيسكار ديستان (25.85 في المائة مقابل 28.32 في المائة)، وجاء ثالثاً المرشح الديغولي جاك شيراك، عمدة باريس ورئيس الجمهورية لاحقاً. ولقد جمع شيراك يومها نسبة 18 في المائة، في حين حصل جورج مارشيه، أمين عام الحزب الشيوعي – كان يومذاك ثاني أكبر الأحزاب الشيوعية في أوروبا بعد الحزب الشيوعي الإيطالي – على 15.35 في المائة من الأصوات. وكان أبرز مرشحي اليسار الآخرين في هذه الانتخابات المرشح البيئي بريس لالوند، واليسارية المتشددة آرليت لاغييه، ومرشح الراديكاليين الاشتراكيين ميشال كروبو.
ومن ثم، تقدم جيسكار ديستان وميتران إلى الجولة الثانية الحاسمة، ولكن هذه المرة حقق ميتران فوزه التاريخي بـ51.76 في المائة مقابل 48.24 في المائة لجيسكار.

انتخابات 1988
جدّد فرنسوا ميتران في هذه الانتخابات، مرشحاً عن اليسار، انتصاره واحتفظ بالرئاسة لفترة ثانية. وتحقق للرئيس الاشتراكي ذلك على الرغم من الانقسامات المعهودة في المعسكر اليساري، ذلك أنه بجانب ميتران رشحت القوى والحركات اليسارية عدداً من المرشحين أبرزهم: آندريه لاجوانيي (الحزب الشيوعي) وأنطوان ويشتير (حزب الخضر البيئي) وبيار جوكان (الحزب الاشتراكي الموحّد والرابطة الشيوعية الثورية) وآرليت لاغييه (حزب الشغيلة). ومع هذا تصدّر ميتران الجولة بفارق مريح وتقدّم إلى الجولة الحاسمة جامعاً 34.1 في المائة من الأصوات.
أما في معسكر اليمين والوسط، فتولّى جاك شيراك (رئيس الوزراء بين 1986 و1988) قيادة الديغوليين، واحتل بدعمهم المرتبة الثانية حاصلاً على 19.94 في المائة، متقدماً بذلك على ريمون بار، مرشح الوسطيين - أنصار جيسكار ديستان - (رئيس الوزراء بين 1976 و1981. ووزير الاقتصاد والمالية سابقاً) الذي حصل على 16.55 في المائة. غير أن المؤشر الخطير حقاً الذي حملته هذه الانتخابات كان التصاعد الكبير والمقلق لأصوات اليمين المتطرف؛ إذ حصل جان ماري ماري لوبان هذه المرة على نحو 14.4 في المائة من الأصوات (مقابل أقل من 1 في المائة في الانتخابات السابقة).
وفي الجولة الحاسمة تغلّب ميتران على شيراك بنحو 54 في المائة مقابل نحو 46 في المائة من الأصوات.

انتخابات 1995
في هذه الانتخابات انقسم اليسار، وكذلك اليمين، في الجولة الأولى. إذ مثّل الاشتراكيين ليونيل جوسبان، وزير التربية والرياضة السابق وأمين أول الحزب الاشتراكي (تولى رئاسة الوزراء لاحقاً)، بينما سار الشيوعيون خلف مرشحهم روبير أو، وخاضت المعركة أيضا شراذم يسارية وبيئية أخرى. وفي المقابل، كان المرشحون الأبرز لليمين المرشح الديغولي جاك شيراك ومنافسه إدوار بالادور (رئيس الوزراء بين 1993 و1995) المتمتع بدعم يمين الوسط، وجان ماري لوبان زعيم «الجبهة الوطنية» عن اليمين المتطرف.
ومع أن جوسبان تصدّر المتنافسين في الجولة الأولى بـ23.3 في المائة مقابل 20.84 في المائة لشيراك و18.58 في المائة لبالادور 15 في المائة للوبان، فإن الجولة الثانية الحاسمة أسفرت عن فوز شيراك بـ52.64 في المائة مقابل 47.36 في المائة. وبالتالي، استعاد اليمين الرئاسة.
هذه الانتخابات شهدت عملياً تراجعاً دراماتيكياً في شعبية الشيوعيين؛ إذ عجز مرشحهم روبير أو عن جمع ما هو أكثر من 8.64 في المائة فقط. في حين حصلت اليسارية المتشددة آرليت لاغييه على أكثر من 5 في المائة، والمرشحة البيئية دومينيك فوانييه على أكثر من 3.3 في المائة.

انتخابات 2002
في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأولى التي يشهدها القرن الـ21، كان انهيار اليسار شبه كامل. إذ عجز عن توصيل أي من مرشحيه إلى الجولة الثانية الحاسمة، في حين أكد عنصريو اليمين المتطرف حضورهم. إذ احتل مرشحهم جان ماري لوبان المرتبة الثانية في الجولة، متخلفاً بفارق بسيط نسبياً عن رئيس الجمهورية (16.86 في المائة مقابل 19.88 في المائة لشيراك)، بينما جاء أبرز مرشحي اليسار ليونيل جوسبان (رئيس الوزراء بين 1997 و2002) ثالثاً بفارق ضئيل خلف لوبان؛ إذ جمع 16.18 في المائة من الأصوات.
وفي حين جاء الوسطي فرنسوا بايرو (وزير التربية السابق) رابعاً، حصل عدد من مرشحي اليسار عن بلوغ حاجز الـ6 في المائة، أبرزهم أرليت لاغييه، والوزير الاشتراكي اليساري السابق جان بيار شوفنمان، والمرشح البيئي نويل مامير، والشيوعي الثوري الشاب أوليفييه بيزانسونو. أما المرشح الشيوعي روبير أو ففشل حتى في الحصول على نسبة 4 في المائة.
وفي ضوء نتائج الأولى الكارثية لليسار، وبالأخص للحزب الشيوعي، اصطف اليساريون خلف شيراك لمنع فوز لوبان. وهذا ما حصل؛ إذ فاز شيراك بغالبية كاسحة بلغت أكثر من 82 في المائة من الأصوات، بينما أخفق لوبان في بلوغ الـ18 في المائة.

انتخابات 2007
خاض انتخابات 2007 عن اليسار الوزيرة السابقة سيغولين رويال لتغدو أول امرأة تترشح لرئاسة الجمهورية عن حزب سلطة كبير، ومعها مجموعة من المرشحين اليساريين الآخرين، أبرزهم ماري جورج بوفيه، الأمينة العامة للحزب الشيوعي، وهي أيضاً وزيرة سابقة، والشيوعي الثوري أوليفييه بيزانسونو وآرليت لاغييه وجوسيه بوفيه الناشط ضد العولمة. أما في معسكر اليمين، فكان المرشح الأبرز نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية ووزير المالية السابق، ومعه زعيم «الجبهة الوطنية» جان ماري لوبان عن اليمين المتطرف والمرشح اليميني المناوئ للتكامل الأوروبي فيليب دو فيلييه. وفي الوسط كان هناك الوزير السابق فرنسوا بايرو.
وتصدر ساركوزي تلته رويال الترتيب في الجولة الأولى بـ31.18 في المائة و25.87 في المائة على التوالي، فتقدما إلى الجولة الثانية، التي أسفرت عن فوز ساركوزي جامعاً أكثر بقليل من 53 في المائة من الأصوات مقابل نحو 47 في المائة لرويال.

انتخابات عام 2012
في هذه الانتخابات نهض اليسار من غفوته الطويلة واستعاد الحكم، لأول مرة بعد نهاية فترة فرنسوا ميتران الثانية عام 1995. ولقد تصدر القيادي الاشتراكي فرنسوا هولاند المرشحين المتنافسين في جولة الاقتراع متقدماً على الرئيس نيكولا ساركوزي جامعاً 28.63 في المائة من الأصوات مقابل 27.18 لساركوزي. وكان أبرز مرشحي اليسار الآخرين في هذه الجولة جان لوك ميلونشون الذي جاء رابعاً خلف مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف – التي كانت قد أزاحت أباها جان ماري – عن زعامة «الجبهة الوطنية»؛ إذ حصلت لوبان يومذاك على 17.90 في المائة من الأصوات وميلونشون على 11.10 في المائة. وكان هناك من اليساريين البيئية إيفا جولي وفيليب بوتو المناهض للرأسمالية وناتالي أرتو من اليسار التروتسكي المتشدد.
وفي الجولة الثانية الحاسمة فاز هولاند بالرئاسة لحصوله على 51.64 في المائة مقابل 48.36 في المائة لساركوزي.



الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
TT

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)

يتوجه الأردنيون في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل لاختيار مجلسهم النيابي العشرين، الذي خصص من مقاعده 41 مقعداً للأحزاب من أصل 138 مقعداً، في تجربة هي الأولى من نوعها سيشهدها الأردن تحت شعار «تحديث المنظومة السياسية» في المملكة. ويذكر أنه على مدى العامين السابقين دخلت المملكة في حالة جدال نخبوي حاد، حول مدى مساهمة قانون الانتخاب الجديد في تجويد الأداء البرلماني، ولا سيما، بعد تراجع اقتناع الرأي العام بأداء المجالس النيابية التي سجلت نسباً متدنية من الثقة عند الرأي العام بعد استطلاعات رأي تحدث بعضها عن ما نسبته 17 في المائة فقط يثقون بمجلس النواب. وبالتالي، من المرجح أن يصدر العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، خلال الأيام القليلة المقبلة مرسوماً يقضي بحل مجلس النواب التاسع عشر؛ تمهيداً لفتح باب الترشح للانتخابات النيابية، وبهذا القرار يتوقع أن يبدأ الحراك الانتخابي ويزداد سخونة مع قرب موعد يوم الاقتراع، لكن تبقى جملة من المحددات قد تؤثر على تحقيق أهداف التحديث البرلماني المنشود. إذ ستبدأ مرحلة الترشح للانتخابات المقبلة في الثلاثين من الشهر الحالي، وسط حراك حزبي يسعى لإثبات وجوده في السلطة التشريعية، التي هي ركن أساسي في معادلة الحكم، لكن الكلام عن استخدام المال لجذب القواعد الانتخابية فتح باب التخوف من إحباط التجربة الحزبية البرلمانية في نسختها الأولى، فعلى ثلاثة مواسم انتخابية سترتفع نسبة التمثيل الحزبي في البرلمان من 30 في المائة إلى 65 في المائة في انتخابات عام 2032.

سمير الرفاعي

يبلغ متوسط نسب الاقتراع في الانتخابات النيابية الأردنية للمواسم الانتخابية الثلاثة الماضية نحو 32 في المائة. وإذا كانت هذه النسبة متدنية، ففي أفضل الحالات لم تتخطَّ نسب المشاركة حاجز الـ40 في المائة طوال السنوات الـ25 الماضية، أضف إلى ذلك أن الحافز العشائري يُعدّ من أهم روافع المشاركة والإقبال، في وقت تتراجع نسب الاقتراع في العاصمة عمّان ومراكز الثقل السكاني في محافظتي إربد والزرقاء.

وعلى الرغم من الجهود المؤسسية المبذولة لتحفيز المواطنين على المشاركة، يظل المزاج العام شديد التأثر بالسلبية عند مراجعة أداء البرلمانات في السنوات الأخيرة. وكل الضجيج الذي يسمعه الناس في خطابات النواب لم يأتِ بأي قرار يخالف التوجّهات الحكومية، بل عادة ما يجيء التصويت بعكس الموقف الذي يعلنه نائب أو كتلة نيابية.

مشاجرات وفصل نوابمن جهة ثانية، مشاهد المشاجرات والعنف، بالإضافة إلى تسجيل مجلس النواب الحالي عدداً من حالات الفصل وتجميد العضوية لعدد من النواب سوابق لم تحدث في مجالس نيابية سابقة. فلقد قرّر المجلس الحالي فصل نائبين وتجميد عضوية نائبين آخرين، ورُفعت الحصانة على نائب ما زال يَمثُل أمام محكمة أمن الدولة (قضاء عسكري) بتهمة تهريب السلاح إلى إسرائيل، وهذا بلا شك ساهم في العزوف عن متابعة أداء السلطة التشريعية.

وثمة مشاهد كثيرة أخرى ربما أدت أيضاً إلى صرف الناخبين عن المشاركة، منها ممارسات حزبية وُلدت من رحم برنامج التحديث السياسي وسبّبت حالة إحباط لدى الرأي العام، وبخاصة، أن تلك الأحزاب قدّمت نفسها على أنها «أحزاب الدولة»، ولكن مارس بعضها سلوكيات ساهمت في التشويه والتشويش على التجربة الحزبية الجديدة في البلاد. وكان آخرها إحالة أمين عام أحد الأحزاب إلى النائب العام بتهمة طلبه مبلغاً مالياً من مرشح مفترض أن يكون في صدارة قائمته للانتخابات المقبلة.

وطبعاً، يضاف إلى كل ذلك أن الضغوط الاقتصادية المعيشية المُصاحبة لحالة المواطن الأردني ساهمت بـ«حالة من قلة الاكتراث» - وفق مراقبين - بمجمل المشهد السياسي، ومنه الانتخابي على وجه الخصوص؛ بسبب الاقتناع المتجذر بعجز البرلمانات عن حل الأزمة الاقتصادية المتراكمة منذ أزمة جائحة «كوفيد - 19» التي شلّت وأغلقت قطاعات خدمية حيوية وصناعية؛ ما تسبب في تسريح عاملين يقفون اليوم في طوابير البطالة التي يختلف المتخصصون على نسبتها.

تأثير الحرب على غزة

وعلى صعيد موازٍ، هناك أسباب تتعلق بالتخوف الرسمي من نسب المشاركة في الانتخابات. فاستمرار الحرب على قطاع غزة، تركت انسحابات على الشارع الأردني المتصل بالقضية الفلسطينية جغرافياً وديموغرافياً. وهذه الانسحابات أدخلت الرأي العام في حالة من الإحباط بعد غياب آفاق وقف الحرب في المدى المنظور، وبالتلازم مع هذا الإحباط توجد مخاوف رسمية من استفراد الحركة الإسلامية في الأردن بحصة الأسد من أصوات المقترعين، المشحونين بعاطفة الانتصار للمقاومة الإسلامية في غزة. واستطراداً، يبقى لغز ضعف نسب المشاركة في الأوساط الأردنية من أصول فلسطينية، حالة محيرة لمركز القرار، الذي نفّذ دراسة اجتماعية مسكوت عنها لم تصل إلى نتائج حاسمة في تعريف المشكلة على طريق صناعة الحلول.

نخب تقليدية بمواجهة طامحين

في هذه الأثناء ظهرت مساحات من الصراع بين تيارين: التيار الأول، تيار النخب التقليدية الذي يحمل موقفاً سلبياً من القفزات التي جاءت في قانوني الأحزاب والانتخاب، وأساس سلبيته شعوره بـ«تغييبه» عن مراكز القرار كواعظين وناصحين، بعد فترة ازدحمت بإطلاق الأوصاف بحقهم كـ«الحرس القديم» و«النخب المحافظة» و«قوى الشد العكسي» و«قوى الوضع القائم». والتيار الآخر يتمثل بأعضاء من اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، الذين بشّروا بانطلاق مرحلة التحول الديمقراطي بالتزامن مع دخول المملكة مئويتها الثانية... والصراع هنا كان وقوده الرأي العام الذي انقسم بين التيارين المتعارضين، في حالة عزّزت من مشاعر «قلة الاكتراث» بالانتخابات النيابية في نسختها الحالية.

وعلى مدى السنتين الماضيتين أنتجت مرحلة التحديث السياسي - بعد إقرار قانوني الأحزاب والانتخاب، والتعديلات على الدستور - 38 حزباً، بعدما كان عدد الأحزاب 56 حزباً. إلا أن هذا المشهد لم يختصر الكم الحزبي، كما لم يأتِ بالنوع المتفرد. إذ انقسم المشهد على ثلاثة تيارات تقليدية، هي:

- تيار اليسار والقوميين، الذي يعاني أزمة انتشار بسبب التشبث بخطابه التقليدي ويعاني تراجع دعم المؤازرين له.

- التيار الوسطي الذي يحاول إعادة إنتاج نفسه متمسكاً بأدبياته نفسها، ومكتفياً بتغيير قياداته التي جاءت بدعم من مراكز قرار.

- التيار الثالث... وهو اليمين الإسلامي، الذي احتكر تمثيله حزب «جبهة العمل الإسلامي» الذراع الحزبية لجماعة «الإخوان المسلمين» غير المرخصة في الأردن.

تحدٍ رسمي يراهن على نسب مشاركة كبيرة رغم الإحباطات الكثيرة

 المشهد السابق دفع برئيس اللجنة الملكية، رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، إلى ممارسة النقد الذاتي لتجربة التوافق على مخرجات لجنته. لكنه لم ينتقد التوافق في حد ذاته، بل بعض الممارسات الحزبية التي اختطفت التجربة لتعيدها وتختصرها في شخوص من أسسوا أحزاباً جديدة، تاركين الفكرة في مهب التشكيك والتشويه. وهنا برز عدد من المريدين لإلقاء المسؤولية بعيداً عنهم، وتحميل تخبّط النسخة الأولى من التجربة لمؤسسات وجهات مدنية وأمنية. وأيضاً، هاجم بعض هؤلاء الهيئة المستقلة للانتخاب التي حمّلوها مسؤولية التقصير في دورها ومتابعة شؤون الأحزاب ومدى تطبيقها شروط القانون وأحكامه. لكن «المستقلة للانتخاب» ردّت بإجراءات على الأرض أسفرت عن إحالات للادعاء العام بشبهة استخدام المال في ارتكاب جرائم انتخابية بقصد التأثير على إرادة الناخبين من جهة، وطلب مبالغ مالية من مرشحين من جهة أخرى لحملهم نحو مقاعد مجلس النواب الجديد.

في هذه الأثناء، الطامحون بخوض التجربة الحزبية في الانتخابات المقبلة يعتقدون أن ولادة الحكومة البرلمانية اقتربت، إلا أن الرفاعي في محاضرته الأخيرة أكد أن خريطة التحديث لم تقلّ عن إنتاج حكومات حزبية بالمعنى التقليدي في المدى المنظور، لكن من شأن تراكم الحضور الحزبي أن يوصل إلى حكومات برلمانية تقابلها معارضة حزبية في سباق لكسب تأييد الناخب الأردني ضمن مفاهيم التعددية السياسية وتداول السلطة.

كذلك، بدا سمير الرفاعي وكأنه يُذكّر بأن الجمع بين مقعدي النيابة والوزارة أمر بات منتهياً في ظل حظر الدستور، بموجب التعديلات الأخيرة مطلع عام 2022، الجمع بين الموقعين تكريساً لمبدأ الفصل بين السلطتين، وتأكيداً بأن الثقة البرلمانية بالحكومات ستأتي حتماً بشخصيات حزبية ليست من أعضاء مجلس النواب. وهكذا، حرّك كلام الرفاعي المياه الراكدة، وأيقظ طامحين منبهاً إياهم بضرورة الكف عن الترويج لمفاهيم غير موجودة على خريطة الإصلاح البرلماني التي جاءت في وثيقة التحديث الملكي لمئوية جديدة، تحاكي المستقبل وتغادر الحاضر المشبع بتحديات الثقة والسلبية السائدة - وخصوصاً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.

خروج أقطاب يمهّد لوجوه جديدةمن جهة أخرى، لم يكن من المتوقع من بعض الأقطاب من النواب إعلانهم باكراً العزوف عن الترشح لهذا الموسم الانتخابي. ولكن هذا ما حدث، بعد إعلان المحامي عبد الكريم الدغمي، البرلماني المخضرم الذي لم يغب عن مجالس النواب منذ عام 1989 وحتى اليوم، وترأس المجلس في دورتين متباعدتين، واعتُبر عرَّاب التشريعات. وبعده تبعه النائب خليل عطية الذي قرر العزوف عن خوض الانتخابات التي داوم على حضورها منذ عام 1997، وتلاه أيمن المجالي، ورئيس مجلس النواب الأسبق عبد المنعم العودات، والنائب الاقتصادي خير أبو صعيليك.

وراهناً، تبدو احتمالات عودة نواب حاليين ضعيفة أمام ما ترسخه الأعراف العشائرية في الانتخابات النيابية من عملية (الدور) في الترشح، والقائمة على منح فرص متساوية لأبناء العشائر في التقدم نحو المناصب القيادية. وهذا غالباً ما يحدث في الدوائر الانتخابية البعيدة عن مراكز المدن الرئيسية الثلاث (عمان، وإربد، والزرقاء)، فدوائر الأطراف تُسجل عادة نسباً عالية في المشاركة، ومنافسة ساخنة في بعض المواسم السابقة.

للعلم، تعدّ العشيرة في الأردن حزباً اجتماعياً نافذاً ومتجذراً، ولها في العملية السياسية مساحة فاعلة. وهي عادة ما تمثّل درجة الحسم في كثير من مستويات المشاركة السياسية، وتعتبر من أهم روافع الأمن والاستقرار، نتيجة الاستجابة للمصلحة العامة، من دون أن تقايض بمواقفها في الملفات المهمة. بيد أن ما ذهبت إليه فكرة «الدائرة العامة المخصصة للأحزاب»، وبحصة متصاعدة في ثلاثة مواسم انتخابية، أسهم في كسر الحدود الإدارية بين الدوائر الانتخابية، وصولاً إلى فكرة الدائرة الوطنية الواحدة، التي قد تساهم في تجاوز التمثيل الأضيق على حساب التمثيل الأوسع... وهكذا، يذهب الناخب لاختيار من يمثّله على اتساع الرقعة الجغرافية الكاملة للمملكة؛ ما يساهم في صهر المجتمع، وتجاوز الفوارق التنموية والديموغرافية.

وللتذكير، تُجرى الانتخابات النيابية المقبلة وفق قانون انتخاب جديد أدخل حزمة من الإجراءات الجديدة، على رأسها إنشاء دائرة عامة على مستوى الوطن بـ41 مقعداً مخصصة للأحزاب، و18 دائرة محلية لها 97 مقعداً. ونص القانون أيضاً على «درجة الحسم» (العتبة) شرطاً للتنافس على المقاعد الحزبية بنسبة 2.5 في المائة والمحلية بنسبة 7 في المائة، في حين جاء القانون بفرص زيادة تمثيل المرأة بواقع تخصيص مقعد امرأة لكل دائرة انتخابية، ومقعدين من أول ستة مترشحين في القائمة الحزبية، مع حرية اختيار مسار «التنافس الحصصي» أو «الكوتا». وهي الفرص ذاتها التي مُنحت للشركس والمسيحيين، مع ضمان تمثيل الحد الأدنى لهم ضمن «كوتات» لعضوية المجلس المقبل.

عبدالكريم الدغمي

 

لمحة تاريخية عن المجالس النيابية الأردنية خلال 35 سنة

> دخل الأردن مرحلة التحوّل الديمقراطي عام 1989، بعد أحداث ما عرف بـ«هبّة نيسان» (أبريل)، ولم تنقطع الحياة البرلمانية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، فأجريت الانتخابات في السنوات 1989 و1993 و1997. وفي مطلع الألفية الجديدة تعطل البرلمان لمدة سنتين بسبب تداعيات «الانتفاضة (الفلسطينية) الثانية»، وما رافقها من تداعيات على الساحة المحلية، وأجريت الانتخابات في عام 2003 بعد ثلاثة أشهر من احتلال بغداد، وعاش ذلك المجلس لمدة أطول من مدته الدستورية. في نهاية عام 2007 أجريت الانتخابات الشهيرة في الأردن، التي شهدت عمليات تزوير اعترف بها الرسميون، وأغضبت العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ليدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة عام 2010. لكن هذه أيضاً شهدت تدخلات رسمية، ساهمت في فقدان الثقة بالعملية الديمقراطية أردنياً. وعلى الأثر، حل البرلمان وتعطلت الحياة البرلمانية لمدة سنة. وكانت جميع تلك الانتخابات قد أجريت وفق أحكام قانون الصوت الواحد الذائع الصيت الذي انتقدته تيارات سياسية عريضة في البلاد. بعد «الربيع الأردني» دُعي إلى انتخابات نيابية بعد إنشاء هيئة مستقلة للانتخاب، وأجريت الانتخابات في مطلع عام 2013. ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع الحياة النيابية ولم يحدث فراغ تشريعي، بعدما أكملت المجالس مدتها الدستورية بواقع أربع سنوات شمسية؛ إذ يُحّل المجلس قبلها بأربعة أشهر لإجراء الانتخابات بموعدها.