معارك اليسار الفرنسي على طريق الحكم

قراءة حول أداء مرشحيه إبان عهد «الجمهورية الخامسة»

فرنسوا ميتران
فرنسوا ميتران
TT

معارك اليسار الفرنسي على طريق الحكم

فرنسوا ميتران
فرنسوا ميتران

* تعرف الحقبة السياسية الحالية بـ«الجمهورية الفرنسية الخامسة»، وارتبط تأسيسها بشخصية الجنرال شارل ديغول «منقذ» فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. أما أول انتخابات رئاسية عرفتها فأجريت يوم 21 ديسمبر (كانون الأول) 1958 فكانت الانتخابات التي تنظم على أساس نظام «المجمع الانتخابي»، حيث يشكل أعضاء المجالس التمثيلية بدءاً بأعضاء المجالس البلدية والعمد، وانتهاء بالبرلمان الهيئة الناخبة. ولكي يفوز المرشح عليه الحصول على 50 في المائة أو أكثر من الأصوات. غير أن هذا النظام ألغي بعد استفتاء نظم عام 1962، واستعيض عنه بالاقتراع المباشر في انتخابات عام 1965.
في الانتخابات الأولى عام 1958 خاض اليسار الفرنسي المعركة ضد الجنرال ديغول بالمرشح الشيوعي جورج ماران، لكن ديغول فاز بغالبية ساحقة بلغت 78.51 في المائة من أصوات «المجمع»، مقابل أقل بقليل من 13 في المائة لماران، وحاز مرشح ثالث هو ألبير شاتليه على النسبة الباقية.

انتخابات 1965
في الانتخابات الثانية عام 1965 مثّل اليسار المرشح الاشتراكي (الرئيس لاحقاً) فرنسوا ميتران، الذي حصل في الدورة الأولى على 32 في المائة من الأصوات، متخلفاً عن الرئيس الجنرال شارل ديغول - المرشح الأبرز لليمين والوسط - الذي حصل على 45 في المائة، وبالتالي اضطر إلى خوض جولة إعادة ضد ميتران. وفي الجولة الثانية الحاسمة فاز ديغول 55 مقابل 45 في المائة لميتران، ليبدأ فترة رئاسية جديدة. وللعلم، ترشح في الجولة الأولى مرشح يساري ثان هو مارسيل باربو، لكنه لم يحصل سوى على 1.15 في المائة من الأصوات.

انتخابات 1969:
أجريت هذه الانتخابات مبكرة عن موعدها الأصلي إثر استقالة ديغول (78 سنة)، في أعقاب خسارته استفتاءً شعبياً لإجراء تعديلات تتصل بمجلس الشيوخ والإدارات المحلية. ولقد خاض اليسار هذه الانتخابات منقسماً ومتشرذماً خلف مرشحين ماركسيين واشتراكيين عدة، أبرزهم القيادي الشيوعي العتيق جاك دوكلو، وعمدة مدينة مرسيليا الاشتراكي غاستون دوفير (صار وزيراً فيما بعد)، وزعيم الحزب الاشتراكي الموحّد ميشال روكار (صار رئيساً للوزراء فيما بعد)، ومعهم الاشتراكي الراديكالي لوي دوكاتيل، واليساري التروتسكي آلان كريفين.
وبسبب تشرذم اليسار عجز مرشحوه عن بلوغ الجولة الثانية التي حسمها المرشح الديغولي ورئيس الوزراء يومذاك جورج بومبيدو لمصلحته، متغلباً على المرشح الوسطي آلان بوهير، رئيس مجلس الشيوخ ورئيس الجمهورية بالوكالة (بحكم رئاسته مجلس الشيوخ) في حينه، بـ58.2 في المائة مقابل 41.8 في المائة. ولقد تصدّر دوكلو مرشحي اليسار في الجولة بحصوله في الجولة الأولى على 21.27 في المائة، محتلاً المرتبة الثالثة خلف بوهير بفارق بسيط (أكثر بقليل من 2 في المائة).

انتخابات 1974:
أجريت بعد وفاة الرئيس جورج بومبيدو إبان شغله منصب الرئاسة. وهذه المرة كان اليسار أقل انقساماً من قوى اليمين والوسط، وبرز فرنسوا ميتران بعد إعادته توحيد صفوف الاشتراكيين وتنظيمهم الحزبي وسحبه إليه نسبة كبيرة من القاعدة الشعبية للشيوعيين. وفي المقابل، انقسم اليمين والوسط بين مرشحين قويين هما المرشح الديغولي جاك شابان دلماس رئيس الوزراء السابق (ورئيس مجلس النواب لاحقاً) وعُمدة مدينة بوردو (بين1947 و1995) ووزير المالية فاليري جيسكار ديستان زعيم تيار الوسط الجمهوري المستقل (يمين الوسط).
وأخفق شابان دلماس، تحت وقع بعض الفضائح التي أثارتها الصحافة الشعبية، في التقدم من الجولة الأولى إلى الثانية؛ إذ احتل المرتبة الثالثة خلف المتصدر ميتران (43.25 في المائة) وجيسكار ديستان (32.6 في المائة)، ولم يحصل إلا على 15.1 في المائة من الأصوات. وكان بين أبرز مرشحي اليسار الآخرين، بجانب ميتران، كل من البيئي رينيه دومون واليسارية المتشددة آرليت لاغييه والتروتسكي آلان كريفين. وفي المقابل، شهدت هذه المعركة إطلالة مرشح جان ماري لوبان اليمين المتطرّف الذي حصل على أقل من 1 في المائة من الأصوات.
ولكن في الجولة الثانية، عادت قوى اليمين والوسط، هذه المرة، فاصطفت كلها خلف جيسكار ديستان ليفوز على ميتران بفارق بسيط (50.8 في المائة مقابل 49.2 في المائة) ويدخل قصر الإليزيه.

انتخابات 1981
شهدت هذه الانتخابات تطوّراً مفصلياً في الحياة السياسية المعاصرة لفرنسا في عهد «الجمهورية الخامسة»؛ إذ أصبح فرنسوا ميتران، زعيم الاشتراكيين واليسار الفعلي، أول رئيس يساري للجمهورية.
المثير في الأمر أن ميتران احتل المرتبة الثانية في الجولة الأولى خلف الرئيس جيسكار ديستان (25.85 في المائة مقابل 28.32 في المائة)، وجاء ثالثاً المرشح الديغولي جاك شيراك، عمدة باريس ورئيس الجمهورية لاحقاً. ولقد جمع شيراك يومها نسبة 18 في المائة، في حين حصل جورج مارشيه، أمين عام الحزب الشيوعي – كان يومذاك ثاني أكبر الأحزاب الشيوعية في أوروبا بعد الحزب الشيوعي الإيطالي – على 15.35 في المائة من الأصوات. وكان أبرز مرشحي اليسار الآخرين في هذه الانتخابات المرشح البيئي بريس لالوند، واليسارية المتشددة آرليت لاغييه، ومرشح الراديكاليين الاشتراكيين ميشال كروبو.
ومن ثم، تقدم جيسكار ديستان وميتران إلى الجولة الثانية الحاسمة، ولكن هذه المرة حقق ميتران فوزه التاريخي بـ51.76 في المائة مقابل 48.24 في المائة لجيسكار.

انتخابات 1988
جدّد فرنسوا ميتران في هذه الانتخابات، مرشحاً عن اليسار، انتصاره واحتفظ بالرئاسة لفترة ثانية. وتحقق للرئيس الاشتراكي ذلك على الرغم من الانقسامات المعهودة في المعسكر اليساري، ذلك أنه بجانب ميتران رشحت القوى والحركات اليسارية عدداً من المرشحين أبرزهم: آندريه لاجوانيي (الحزب الشيوعي) وأنطوان ويشتير (حزب الخضر البيئي) وبيار جوكان (الحزب الاشتراكي الموحّد والرابطة الشيوعية الثورية) وآرليت لاغييه (حزب الشغيلة). ومع هذا تصدّر ميتران الجولة بفارق مريح وتقدّم إلى الجولة الحاسمة جامعاً 34.1 في المائة من الأصوات.
أما في معسكر اليمين والوسط، فتولّى جاك شيراك (رئيس الوزراء بين 1986 و1988) قيادة الديغوليين، واحتل بدعمهم المرتبة الثانية حاصلاً على 19.94 في المائة، متقدماً بذلك على ريمون بار، مرشح الوسطيين - أنصار جيسكار ديستان - (رئيس الوزراء بين 1976 و1981. ووزير الاقتصاد والمالية سابقاً) الذي حصل على 16.55 في المائة. غير أن المؤشر الخطير حقاً الذي حملته هذه الانتخابات كان التصاعد الكبير والمقلق لأصوات اليمين المتطرف؛ إذ حصل جان ماري ماري لوبان هذه المرة على نحو 14.4 في المائة من الأصوات (مقابل أقل من 1 في المائة في الانتخابات السابقة).
وفي الجولة الحاسمة تغلّب ميتران على شيراك بنحو 54 في المائة مقابل نحو 46 في المائة من الأصوات.

انتخابات 1995
في هذه الانتخابات انقسم اليسار، وكذلك اليمين، في الجولة الأولى. إذ مثّل الاشتراكيين ليونيل جوسبان، وزير التربية والرياضة السابق وأمين أول الحزب الاشتراكي (تولى رئاسة الوزراء لاحقاً)، بينما سار الشيوعيون خلف مرشحهم روبير أو، وخاضت المعركة أيضا شراذم يسارية وبيئية أخرى. وفي المقابل، كان المرشحون الأبرز لليمين المرشح الديغولي جاك شيراك ومنافسه إدوار بالادور (رئيس الوزراء بين 1993 و1995) المتمتع بدعم يمين الوسط، وجان ماري لوبان زعيم «الجبهة الوطنية» عن اليمين المتطرف.
ومع أن جوسبان تصدّر المتنافسين في الجولة الأولى بـ23.3 في المائة مقابل 20.84 في المائة لشيراك و18.58 في المائة لبالادور 15 في المائة للوبان، فإن الجولة الثانية الحاسمة أسفرت عن فوز شيراك بـ52.64 في المائة مقابل 47.36 في المائة. وبالتالي، استعاد اليمين الرئاسة.
هذه الانتخابات شهدت عملياً تراجعاً دراماتيكياً في شعبية الشيوعيين؛ إذ عجز مرشحهم روبير أو عن جمع ما هو أكثر من 8.64 في المائة فقط. في حين حصلت اليسارية المتشددة آرليت لاغييه على أكثر من 5 في المائة، والمرشحة البيئية دومينيك فوانييه على أكثر من 3.3 في المائة.

انتخابات 2002
في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأولى التي يشهدها القرن الـ21، كان انهيار اليسار شبه كامل. إذ عجز عن توصيل أي من مرشحيه إلى الجولة الثانية الحاسمة، في حين أكد عنصريو اليمين المتطرف حضورهم. إذ احتل مرشحهم جان ماري لوبان المرتبة الثانية في الجولة، متخلفاً بفارق بسيط نسبياً عن رئيس الجمهورية (16.86 في المائة مقابل 19.88 في المائة لشيراك)، بينما جاء أبرز مرشحي اليسار ليونيل جوسبان (رئيس الوزراء بين 1997 و2002) ثالثاً بفارق ضئيل خلف لوبان؛ إذ جمع 16.18 في المائة من الأصوات.
وفي حين جاء الوسطي فرنسوا بايرو (وزير التربية السابق) رابعاً، حصل عدد من مرشحي اليسار عن بلوغ حاجز الـ6 في المائة، أبرزهم أرليت لاغييه، والوزير الاشتراكي اليساري السابق جان بيار شوفنمان، والمرشح البيئي نويل مامير، والشيوعي الثوري الشاب أوليفييه بيزانسونو. أما المرشح الشيوعي روبير أو ففشل حتى في الحصول على نسبة 4 في المائة.
وفي ضوء نتائج الأولى الكارثية لليسار، وبالأخص للحزب الشيوعي، اصطف اليساريون خلف شيراك لمنع فوز لوبان. وهذا ما حصل؛ إذ فاز شيراك بغالبية كاسحة بلغت أكثر من 82 في المائة من الأصوات، بينما أخفق لوبان في بلوغ الـ18 في المائة.

انتخابات 2007
خاض انتخابات 2007 عن اليسار الوزيرة السابقة سيغولين رويال لتغدو أول امرأة تترشح لرئاسة الجمهورية عن حزب سلطة كبير، ومعها مجموعة من المرشحين اليساريين الآخرين، أبرزهم ماري جورج بوفيه، الأمينة العامة للحزب الشيوعي، وهي أيضاً وزيرة سابقة، والشيوعي الثوري أوليفييه بيزانسونو وآرليت لاغييه وجوسيه بوفيه الناشط ضد العولمة. أما في معسكر اليمين، فكان المرشح الأبرز نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية ووزير المالية السابق، ومعه زعيم «الجبهة الوطنية» جان ماري لوبان عن اليمين المتطرف والمرشح اليميني المناوئ للتكامل الأوروبي فيليب دو فيلييه. وفي الوسط كان هناك الوزير السابق فرنسوا بايرو.
وتصدر ساركوزي تلته رويال الترتيب في الجولة الأولى بـ31.18 في المائة و25.87 في المائة على التوالي، فتقدما إلى الجولة الثانية، التي أسفرت عن فوز ساركوزي جامعاً أكثر بقليل من 53 في المائة من الأصوات مقابل نحو 47 في المائة لرويال.

انتخابات عام 2012
في هذه الانتخابات نهض اليسار من غفوته الطويلة واستعاد الحكم، لأول مرة بعد نهاية فترة فرنسوا ميتران الثانية عام 1995. ولقد تصدر القيادي الاشتراكي فرنسوا هولاند المرشحين المتنافسين في جولة الاقتراع متقدماً على الرئيس نيكولا ساركوزي جامعاً 28.63 في المائة من الأصوات مقابل 27.18 لساركوزي. وكان أبرز مرشحي اليسار الآخرين في هذه الجولة جان لوك ميلونشون الذي جاء رابعاً خلف مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف – التي كانت قد أزاحت أباها جان ماري – عن زعامة «الجبهة الوطنية»؛ إذ حصلت لوبان يومذاك على 17.90 في المائة من الأصوات وميلونشون على 11.10 في المائة. وكان هناك من اليساريين البيئية إيفا جولي وفيليب بوتو المناهض للرأسمالية وناتالي أرتو من اليسار التروتسكي المتشدد.
وفي الجولة الثانية الحاسمة فاز هولاند بالرئاسة لحصوله على 51.64 في المائة مقابل 48.36 في المائة لساركوزي.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.