منزل فريدا كاهلو يخبئ في ثناياه وجع وإبداع فنانة

بلوحاتها الفنية نجحت في حفر اسمها بسجل الخلود الإنساني

لقطات من منزل فريدا كاهلو - فريدا كاهلو (غيتي)
لقطات من منزل فريدا كاهلو - فريدا كاهلو (غيتي)
TT

منزل فريدا كاهلو يخبئ في ثناياه وجع وإبداع فنانة

لقطات من منزل فريدا كاهلو - فريدا كاهلو (غيتي)
لقطات من منزل فريدا كاهلو - فريدا كاهلو (غيتي)

يطغى اللون الأزرق على جدران منزل فريدا كاهلو في المكسيك، حتى بات يعرف باسم «البيت الأزرق». يقع هذا المنزل الملون في ضاحية كايوويكان بمدينة مكسيكو سيتي، حيث ولدت فريدا وعاشت وتوفيت.
تعتبر فريدا واحدة من أشهر فنانات أميركا اللاتينية وأكثرهن تأثيراً وإبداعاً. في عام 1958، اقترح زوجها دييغو ريفيرا، وهو أيضا من أشهر وأكبر رسامي المكسيك، تحويل منزلها إلى متحف.
«البيت الأزرق»، حيث عاشت وزوجها دييغو، شاهد على قصة الحب التي جمعت بينهما وعلى الثقافة المكسيكية بوجه عام، الأمر الذي يفسر ما يزدان به من ألوان براقة ورموز وطنية، ومجموعة متنوعة من النباتات والأزهار التي يمكن رؤيتها بمختلف أرجاء المكسيك. واللافت أن المنزل يحتفظ بجميع العناصر الأصلية الخاصة به تماما كما تركها وراءهما أصحابه.
حتى يومنا هذا، لا يزال يُنظر إلى فريدا كأيقونة مكسيكية، فمجموعة أعمالها الساحرة تتميز بصدقها وألوانها الأخاذة التي لاقت تقديرا من مختلف أرجاء العالم. وقد نجحت فريدا في حفر اسمها في سجل الخلود الإنساني بلوحاتها الفنية، خصوصا أعمال «البورتريه» منها، بجانب أعمال أخرى اضطلعت هي ذاتها بدور البطولة فيها. بلغ مجمل لوحات فريدا قرابة 150 لوحة.
تحدّثت هيلدا تروجيلو، مديرة المتحف، عن فريدا قائلة: «لم تكن فريدا تتعامل مع نفسها في حياتها بصفتها فنانة، وإنما حرصت على رسم ما تشعر به وحسب، الأمر الذي يضفي على أعمالها شعورا قويا بالصدق. جسدت في صورها، الألم والمعاناة. وهي التي خضعت في مشوار حياتها لأكثر من 30 عملية جراحية، لتبدو أمامنا أثناء عملها بمثل هذا الوجه الصلب، لكن إذا أمعنا النظر في صورها الفوتوغرافية سنجد أنّها كانت امرأة جذابة».
البقاء على قيد الحياة، هي الفكرة الرئيسية التي شكلّت لب حياة فريدا. فعندما كانت طفلة، شخص الأطباء إصابتها بشلل الأطفال. ثمّ نجت بأعجوبة من حادث انقلاب حافلة بعد خروجها من المدرسة، عندما كانت في 18 من عمرها. وبسبب هذا الحادث بقيت عاجزة عن الوقوف لمدة عام تقريباً، لتعرض عمودها الفقري ومنطقة الحوض والكتفين والظهر والقدمين لإصابات بالغة. خلال فترة النقاهة، بدأت فريدا الرسم. وثُبّتت في فراشها مرآة أمامها لإعانتها على الرسم.
على الرغم من بتر قدمها والصعوبات التي واجهتها في السير، فإنّها كانت أقوى من جميع المصاعب التي لم تُثنها يوما عن تقديم العدد الكبير من الأعمال الفنية.
لدى دخول متحف فريدا يدرك الزائر جوهر أعمالها وحقيقة آلامها. ففي هذا المتحف، يظهر تطور مرضها الذي ينعكس جليا على أعمالها، إلى جانب ألمها العميق لعجزها عن تحقيق حلم الأمومة.
«شكلت القدرة على الابتكار لدى فريدا السمة المميزة لأعمالها»، حسب ما أوضحت مديرة المتحف الخاص بها، التي أضافت أنّ «اسم فريدا يجسّد امرأة لم تسمح للحياة أن تهزمها، بل على العكس نجحت في تطويع الألم وتحويله إلى فن».
ومن بين السمات الأخرى المميزة لـ«المنزل الأزرق»، أن الجزء الداخلي والأثاث، خصوصا المطبخ، يسيطر عليها اللون الأصفر، مع استخدام آنية خزفية كقطع ديكور. كما أن غرفة الطعام، الصفراء أيضاً، ضمّت بين جنباتها ذات يوم، بعض أكثر فناني العالم نفوذا وعددا من أبرز الشخصيات المكسيكية.
والجدير ذكره أنّ فريدا كانت صديقة لبابلو بيكاسو، الذي يعتبر بدوره من أعظم الرسامين الإسبان.
في هذا المنزل، يمكن معاينة مجموعات مؤقتة وأخرى دائمة، تضم كامل أعمال فريدا، إضافة إلى بعض لوحات دييغو ريفيرا. كما يضم المنزل عناصر أخرى مثيرة للاهتمام، على رأسها الاستوديو الذي كانت ترسم فيه فريدا ويطل على حديقة غنّاء، وفرشاتها والعقاقير التي كانت تتناولها، والكرسي المتحرك الذي كانت تجلس عليه.
بالقرب من الاستوديو، توجد غرفتا نوم، واحدة للاستخدام نهارا والأخرى ليلاً. وفوق الفراش في كلتا الغرفتين تتمركز مرآة بالأعلى، تعدّ الأداة المهمة في الإنتاج الفني لفريدا، لأنّها ساعدتها على رسم نفسها. هنا، يستشعر الزائر بعضا من جوهر أعمالها وتلك الهالة من الحزن التي غلّفت حياتها بسبب المرض والألم.
في كل زاوية من زوايا المنزل، ترقد قصة أو سر ما. يذكر أنه في عام 1937 وصل الثائر الشيوعي ليون تروتسكي الذي نُفي من الاتحاد السوفياتي، إلى منزل فريدا وزوجها دييغو، بحثا عن ملاذ آمن له بعيدا عن الاضطهاد السياسي الذي كان يواجهه في عهد جوزيف ستالين، فجرى توسيع الحديقة خصيصا لقدومه.
فيما يعتقد بعض المؤرخين أنّ ثمة علاقة غرامية جمعت بين فريدا والثوري الروسي. وخلال فترة إقامته في «المنزل الأزرق»، تعرض تروتسكي لعملية اغتيال، وعلى الرغم من نجاته فقد اضطر إلى الانتقال وإنهاء الفترة التي قضاها بصحبة فريدا، لكنه لم يبتعد عنها كثيراً، فقد انتقل للعيش في منزل آخر بالحي نفسه. وقد تحول منزله هو الآخر إلى متحف. وحتى الآن، لا تزال آثار الطلقات التي أطلقت عليه خلال بعض الهجمات محفورة في الجدران.
من ناحية أخرى، تضم الحديقة الغناء القائمة بمنزل فريدا عناصر مكسيكية مميزة، بجانب أحجار بركانية تتميز بها البلاد. وفي قلب الفناء يتربع هرم صغير، يعزز الشعور بالفخامة. أما المعرض المؤقت داخل المتحف، فيحمل اسم «المظاهر خادعة»، ويضم الملابس التقليدية الملونة التي تخص فريدا. وقد اكتشفت هذه الملابس المؤلفة من 300 قطعة منذ سنوات قلائل فقط في حمام المنزل! ومن بين الكنوز الأخرى التي يضمها المتحف مجموعة «الفراشة» المهداة من النحات الياباني إيسامو نوغوتشي.
يذكر أن المتحف يستقبل سنويا 600 ألف زائر على الأقل. ولدى زيارة متحف فريدا، يوجد على بعد خطوات قليلة مركز ضاحية كايوويكان الشهير الذي يضم بعض أفضل المطاعم على مستوى المدينة التي تتميز بالأطباق المكسيكية الشهية التي تقدمها، والتي لطالما عشقتها فريدا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)