«العِمّة السودانية»... هوية وزينة وحاجة

أكبرها عمامات ترباس وود الجبل وأصغرها عمامة «الختمية»

التشكيلي راشد دياب
التشكيلي راشد دياب
TT

«العِمّة السودانية»... هوية وزينة وحاجة

التشكيلي راشد دياب
التشكيلي راشد دياب

يلف الرجال السودانيون حول رؤوسهم قطعة قماش بيضاء تتراوح طولاً وقصراً بين 4 إلى 10 أمتار، لتقيهم لفح حر الاستواء، وتزينهم، وتحدد مقاماتهم الاجتماعية وهويتهم الوطنية، وولاءاتهم الدينية. إنها «العِمّة السودانية» غطاء الرأس المكمل للزي القومي السوداني، المكون عادة من «الجلابية، العراقي، السروال الطويل، الملفحة، المركوب، وأحياناً العباءة».
يكون السوداني في أبهى حالات زهوه بنفسه وهو يرتدي زيّه الكامل، الذي يعرف به بين غيره، ويعطيه مقامه الاجتماعي بين أهله وناسه، وتحدد عمامته موقعه الطبقي، بل وتوجهاته الفكرية والدينية بل والجهوية، فكل مجموعة ثقافية سودانية لها شكل لعمامتها وحجمها، ولكل طبقة خاماتها في اختيار العمامة.
وتلعب العمامة – ويختصرونها بالعِمّة – أدواراً كثيرة في حياة الرجل السوداني، فهي من جهة تقي رأسه حر الاستواء اللافح، ويعكس بياضها الناصع حرارة الشمس العمودية على الرؤوس معظم فصول العام، ومن جهة أخرى تملؤه بالزهو الوطني. ففي البلاد العربية يعرف «الزول» بالعمامة «المقنطرة» على رأسه، وهي تكمل زيّه الفضفاض. كما تلعب دوراً في إمكانية استخدامها كغطاء حال الحاجة، إضافة لبعدها الصوفي و«الروحي» فهي كما يقول البعض «كفن» يحمله على رأسه استعداداً للموت الذي قد يفاجئه في أي زمان أو مكان.
ويرى الباحثون في التراث الشعبي أن جذور «العمة السودانية» ترجع إلى كون السودان وريثا لمكونات ثقافية وحضارات أفريقية ونيلية وعربية، أو كما يقول الأستاذ في الجامعة القطرية حاج الدوش المحامي، في ورقة منشورة له: «الحضارة السودانية هي نتاج طبيعي لما يسمي بالعالم القديم، وملتقى للحضارات القديمة وبوابة نحو قارة أفريقيا وآسيا وأوروبا».
ويعد الدوش العمارة والأدوات والأسلحة والطعام والملابس، شكلاً من أشكال التواصل بين الشعوب والحضارات، ويقول: «غالباً ما تتشكل الأزياء الشعبية عبر التاريخ ولفترات طويلة، ينتج من خلالها الزي المميز لشعب ما، ويعتبر الدين والمعتقد من الأمور الجوهرية التي يتشكل منها اللباس».
ويوضح أن العمامة «زي عربي» عرف قبل البعثة النبوية، وهو المكافئ للتيجان عند الروم والفرس، وأن «العمائم هي تيجان العرب»، لكنها تلاشت بمرور الوقت وتبقت منها العمامة «السودانية والعمانية والموريتانية» عربياً، وعمامات رجال الهند وبلاد ما وراء النهر التي تأثرت بانتشار الإسلام.
ويرجح الدوش دخول العمامة إلى السودان إلى مرحلة ما قبل الإسلام بفترات طويلة، عن طريق التواصل التجاري بين بلاد السودان والعرب، لكنها أخذت بعداً دينياً بعد انتشار الإسلام في السودان، والاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ثبت أنه لبس العمامة البيضاء والخضراء والحمراء والسوداء، ولاستحباب تغطيه الرأس عند الصلاة.
وتصنع «العمة السودانية» من أقمشة قطنية بيضاء، ومتوسط طولها 5 أمتار، وقد تقصر عن ذلك وتطول لتصل 10 أمتار. وعادة ما تكون من قماش «التوتال» الإنجليزي أو السويسري الفاخر ناصع البياض، لكنها قد تكون من أقمشة أخرى أرخص حسب المستوى الاجتماعي.
وتلف العمامة حول الرأس بطرق مختلفة، وتعكس كل طريقة الشريحة الاجتماعية والجغرافية والدينية لمرتديها، وتلبس تحتها «طاقية» من الحرير الأحمر كما في أوقات سابقة، لكن بدخول الصناعة «الصينية» مجال الأزياء السودانية، اختفت طواقي الحرير الحمراء التي تشغلها النساء لرجالهن، وكلما كبرت العمامة وتكورت وزاد بياضها فهذا يدل على رغد العيش الذي يعيشه مرتديها.
ويرتدي الحرس الرئاسي السوداني «الجمهوري» زياً عسكرياً، العمة الملفوفة بطريقة خاصة واحدة، من مكوناته، وكانت العمة ضمن الزي المدرسي في المدارس الابتدائية والوسطى، قبل تغيير السلم التعليمي في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري.
وتختلف أنواع العمامات، ينطقونها «العمم»، منها عمم المشهورين والتجار ورجال المجتمع، ومنها السياسي والديني، وتدل خامتها وطولها ودرجة بياضها على المكانة الاجتماعية لمرتديها، ما جعل 4 عمم تأخذ شهرتها في تاريخ العمائم السودانية المعاصر، وأشهرها عمة الرئيس الأسبق جعفر النميري، الذي طبع صورته وهو يرتديها على العملة الوطنية «الجنيه»، وهو ما أدى لإحراقه بعد سقوط حكمه بالثورة الشعبية في أبريل (نيسان) 1985. وعمة المغني الشهير كمال ترباس، ورجل الأعمال الشهير بابكر حامد ود الجبل، والصحافي الإسلامي حسين خوجلي، وخامسة مزركشة ومطرزة هي عمة الفنان التشكيلي الشهير راشد دياب.
ويقول الفنان التشكيلي راشد دياب، إن العمة السودانية نتجت عن هجين أزيائي بين العمامة العربية، وتيجان ملوك النوبة في الحضارات القديمة، والعمة «أم قرينات» في عهد ملوك الفونج، وأغطية الرأس المصنوعة من جلود الحيوانات عن قبائل الرّحل قديماً.
ويوضح دياب في حديثة لـ«الشرق الأوسط»، أن السودانيين يرتدونها لأبعادها الجمالية والسلطوية، ولأسباب وظيفية تتمثل في الحفاظ على رطوبة الرأس من شمس السودان الحارقة، وأحياناً دليلاً على الاختلاف والتميز. ويضيف: «لكن العمة بشكلها الحالي لم تأخذ مكانها زيّاً وطنياً إلا بعد أن نهضت المدن، وانتعش الرأسمال». ويتابع: «صار حجمها يدل على مكانة مرتديها، فكلما كبُرت كبرت المكانة الاجتماعية لمن يلبسها، وكأن رأسه يكبر بكبر عمته، لذلك عندما يلبس أحدهم عمة حائلة اللون فيعني هذا أنه من الشرائح الضعيفة».
وبحسب دياب، فإن الفنانين والمشاهير يستغرقون وقتاً طويلاً في لف العمة، قد يتجاوز ربع ساعة، وبعضهم يتركها ملفوفة عند مدخل الدار ليضعها على رأسه متى خرج، يقول: «أعتز بالزي السوداني، خاصة الذي أصممه بنفسي، وهو لم يتغير كثيرا منذ عهد دولة الفونج، ومنذ كنت صغيراً كانت تغريني الثياب الناصعة بشخبطتها بالقلم حيث تشبه السبورات البيضاء. وحين كبرت اشتغلت على زخرفتها؛ لأن الأبيض الكثير بالنسبة لي مزعج، لكن الناس كانوا يرون أني قد شوهت البياض».
ويحتفظ كل من الطائفتين الدينيتين الكبيرتين في السودان «الأنصار والختمية» بشكل خاص للعمة التي يرتديها، من حيث الطول وطريقة الارتداء. فطائفة الأنصار ترتدي عمة قصيرة مشدودة على الرأس ومثلثية الشكل حول الجبين، ويتدلى خلفها جزء من القماش يعرف باسم «العزبة»، ودرج زعيم الأنصار الصادق المهدي وأنجاله على ارتدائها بهذا الشكل.
أما تلك التي يرتديها زعيم طائفة الختمية محمد عثمان الميرغني وأهل طائفته، فهي تلبس بطريقة دائرية عن الوجه، وهي قصيرة جداً ومشدودة ولا تتدلى منها «عزبة» كما هي الحال في عمة الأنصار. ويختلف الناس في طريقة لف العمة، فهي تبدأ من اليمين لليسار عند البعض والعكس عند الآخرين، وتكون منسدلة أو مبرومة أو مكورة مثلثية أو دائرية عند البعض، فيما يكتفي البعض بوضع قماش العمة حول كتفيه. وتلبس في المناسبات الاجتماعية مثل الزواج ومجالس العزاء وجلسات الصلح القبلي «الجودية» وفي الأعياد والمناسبات الوطنية، بل وحتى في المناسبات البروتوكولية، فرؤساء السودان صاروا يحرصون على ارتداء الزي القومي السوداني، والعمة واحدة من مكوناته في مشاركاتهم الخارجية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».