رواية من زمن «الجمر» المغربي

«ظل الغريب» لأحمد المديني

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

رواية من زمن «الجمر» المغربي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

بعد «ممر الصفصاف»، التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر، في دورة 2015، يغامر أحمد المديني، في رواية جديدة مشوقة، خارج الحدود، في أفق مغاربي وعربي فسيح، هو التاريخ والوجدان المشترك للشعبين المغربي والجزائري، حيث يضع الكاتب قارئ «ظل الغريب»، التي صدرت حديثاً عن المركز الثقافي العربي، في قالب سردي، في سياق جغرافي وتاريخي معقد، يعود به إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بشكل خاص، فاتحاً أمامه حدوداً، هي، اليوم، مغلقة، تفصل بلدين جارين وشعبين شقيقين، باعدت بينهما أوهام الحرب الباردة وحسابات السياسيين.
ونقرأ على ظهر غلاف الرواية، على لسان كاتبها: «خبَرتُ هذه القصة منذ سبعينات فاتت، في زمن الجمر المغربي. رواها لي بطلُها علي بن زروال نُتَفاً، ونسيتُها، لأعود إلى جمعها جمعَ الأشلاء، لتستوي سرداً هو حاضرُ ماضٍ ما زال جاثماً، ولألبس جلدَ بطلها، وتسكنُني روحُه، فأكون هو، وهو حتماً ليس أنا». كما نقرأ، على ظهر الغلاف نفسه: «بما أنه لا رواية إلّا وهي انتقالٌ في الكائن والمكان والزمن، وبحثٌ عن مصير أفضل غالباً مستحيل، كذلك مسارُ بن زروال، غادر وطنه المغرب في فترة محتقنة إلى الجزائر، ليعيش، مع رفاقٍ وأضدادٍ، حاملاً غربة ستصير غربتين، بين حياتين، وسيشبك تاريخين، يصطليان في لهيب جيل كان همُّه أن يعيش، وينعم بالحرية والكرامة، وفسحة الأمل. في رواية الهجرة هذه، الوجوه تتعدّد، والحكايات تُسرَد وتتناسل، والأحداث كثيفة وتتكاتف، والخطابات غضب وولَهٌ وشجن، ومُقام ورحلة بن زروال تتشعّب إلى مسارات، وبجواره تتمدد مِروحة شخصيات. كم هي واقعية، حقيقية، وأخرى من وحي الخيال».
يستعيد القارئ، من خلال عنوان الرواية شعراً لمحمود درويش، في قصيدته «أغنيات إلى الوطن»، من ديوانه «آخر الليل»، يقول فيه: «ظلُّ الغريب على الغريب عباءة - تحميه من لسع الأسى التيّاهِ»؛ قبل أن تضعه الرواية في سياق تاريخي وجغرافي يحرك أحداثها الكاتب، بإشارة إلى أصل تسمية «جوج بغال»، التي «تطلق على نقطة المعبر الحدودي بين المغرب (شرقاً) والجزائر (غرباً)»، والتي «تبعد عن مدينة وجدة المغربية باثني عشر كيلومتراً، وعن مدينة مغنية الجزائرية بعشرين كلم».
ومع التقدم في قراءة الرواية؛ لا يمكن للقارئ إلا أن يستعيد دعوة مكتوبة على ظهر الغلاف، تخاطب قارئ الرواية، بالقول: «أيها القارئ اللبيب، أراهن أنك سترى وتسمع وتحيا العجيب في قصة هذا الغريب، ووعدَ الحق، كلا، لن تخيب».
يمكن القول، إن «ظل الغريب»، هي، فعلاً، رواية مشوقة، بل ممتعة ومفيدة. مشوقة بأحداثها، ممتعة بطريقة سردها، ومفيدة بما تسترجعه من أسماء وأحداث طبعت التاريخ المعاصر للمغرب والجزائر، على حد سواء.
يتوسل المديني، في روايته، بسخرية، تختصر جملة من المفارقات التي تأتي في سياق سرد ينقل القارئ من موقف إلى آخر، كما يوفر له فرصة التنقل بسلاسة بين المغرب والجزائر، في زمن يتواصل فيه إغلاق الحدود بين البلدين، ليجد نفسه بين فصل وآخر وصفحة وأخرى، إما في الدار البيضاء، يشارك أبطالها نقاشاتهم في مقهى، أو منشغلاً معهم بأحداث مغرب بداية السبعينيات؛ أو متجولاً بين شوارع ومدن الجزائر، إما راجلاً أو راكباً، فإذا الدار البيضاء مدينة بطحاء عموماً، وإن تخللتها منحدرات، فيما ينقل خطوه في الجزائر بتؤدة، وهو يعطي ظهره إلى البحر.
يتعرف القارئ، في رواية المديني، على عدد من الأسماء التي طبعت تاريخ المغرب والجزائر، على مدى العقود الماضية؛ بداية من محمد الخامس والحسن الثاني وهواري بومدين وأحمد بن بلة، وصولاً إلى محمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد باهي حرمة ومحمد الفقيه البصري وبنسعيد آيت يدر وسعيد بونعيلات، وغيرهم.
يوظف الروائي أسلوباً يعتمد الوصف والسخرية والمفارقة في استعراضه لهذه الأسماء والأحداث، من دون أن يكون الاعتماد مجانياً أو زائداً عن حاجة السرد، بل يقتضيه السياق ويستوجبه. وهكذا، لا يجد القارئ إلا أن يتفاعل، مثلاً، مع سلسلة من الورطات التي يجد البطل نفسه يعيشها منذ وصوله إلى الجزائر، خاصة نومه في ضيافة الشرطة، بعد أن تعذر عليه إيجاد فندق، فكان مخفر الشرطة «آخر ملاذ لعل المداومين هنا سيرشدونني، سيجدون لي حلاً، ومن غير الشرطة صاحب حل وعقد في بلداننا»، كما نقرأ على لسان البطل. وكذلك كان، حيث أشفق رجال الشرطة لحال صاحبنا فتركوه يبيت في ضيافتهم، غير أنه سيجد نفسه، لما طلع النهار، في ورطة غير محسوبة، بعد أن جاء مداوم جديد اعتبره معتقلاً.
كما يستوقفنا البورتريه، الذي رسمته الشخصية الرئيسية لشرطي الحدود: «ملامحه متغضنة هذا الموظف، وهي فرصة لينفث فيك إحباطه كاملاً، راتبه الزهيد، ساعات عمله الطويلة، استخفاف مسؤوليه به».
يمكن القول، إن المديني توفق، إلى حد بعيد، في تضمين جملة من الأحداث التي طبعت التاريخ المعاصر للمغرب والجزائر، وفي رسمه لعدد من البورتريهات لعدد من رموز الحركة الوطنية وحرب التحرير والسياسة، في المغرب والجزائر، حيث نقرأ له عن محمد الخامس، مثلاً: «انخرط في شارع لم أسع لمعرفة اسمه، تبينته بعد خطوات (شارع محمد الخامس)، رمز استقلال المغرب، لم أكن أنتظر أن أجده هنا، أيضاً، فجميع الشوارع الرئيسية في جميع مدن المغرب تحمل اسمه. هو رحل، واسمه باقٍ هناك وهنا، أيضاً، فجأة انبثق ما لم أتوقعه، كيف فاتني أن أنتبه لهذا، هم يحبون محمد الخامس، الذي دعم الثورة والشعب الجزائري، كما فعل المغاربة جميعاً، وهذا الشارع تكريم له، وهو في قلب العاصمة، خصصوه له وليس لواحد من مئات شهدائهم»؛ أو عن هواري بومدين: «كانت صورة بومدين مشخصة في بورتريه ضخم يملأ ثلاثة أرباع الصفحة، عيناه ساهمتان إلى بعيد، يرتدي بذلة سوداء، وعلى كتفيه انسدل برنوس أسود، صرت أراه به في كل الصور والمناسبات، ولم أعد أتخيله من دونه، من شدة تركيزي عليه امتلأت عيناي به، نقلني إلى صورة لجدي من أمي معلقة في صدر الصالة ببيتنا بالدار البيضاء».
على مدى فصول الرواية العشرة، ينتبه القارئ إلى الطريقة التي استعاد بها السارد علاقته مع عدد من رموز الحركة السياسية والفكرية والثقافية في المغرب أو الجزائر، من قبيل محمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد باهي؛ كما نكون معه وهو يعود بنا إلى أحداث 23 مارس (آذار) 1965 بالمغرب، أو «حرب الرمال» بين المغرب والجزائر، حيث نقرأ: «هبت في وجهي عاصمة رملية، تخيلتها قادمة من تلك المنطقة، وبالذات من بقايا ما سمي بـ«حرب الرمال»، تلك الحرب المؤسفة التي نشبت بين المغرب والجزائر ابتداء من 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1963، ونشبت في حاسي بيضا وتجندوب، من أجل استرجاع مدينة تندوف، اعتبر المغرب أن له حقوقاً تاريخية فيها، وضمها الفرنسيون إلى الجزائر في خريطتهم الاستعمارية، وتعهدت جبهة التحرير بردها إلى المغرب بعد الاستقلال فتنكر أحمد بلة لذلك. قامت تلك الحرب التي تواجه فيها الجيشان الجزائري والمغربي، ثم انسحبت القوات المغربية من تندوف ومنطقة المواجهة بعد تدخلات أفريقية ودولية، لكن بحجم ضحايا وعداوة استحكمت بين شعبين، وحسرة بن بلة المعلنة ضد المغاربة وأي حسرة: «حقرونا، حقرونا!».
يشار إلى أن المديني، بدأ رحلة الكتابة والنشر منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، وتتراوح نتاجاته بين القصة والشعر والرواية وأدب الرحلة، فضلاً عن النقد والبحث الأكاديمي، حيث صدر له أكثر من 60 عملاً، بينها «حكاية وهم» و«مدينة براقش» و«الهباء المنثور» و«المخدوعون» و«طعم الكرز» و«طرز الغرزة» و«نصيبي من باريس» و«خرائط تمشي في رأسي» و«كتاب الضفاف» و«برد المسافات» و«بقايا غياب» و«الأدب المغربي المعاصر» و«وهج الأسئلة»؛ كما صدرت له الأعمال الكاملة، عن وزارة الثقافة بالمغرب، سنة 2015. وقد فاز بعدد من الجوائز المهمة، بينها جائزة المغرب الكبرى للكتاب في فرع النقد والدراسات الأدبية للعام 2006، وفي فرع السرديات لعام 2009.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.