شاعران عراقيان يعيدان قصيدة الحرب إلى الواجهة

«ميليشيا الثقافة» موجة أدبية انطلقت من مدينة بابل التاريخية

أحمد ضياء في قراءة له - وسام علي يرتدي الخوذة العسكرية
أحمد ضياء في قراءة له - وسام علي يرتدي الخوذة العسكرية
TT

شاعران عراقيان يعيدان قصيدة الحرب إلى الواجهة

أحمد ضياء في قراءة له - وسام علي يرتدي الخوذة العسكرية
أحمد ضياء في قراءة له - وسام علي يرتدي الخوذة العسكرية

الحروب لا يمكن نسيانها، وإن كان النسيان شكلاً من إشكال الطرد اللاإرادي أو الإنكار الغريزي لإشاحة الوجوه عن الجراح وإغماض العين عن الدمار المنظور وغير المنظور في عمارة الحياة: الأشياء والأرواح.
لم تعد قصيدة الحرب أهازيج تعبوية مدفوعة الثمن عندما كرسها الإعلام، في ثمانينات القرن الماضي، وسيلة غير بريئة نحو غاية غير بريئة، فقصيدة اليوم هي وسيلة وغاية: وسيلة للتعبير عن الألم الذي لم يزل يؤلم ضحاياه واستعادة الذاكرة أرشيفاً أسود مغلفاً بالدخان، على أن الحرب في الشعر ليست مناسبة ولا وسيلة تعبئة وإعلان، بل هي غاية شعرية يبلغها الشاعر بلغته الخاصة وطاقته الفنية بلا إملاء من فوق ولا طمع ذاتي بجاه أو تحقيق ذات. إنها استحقاق أخلاقي وشهادة حية على الحرب.. الحرب بلا تاريخ محدد ولا جغرافيا مرسومة طالما هي تستمر، اليوم، على أرضنا العربية بأشكال متعددة من تونس حتى بغداد. جماعة «ميليشيا الثقافة» في العراق، وهي موجة أدبية وفنية عراقية انطلقت قبل سنة من مدينة بابل التاريخية، حملوا عبء الحرب مرتين: الأولى ككارثة محلية والثانية كمسؤولية ثقافية عبر قصائدهم التي اختاروا لها أكثر من شكل للعرض لا الاستعراض. من ذلك أنهم اقتحموا بقاياها ورموزها على الأرض وقرأوا قصائدهم بين نيرانها المطفأة. وكتبت عنهم في صحيفة «الشرق الأوسط». شاركتهم القراءة ذات يوم قريباً من «سفوان» وعند «شارع الموت» تحديداً.
هنا متابعة لمجموعتين شعريتين جديدتين لكل من وسام علي وأحمد ضياء. شاعران من تلك «الميليشيا» يخوضان حربهما بالشعر ضد الحرب حتى باتت القصيدة شهادة ضمير لا متراساً حربياً ولا بوقاً مبحوح الصوت محتفياً بالخراب بل ممحاة لإزالة الماكياج من وجه الحرب الذي غزته التجاعيد. ينطلق وسام علي مما هو شخصي وحميم، من تابوت الأب.. من الشظية.. من موكب التشييع: «في فبراير (شباط)-كنت أدخل يدي في كم أبي-في البدء كان كفي فقط-البارحة وصلت لكتفه-اليوم لم أجده-أخشى حقاً من ريح الغد». بينما ينطلق صاحبه أحمد ضياء من المشهد العام. من «في خندق الحرب النسّاجون للدخان تترقرق في عيونهم التجاعيد».
الشعراء ليسوا حفاري قبور ولا حملة توابيت..إنهم يبحثون عما هو تحتها وهم يتقصون جذور الألم.
يذكرنا وسام علي صاحب «موتوغرافيا» بأحداث العائلة ورسائل الأصدقاء ورعب الأطفال الذين شهدوا تجليات الحزن والخوف بعيون ملتاعة لكنها مبصرة فوق العادة:
«هو الباقي-حذاء الجندي حيث يخبئ بطاقته التعريفية».
للحرب، أيضاً، أشلاؤها عندما تندلع. ولها ما يدل عليها غير الطائرات والمدافع والصمت والصراخ. الشاعر يرى الحرب تتناثر أجزاء في الهواء ثم يلتقطها ويجمعها من الرصيف أو غرفة النوم في «كولاج» ليقول لنا: هذه هي الحرب التي تسكن معنا في البيوت..حتى لو انتهت ثمة مخلفاتها التي تعلق بأهداب العيون.
في قصيدته «عامل إنقاذ» يرسم علي مشهد عامل الإنقاذ، مجرداً إياه من الانطباع العام حيث تجرد الحرب البشر حتى من نياتهم الطيبة، ليبدو «عاملاً» من نتاج الحرب وأخلاقها ومقتضيات برنامجها الاستحواذي على جسد الضحية ومقتنياته الشخصية لكأن الحرب لا تكتفي بما فعلت إنما تسرق ما تبقى بعد الموت:
«عامل الإنقاذ-يقطع رأس أحدهم-ليسعه الكيس-يخلع عن الفتيات أثوابهن-ليخفف وزن سيارة الإسعاف-وهي تعبر الجسر الخشبي-يصبغ ساعة اليد-ينقعها بالديتول (يؤخرها خمس دقائق)-ليقدمها هدية لزوجته».
على الرصيف المقابل يقف صاحب مجموعة «الحرب دموعها خشنة»، أحمد ضياء، ملوحاً:
1. تعودُنا الحلبات أن نكسو ما يسطع من حيائنا ببراميل ترفل بالغرق.
2. جذلة، تقتنصُ المجانين وسط أكشاك السواتر الأمامية للقتال، هكذا يعودنا خطُ النار أن نلبدَ في ظل السماء، ونغرف من هذيان الأرض.
3. ثمة طلقة تجري خلفي كلما انحنيت لأجمع أشلائي، الرصاصات دبابيس الجسد.
4. الفقاعات التي تخرجُ مع الدم غرضها جلد الواقع بغزارة.
5. تُعزّيني النائحاتُ تقصُ لي أحداهن جداولا من المواعيد، تذعن الأخرى لأصوات القذائف المبتلعة لمساءٍ رمادي مدلهم ينجرف نحو القتل، تفرقع آلامي وسط زيوتٍ تنزفُ ادميتها.
6. إشششششش... الطائراتُ غائصة بين غيومٍ تنتفضُ على الأمطار.
7. خانعة تلك المزاريب لذبول الشوارع لتصفيفة الهواءِ الرّابضِ في الأفران» - من قصيدة «أمواج».
وسام علي وأحمد ضياء شاعران شابان عبرا البرزخ ولم تنل منهما الألغام وهم يرفعونها من دروب المارة وحقول القمح، لكنهما ما زالا بحاجة إلى احتراس الشبان عند اللعب من الكبار في عالم أصبح ساحة حرب، وعليهما أن يحصنا لغتهما من الانزلاق أو الاهتزاز في عالم يهتز. لغة الشاعر هي وطنه الأخير وقصيدته هي عاصمة ألمه. أعني اللغة بمستوياتها المتعددة، كتابة أو ملجأ للشاعر.
.. وإذا كان للحرب صوتها المدوي فللقصيدة المضادة صوتها وإن بدا خافتاً. لكن قصائد علي وضياء حملت أعباء فوق طاقتها وهي تركض مذعورة في حقول الألغام.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.