مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس

اختلاف الرؤى الإقليمية انعكس على مداولات وزراء الداخلية العرب

مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس
TT

مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس

مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس

جمع المؤتمر السنوي لمجلس وزراء الداخلية العرب، الذي عقد أخيراً في تونس، وفوداً أمنية وعسكرية وسياسية رفيعة المستوى من كل الدول العربية، ترأس عدداً منها مسؤولون يجمعون بين صفتي وزير ورئيس مجلس وزراء أو نائب رئيس حكومة. ولكن، رغم تركيز التصريحات الرسمية لرؤساء الوفود والجنرالات الأمنيين والعسكريين المرافقين لهم حول المواقف من الإرهاب ودعم الشعب الفلسطيني، سادت نقاشات الكواليس والجلسات المغلقة أجواء الخلافات العربية - العربية حول الموقف من إيران. وكان واضحاً الخلاف بين من يعارضون التدخل الإيراني في كل من سوريا واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي، والأطراف السياسية والعسكرية المحسوبة على طهران وحلفائها. وبالتالي، مرة أخرى تكشف اللقاءات الأمنية والسياسية العربية اختلافات في مفهوم الإرهاب، تأكيداً على تبلور المحاور الإقليمية.
تغيّب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عن جلسة افتتاح المؤتمر السنوي الدوري الـ34 لمجلس وزراء الداخلية العرب، الذي استضافته أخيراً تونس، رغم الإعلان الرسمي عن حضوره، وتكفل وزير الداخلية التونسي الهادي المجدوب تلاوة كلمة الرئاسة. وكان سبب التغيب حرص «رأس هرم» السلطة التونسية على تجنب «التورط» مباشرة في أشغال مؤتمر خاض في خلافات مثيرة للجدل إقليمياً ودولياً، وعلى رأسها العلاقة بين إيران والأطراف السياسية الموالية لها مثل «حزب الله» اللبناني وحركة «الجهاد الإسلامي» الفلسطينية والمتمردين الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية العراقية، والزمر المتهمة بالضلوع في عمليات إرهابية داخل البحرين وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي.

شعارات «المقاومة»
كان الملف الأكبر الحاضر في هذا المؤتمر السنوي على صعيد التنسيق في الحرب على الإرهاب الخلاف حول توجيه تهمة الإرهاب إلى طهران وتصنيف «حزب الله» كـ«حركة إرهابية»، على غرار ما وقع في البيان الختامي لمجلس وزراء الداخلية العرب العام الماضي. ولقد رفضت بضع دول ذلك البيان. لكن القمة العربية التي عقدت بعده أكدت تمسك الغالبية به، خصوصاً الهجوم على سفارة المملكة العربية السعودية في العاصمة الإيرانية طهران، وقنصليتها في مدينة أصفهان. لكن رغم تغيب السبسي وحرص البلاغات الرسمية التي بثتها تونس على تجنب الخوض في الخلافات والمواقف الإيرانية عربياً، أكدت تصريحات مسؤولين خليجيين للإعلاميين، وكذلك كلماتهم داخل قاعة المؤتمر وجود تلك الخلافات. بل لقد اتهم مسؤولو وزارة الداخلية البحريني، العراق كذلك بكونه أصبح وكراً للميليشيات الإرهابية المتهمة بالإرهاب في البحرين والدول العربية. وكان في الصف المقابل وزراء داخلية العراق ولبنان والجزائر.
ومع حرص الجانب الرسمي التونسي على تجنب انزلاق المؤتمر إلى لجّة الخلافات العربية - العربية، اختارت بعض الوفود التشديد على ما تعتبره التهديدات الإيرانية لأمنها الداخلي. وأضيف بُعدٌ آخر، هو التحذير من توظيف الأراضي العراقية لمهاجمة مواقع في البحرين والدول الخليجية العربية.
ومن جانب آخر، انتظمت على هامش المؤتمر تحرّكات بالجملة، علنية وأخرى في الكواليس، أبرزها تحركات الوفد البحريني الذي وصل مبكراً إلى تونس وعقد جلسات عمل مع الرئيس السبسي ووزير داخليته المجدوب بحضور مسؤولين أمنيين كبار من البلدين. وكشف العميد محمد بن دينة نائب رئيس الأمن العام البحريني أن اللقاء بين الرئيس التونسي بوزير داخلية بلده الفريق الركن الشيخ راشد بن عبد الله آل خليفة شمل بالخصوص «آفاق التعاون في مكافحة الإرهاب» ومستقبل «الشراكة الثنائية في كل المجالات» في سياق متابعة نتائج القمة الثنائية التونسية البحرينية التي عقدت في المنامة في يناير (كانون الثاني) 2016. كذلك جدّد البيان الرسمي عن اللقاء «تضامن تونس ومساندتها لمملكة البحرين في مساعيها الرامية إلى ضمان أمنها واستقرارها».

«قمة عربية» مصغّرة
في الوقت نفسه، تطوّر مؤتمر مجلس وزراء الداخلية العرب إلى ما يشبه «القمة» السياسية الأمنية الاقتصادية الاستثنائية، إذ كان التمثيل في المؤتمر والمحادثات التي جرت على هامشه في مستوى قمة عربية استثنائية. إذ ترأس وفد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ووفد دولة فلسطين الدكتور رامي الحمد الله رئيس الوزراء وزير الداخلية، ووفد دولة قطر الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ووفد دولة الكويت الشيخ خالد الجراح الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية.

فلسطين «الحاضر الغائب»
من ناحية ثانية، لم يمنع الإجماع على إدانة الميليشيات الإرهابية التي تحسب نفسها على الإسلام السياسي السنّي، مثل «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة»، عدداً من الوفود - وعلى رأسها وفود فلسطين ولبنان والجزائر والعراق - من التركيز على «مخاطر» ما وصفته بـ«إرهاب الدولة» التي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة وخارجها. وفي هذا السياق، أكد الدكتور رامي الحمد الله، رئيس الوزراء وزير الداخلية الفلسطيني على اعتبار «مكافحة إرهاب دولة الاحتلال من أولويات الاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب التي سبق أن صادق عليها مؤتمر وزراء الداخلية والعدل العرب في القاهرة قبل 20 سنة». ومن ثم، طالب عدد من رؤساء الوفود العربية بمعالجة الأسباب العميقة للتطرف والغلو في الدول العربية والإسلامية، وبينها احتلال القدس العربية وفلسطين وأراضٍ عربية كثيرة في سوريا ولبنان والأردن.

الأمن الثقافي
وفي اتجاه موازٍٍ، تزامن انعقاد المؤتمر السنوي لمجلس وزراء الداخلية العرب مع تظاهرات سياسية أمنية ثقافية عربية ودولية شددت على ضرورة تحاشي ربط معالجة ملف الإرهاب بالمعالجات الأمنية ومخططات العسكريين والأمنيين. وكان على رأس تلك الشخصيات أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر الأسبق، الذي أشرف بالمناسبة على عدة تظاهرات احتضنها المركز الثاني لجامعة الدول العربية بتونس وبعض مؤسسات العمل العربي المشترك التي ظل مقرها الرسمي في العاصمة التونسية بعد عودة الأمانة العامة إلى القاهرة عام 1991، من أبرزها اتحاد إذاعات الدول العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ولقد استضافت قاعة محاضرات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، بالمناسبة، وبحضور مديرها العام عبد الله حمد محارب ورؤساء المنظمات العربية في تونس، أبو الغيط، الذي ناقش مع عشرات من الدبلوماسيين العرب والأجانب واقع الأمن الإقليمي العربي والتحديات التي تواجهه. كما قدم كتابه الجديد «شهادتي» الذي ضمنه قراءة تقييمه لمسار العمل العربي المشترك والدبلوماسية المصرية والسياسات الأمنية والاقتصادية العربية. وكان وزير الداخلية المصري مجدي عبد الغفار والوفد المصري يوجدون في مؤتمر مجلس وزراء الداخلية العرب الذي شهد تحركات لوفدي مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة لاتهام حركة الإخوان المسلمين بالضلوع في العنف السياسي والإرهاب، ورفض حصر ملف الإرهاب بالجماعات المسلحة القريبة من تنظيمات راديكالية متطرفة، مثل «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة».

ليبيا وسوريا واليمن
وعلى الرغم من شغور كرسي سوريا في مؤتمر وزراء الداخلية العرب وضعف تمثيل ليبيا واليمن في المؤتمر، وبقية تظاهرات جامعة الدول العربية التي نظمت على هامشه فيه، بينت المحادثات الرسمية، وفي الكواليس أيضاً، أن الإرهاب استفحل عربياً بعد غزو العراق 2003 التي أدت إلى إسقاط نظام صدام حسين، ثم بعد «ثورات 2011» التي أطاحت برؤساء تونس ومصر وليبيا وأسهمت في إضعاف الدولة المركزية فيها. وعوض أن تكون حصيلة 6 سنوات ونصف السنة من الثورات الشبابية العربية تنويهاً بمعالجة مشكلات التنمية والبطالة، لاحظت التقارير الأمنية السياسية استفحال العنف والجريمة المنظمة والتهريب والهجرة غير القانونية..
وكان هناك اتفاق واسع على علاقة الاضطرابات الأمنية والحروب التي يشهدها عدد من الدول العربية منذ يناير 2011 بـ«أجندات» دولية، بعضها يسعى لإعادة رسم خريطة المنطقة عبر مزيد من إضعاف مؤسسات العمل العربي المشترك. وتحدث وزير داخلية الجزائر نور الدين بدوي عن أن تورط مزيد من الشباب العربي في العنف والقتل والدمار يأتي تنفيذاً لمخططات «حرب عالمية بالوكالة» فرضت على المنطقة - حسب تعبيره. وهذه القضايا وغيرها ستكون محور مناقشات المؤتمرات الأمنية السنوية العشرين التي من المقرر أن تعقد هذا العام تحضيراً لعقد دورة العام المقبل في العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك بعد طلب تقدم به الوفد اللبناني برئاسة الوزير نهاد المشنوق في أعقاب سلسلة من التحركات في الكواليس شملت وزراء خارجية الدول الخليجية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.