التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

بين رفض الآخر والتصدي للتسامح

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية
TT

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

هل كان لا بد للهندوسية بدورها أن تقع في فخ التطرف الأصولي، الذي لم تنج منه ديانة سماوية أو شريعة وضعية في العقود الأخيرة؟ ذات مرة من ستينات القرن الماضي، وصفت رئيسة وزراء الهند المغدورة أنديرا غاندي بلادها بأنها «عالم في حد ذاتها»، وقد أصابت بالفعل، إذ إن التركيبة السكانية والدينية للهند مثيرة، فهناك 900 مليون من الهندوس، و180 مليون مسلم، و40 مليون مسيحي، و30 مليون سيخي، و15 مليون بوذي، مما يعنى أنها فسيفاء يمكن أن تتنافر وتتصارع، لولا أن قادة الهند والمؤسسين الآباء نزعوا فتيل الانفجار الطائفي والعرقي، إلى وقت قريب. كانت العلمانية هي حائط الصد الذي جنب الهند حالة التشظي الطائفي، وإعادة إطلاق سيرة الهويات القبلية، وقد مضت المحكمة العليا في الهند منذ بضع سنوات في طريق حظر استغلال «الأديان والطوائف» كمنطلقات للترويج لبرامجهم السياسية، وجمع أصوات الناخبين.
في هذا السياق، أعلن كبير القضاة في المحكمة الأعلى في الهند، تي إس ثاكور، أنه لا يسمح لأي سياسي بالسعي وراء الأصوات باسم الطائفة أو العقيدة أو الديانة، مضيفاً: إن عملية الانتخابات يجب أن تكون ممارسة علمانية، والثابت أن الدستور الهندي ينص على أن الهند «دولة علمانية»، غير أن الأحزاب السياسية في الآونة الأخيرة دأبت على العزف على الأوتار الدينية والطائفية، واعتبرتها أدوات استقطاب سياسي، ومعياراً رئيسياً لاختيار المرشحين، والتقرب كذلك من الناخبين. ما الذي جرى في الهند وأدى إلى تغير الأوضاع، وتبدل الطباع، وحوّل التعايش بين أبناء الهند إلى تناحر وعنف دموي مصبوغ بصبغة طائفية، بدلاً من التسامح؟
يبدو أن صعود القوميات، وارتفاع وتيرة الشعبويات حول العالم، قد أصاب الهند بدورها، ومضت بها في طريق ضيق، عبر تزمت الآيديولوجيات والدوغمائيات المكذوبة، عوضاً عن رحابة التلاقي المعرفي والإنساني، وهي حالة نراها في أوروبا وأميركا والعالم العربي، وفى غالبية بقاع وأصقاع الأرض.
عبّر الهندوس عن أصوليتهم في العامين الأخيرين، عندما وقع اختيارهم على رئيس وزراء (ناريندرا مودي) وصف بأنه مثال للشخص المتعصب قومياً، والمتطرف دينياً، والمبشر بالأصولية الهندوسية في كل الأحوال. وقد ارتفع الجدل الأصولي في الهند في الأيام القليلة الماضية، بعد أن فاز حزب بهاراتيا جاناتا القومي بأغلبية كبيرة جداً في انتخابات ولاية أوتار براديش، ويبلغ تعداد سكانها نحو 200 مليون نسمة، بينهم نحو 40 مليون مسلم.
وفي أعقاب النتيجة، فوجئ الهنود والعالم من حولهم باختيار رئيس الوزراء (مودي) رجلاً يعد الأكثر كراهية للمسلمين، وأيضاً للمسيحيين والسيخ والبوذيين، في الهند، ويدعي يوغي أديتياناث، وهو راهب هندوسي يصفه ميلان فايشناف، الباحث بمؤسسة كارينغي للسلام الدولي، بأنه «متطرف فيما يتعلق بخطاباته، غوغائي متعجرف للغاية، يحرك مشاعر الناس، وهو شخص لا يشتهر بشيء سوى إخلاصه لصورة متشددة من القومية الهندوسية».
هذا الوصف أكده، بل وعززه، المؤلف والمؤرخ الهندي راما شاندران غوها بقوله: «إنها لحظة مهمة وقلقة؛ إن التطرف يتحرك ليصبح هو التيار السائد».
يعنّ للمرء أن يتأمل جلياً المشهد الهندي المنقلب اليوم، في ظل رئيس وزراء كما الإله جانوس له وجهان؛ أحدهما يقابل به رؤساء العالم والمحدثين الغربيين، بوصفه صاحب مشروع تنموي لبلاده، فيها الوجه الآخر يختفي خلف قناع التطرف القومي الهندوسي.
والشاهد أن اختياره لأديتياناث، المنادي بتطهير الهند من الديانات الأخرى، الذي اقترح في عام 2014 أن تضم المساجد في الهند تماثيل الآلهة الهندوسية، وهو اقتراح يمضي في ازدراء وتحقير الديانة الإسلامية، ويطعن مسلمي الهند في صلب إيمانهم، بات حجر زاوية لأصولية هندوسية قاتلة آتية ولا شك!
أصولية أديتياناث، المعين حديثاً من قبل مودي، دعته كذلك لاتهام الراهبة المسيحية صاحبة «نوبل للسلام»، الأم تيريزا، بأنها تشارك في مؤامرة كبرى غرضها تحويل الهند إلى المسيحية، وقد شبه نجم بوليوود شاه روخ خان بالإرهابيين.
مثير جداً شأن الأصوليات حول العالم؛ إنها لا تتشابه فقط، بل تكاد تتطابق: خذ مثلاً الأصولية الأميركية، التي بلورت رؤاها عام 1997 عبر ورقة استراتيجية تسمى «PNAC»، وفيها رأى المحافظون الجدد من الأميركيين أن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرناً أميركياً بامتياز، بمعنى أن تبسط أميركا سطوتها ومنعتها، قوتها ونفوذها، على سائر البلاد وعموم العباد حول الكرة الأرضية.
وبالضبط هذا ما ينادي به أديتياناث، الذي يرى أن القرن الحالي يجب أن يكون قرن «الهندوتفا»، أي الهندوسية القومية، ليس في الهند وحدها، بل في باقي أنحاء العالم.
يذهب المراقبون للشأن الهندي إلى أن قرار مودي تعيين أديتياناث إنما جاء استجابة للتوجه الشعبوي بين الهندوس، باعتباره سياسياً يمتلك القدرة على تمثيل الهندوسي، غير أن التساؤل كيف فات مودي أنه بذلك يطلق شرارة الصدام الأصولي في بلاده، خصوصاً في ظل أحلام هندوسية لمؤسسات ومنظمات لا تداري ولا تواري رؤيتها الأحادية للهند من الناحية الدينية، وتطلق مشروعات تبشيرية هندوسية بهدف واضح، هو تحويل الهند إلى بلد هندوسي مائة في المائة؟
هنا، وكما في كل مكان، تتخفى الأهداف السياسية وراء القناعات الأصولية، وتحركها من وراء الستار، مهما كان الثمن على النسيج الاجتماعي وتماسكه، فمودي بدا واضحاً من خلال تعيينه الأخير أنه يكافئ أديتياناث على مساعدته لحزب بهاراتيا جاناتا وحلفائه على الفوز بـ325 من عدد مقاعد برلمان ولاية أوتار براديش، البالغ 403 مقعد.
لكن هذه المكافأة لم تضع في الحسبان تبعاتها واستحقاقاتها على حالة السلم الطائفي في ولاية تبلغ مساحتها حجم دولة البرازيل. مكافأة لرجل سعى، وما زال يسعى، لبناء معبد هندوسي في موقع المسجد الذي كان موضع جدل مطول على مدار عقود من الزمن، رجل جل همه حظر مطلق لإقامة مذابح للأبقار، وهي عمد الاقتصاد الذي يباشره المسلمون في الهند، فالأبقار مقدسة عند الهندوس، والوضع ليس على هذا النحو إسلامياً، رجل امتدح حظر الرئيس ترمب سفر المسلمين من 7 بلدان ذات أغلبية مسلمة، بل ورأى أن الهند لا بد أن تتبع هذا النهج نفسه.
السحب التي تتجمع فوق سماوات الهند تخبرنا أن الشتاء الأصولي الهندوسي في عهد مودي سيكون قارساً في تطرفه، لا سيما أن وراءه تاريخاً غير ناصع من العنف والرفض للمسلمين في الهند. ففي عام 2000، عندما كان ناريندرا مودي يتولى حكم الولاية، قتل عشرات من المسلمين خلال أعمال شغب، وهزت تلك المذبحة التي تعد واحدة من أفظع المذابح الهند. ولاحقاً، في فبراير (شباط) عام 2002، تسلق حشد من الهندوس الجدار الخارجي لمنطقة جولبارج السكينة في «أحمد آباد»، أكبر مدن جوجارت، قبل أن يحرقوا المنازل التي حوصرت داخلها عائلات مسلمة، واحترقت نساء وأطفال حتى الموت.
لا ينتظر المرء خيراً أو تغيراً إيجابياً في مقبل الأيام، سيما أن الإعلام الهندوسي الموجه لا ينفك يشيع أفكار ورؤى التعصب والرفض للمسلمين، بل باتت كذلك المنظمات الهندوسية القومية وحلفاؤها، من أمثال «المنظمة الوطنية القومية» و«حزب الشعب» و«جيش شيف» الهندوسي العالمي، منابر لزرع الكراهية والبغض تجاه المسلمين، ولصالح الأحزاب الهندوسية القومية المتعصبة، بغرض لا يخفى على أعين أحد، أي زيادة رصيد الأصوات الانتخابية، وهو ما يجري أمام أعين النظام وأجهزة الأمن هناك، وكأن في الأمر تواطؤاً واضحاً وفاضحاً.
في هذه الأجواء، تكاد تكون الهند العلمانية تتراجع إلى الوراء لصالح الهند الراديكالية، وتبدو المواجهات الطائفية، ومن ورائها الصراعات الأهلية، قائمة وآتية، ومع الأسف يبقى المسلمون هم الضحية الأولى، بالفعل والقول.
لم تكن قد مضت على تعيين أديتياناث بضعة أيام إلا وسقط القتلى، وأصيب الجرحى، إثر اندلاع أعمال عنف وشجار بين تلاميذ مدرسة مسلمين وهندوس في ولاية جوجارات، مسقط رأس رئيس الوزراء الهندي مودي، فقد هاجم نحو 5 آلاف شخص السكان المسلمين، وأشعلوا النار في عشرات المنازل والسيارات، في قرية فادافالى بمنطقة تاتان، بعدما اشتكى تلاميذ هندوس من سلوك تلاميذ مسلمين.
ولعل الكارثة الأكبر التي تنتظر الهند تتخفى الآن وراء ما يعرف بـ«فيلق الشباب الهندوسي»، الذي يعد الذراع الطويلة لتيار القومية الهندوسية، وقائده يدعى برامود كومار مال، ومهمته العمل من أجل الحركة القومية، وهو يقول: «إننا لا نريد أن يتفكك هذا البلد، فهناك كثير من الحركات التي ترغب في تفكيك النظام، ونحن نريد أن نوقفهم، ونجعل الناس يدركون هذا الأمر».
اللغة واللهجة الأصولية التي يتحدثها كومار تشير إلى اتجاهات الرياح بالنسبة للمسلمين بنوع خاص، وهى لا تختلف كثيراً عن تلك التي يتحدث بها رجالات اليمين العنصري الأصولي في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية.
يرى كومار أن كثيراً من المسلمين في الهند يعملون ضد المصالح الهندية، ويضيف: «تماماً كما اكتشف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الكثيرين منهم، سنكتشف نحن أيضاً في الهند الكثيرين»، وكأن في الأمر مطابقة، وليس فقط محاكاة.
لغة الاستعلاء الفوقي الأصولي ولهجته لا تبشر بأي خير مقبل لمسلمي الهند، فحين يتحدث عمن يسميهم الأقليات الدينية في الولاية يقول: «إن هذه البلاد تنتمي إليهم، ما داموا يشعرون بأنهم مواطنون لهذه البلاد، وبأنهم يجب أن يحترموا الدين القومي، تماماً كما تقبلت الهندوسية كثيراً من الأديان الأخرى».
الخطاب هنا عنصري بامتياز، فالحديث عن مسألة الدين القومي شمولية سلطوية واضحة تدفعنا للتساؤل: وماذا عن بقية الأقليات الدينية الأخرى في الهند، وعن أوضاعها في ظل هذه الأصولية الهندوسية المتصاعدة؟
الشاهد أن الأقلية المسيحية في الهند تأتي في المرتبة الثانية، من حيث العدد، وهي تعاني بدورها من ظلامية الأصولية الهندوسية، ورأس حربتها النافذ «فيلق الشباب الهندوسي» الذي بات الآن يحاصر كنائس المسيحيين، متهماً إياهم بالتبشير، وإخراج الناس عن الدين القومي للبلاد.
في شهادته أمام اللجنة الفرعية لشؤون أفريقيا والصحة العالمية وحقوق الإنسان، تحدث أخيراً محامي منظمة «اتحاد الدفاع عن الحرية»، ايهمنا أرورا، قائلاً: «إن الهند، على الرغم من تقليدها الطويل المعروف بالتسامح الديني، دخلت في العقود الأخيرة إلى معاناة الأصولية الدينية والعنف ضد الأقليات الدينية».
الهجومات ضد المسيحيين الهنود لا تختلف كثيراً عن ما يلاقيه المسلمون الهنود. وعبر السنوات القليلة الماضية، تنوعت ما بين الاعتداء على الكنائس وحرقها، وكذا تدنيسها، واختطاف وقتل المسيحيين، واغتصاب فتياتهم ونسائهم، من قبل الجماعات الهندوسية المغرقة في تطرفها. والإشكالية الأكبر التي تبين أن فيروس الأصولية قد نخر في عظام الدولة الهندية، تتمثل في أن الشرطة لا تتخذ الإجراءات المطلوبة لحمايتهم، ولا لمطاردة الجناة، والقبض عليهم، ومن ثم تسليمهم للعدالة.
هناك كذلك تعنت حكومي واضح وفاضح ضد المسيحيين الهنود، فالحكومات المتعاقبة، خصوصاً منذ أن جاء مودي إلى الحكم، تفرض تشريعات مغلظة وظالمة تتعارض مع أساسيات الديمقراطية، حجر الزاوية الرئيسي في بناء الهند التي عرفها العالم رمزاً للتنوير، ومع شرعة حقوق الإنسان الموقعة عليها منذ وقت طويل، وكذلك تفرض تشريعات غير إنسانية ضد المؤمنين المسيحيين، بادعاء مقاومة تحول الهنود من الهندوسية إلى المسيحية.
لقد بات المسيحيون الهنود تحت رحمة الجماعات الأصولية الهندوسية، خصوصاً جماعة كرست نفسها لمطاردتهم وملاحقتهم، ويطلق عليها اسم «Vishwa hindu parishad»، وأضحى على هؤلاء الاستغاثة بالشرطة من أجل تمكينهم من الصلاة، وإقامة شعائرهم الدينية، وكثيراً ما تتوانى الأخيرة عن نجدتهم.
يستدعي المشهد الهندي الحالي إعادة قراءة وتقييم لفكرة الدولة العلمانية الهندية، التي تتقلص مساحتها اليوم لصالح الدولة الأصولية، وهل كانت الهند دولة علمانية ديمقراطية بالمعنى الحقيقي أم أن هناك شكوكاً حقيقية تحوم حول المشهد.
بحسب الموسوعة البريطانية الأشهر، فإن الدولة العلمانية هي كيان سياسي، السلطة فيه محايدة تجاه مواطنيها، منزوعة الهوى الديني، بعيدة عن الحكم على الأفراد بحسب الهوية أو العقيدة أو الإيمان، وتعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم أو تفسيراتهم أو أفكارهم الدينية.
هذا التوصيف لا يتفق كثيراً مع الهند التي نراها اليوم، حيث التمييز على أساس ديني قائم، وللأسف آت، رغم أن الدستور الهندي يلغي الفروقات الطبقية منذ عهد الاستقلال، فقد أثار أخيراً مقطع مصور لمتشددين هندوس يهاجمون أفراداً من المسلمين الداليت (طائفة منبوذة مهمشة في أسفل الهرم الاجتماعي) غضباً واسعاً في صفوف أبناء هذه الطبقة الدنيا في الهند، مما يعنى أن نظام الطبقات لا يزال متجذراً في المجتمع الهندي.
هناك مفارقة كبيرة جداً في تعيين أديتياناث، أو ظهور «فيلق الشباب الهندوسي»، وهي أن الهندوسية لا يوجد لديها كتاب مقدس إلزامي يدعو للتبشير، أو إدخال الآخرين إلى حضنها أو حصنها، وعلى هذا فهي ليست موئلاً أو منبعاً للأصولية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ إنها تختلط وتلتقي بالآخر، وتكاد تنصهر معه، مما دعا كثيرين للإعجاب بـ«التعددية الداخلية الهندوسية» التي وصفت بأنها غريبة ومحيرة.
كان أفضل وصف قدمه جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، لبلاده هو أنها «لوحة قديمة نقشت عليها طبقة تلو طبقة من الفكر والأحلام، ومع ذلك لم تطمر أية طبقة لاحقة، أو تمحو، ما كتب سابقاً بصورة كاملة».
لكن أصوليي الهند، قديماً وحديثاً، من أمثال فاينك سافا ركار، يصرون على أن الهند «أمة هندوسية»، وإن كان يعيش بينها أقليات لها الحق في ممارسة دينها.
إنه التلاعب الأصولي نفسه بالكلمات والعبارات، وهو جزء واضح من ظاهرة إقليمية وعالمية، تتقلص فيها الـ«نحن» لصالح «الأنا»، وتتوازى فيها العلمانيات لصالح الأصوليات.
ما يجري في الهند اليوم انعكاس لا يقبل الشك لدعاوى مظلوميات هندوسية تاريخية تستحق إعادة القراءة، تذهب إلى أن الهندوس تم اضطهادهم من قبل المسلمين أولاً، ثم من قبل المسيحيين البريطانيين ثانياً، وأنهم لن يتعافوا إلا إذا تخلصوا من كل ما هو مسلم وبريطاني في تاريخهم.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.