التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

بين رفض الآخر والتصدي للتسامح

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية
TT

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

التطرف الهندوسي يهدد تجربة الهند التاريخية

هل كان لا بد للهندوسية بدورها أن تقع في فخ التطرف الأصولي، الذي لم تنج منه ديانة سماوية أو شريعة وضعية في العقود الأخيرة؟ ذات مرة من ستينات القرن الماضي، وصفت رئيسة وزراء الهند المغدورة أنديرا غاندي بلادها بأنها «عالم في حد ذاتها»، وقد أصابت بالفعل، إذ إن التركيبة السكانية والدينية للهند مثيرة، فهناك 900 مليون من الهندوس، و180 مليون مسلم، و40 مليون مسيحي، و30 مليون سيخي، و15 مليون بوذي، مما يعنى أنها فسيفاء يمكن أن تتنافر وتتصارع، لولا أن قادة الهند والمؤسسين الآباء نزعوا فتيل الانفجار الطائفي والعرقي، إلى وقت قريب. كانت العلمانية هي حائط الصد الذي جنب الهند حالة التشظي الطائفي، وإعادة إطلاق سيرة الهويات القبلية، وقد مضت المحكمة العليا في الهند منذ بضع سنوات في طريق حظر استغلال «الأديان والطوائف» كمنطلقات للترويج لبرامجهم السياسية، وجمع أصوات الناخبين.
في هذا السياق، أعلن كبير القضاة في المحكمة الأعلى في الهند، تي إس ثاكور، أنه لا يسمح لأي سياسي بالسعي وراء الأصوات باسم الطائفة أو العقيدة أو الديانة، مضيفاً: إن عملية الانتخابات يجب أن تكون ممارسة علمانية، والثابت أن الدستور الهندي ينص على أن الهند «دولة علمانية»، غير أن الأحزاب السياسية في الآونة الأخيرة دأبت على العزف على الأوتار الدينية والطائفية، واعتبرتها أدوات استقطاب سياسي، ومعياراً رئيسياً لاختيار المرشحين، والتقرب كذلك من الناخبين. ما الذي جرى في الهند وأدى إلى تغير الأوضاع، وتبدل الطباع، وحوّل التعايش بين أبناء الهند إلى تناحر وعنف دموي مصبوغ بصبغة طائفية، بدلاً من التسامح؟
يبدو أن صعود القوميات، وارتفاع وتيرة الشعبويات حول العالم، قد أصاب الهند بدورها، ومضت بها في طريق ضيق، عبر تزمت الآيديولوجيات والدوغمائيات المكذوبة، عوضاً عن رحابة التلاقي المعرفي والإنساني، وهي حالة نراها في أوروبا وأميركا والعالم العربي، وفى غالبية بقاع وأصقاع الأرض.
عبّر الهندوس عن أصوليتهم في العامين الأخيرين، عندما وقع اختيارهم على رئيس وزراء (ناريندرا مودي) وصف بأنه مثال للشخص المتعصب قومياً، والمتطرف دينياً، والمبشر بالأصولية الهندوسية في كل الأحوال. وقد ارتفع الجدل الأصولي في الهند في الأيام القليلة الماضية، بعد أن فاز حزب بهاراتيا جاناتا القومي بأغلبية كبيرة جداً في انتخابات ولاية أوتار براديش، ويبلغ تعداد سكانها نحو 200 مليون نسمة، بينهم نحو 40 مليون مسلم.
وفي أعقاب النتيجة، فوجئ الهنود والعالم من حولهم باختيار رئيس الوزراء (مودي) رجلاً يعد الأكثر كراهية للمسلمين، وأيضاً للمسيحيين والسيخ والبوذيين، في الهند، ويدعي يوغي أديتياناث، وهو راهب هندوسي يصفه ميلان فايشناف، الباحث بمؤسسة كارينغي للسلام الدولي، بأنه «متطرف فيما يتعلق بخطاباته، غوغائي متعجرف للغاية، يحرك مشاعر الناس، وهو شخص لا يشتهر بشيء سوى إخلاصه لصورة متشددة من القومية الهندوسية».
هذا الوصف أكده، بل وعززه، المؤلف والمؤرخ الهندي راما شاندران غوها بقوله: «إنها لحظة مهمة وقلقة؛ إن التطرف يتحرك ليصبح هو التيار السائد».
يعنّ للمرء أن يتأمل جلياً المشهد الهندي المنقلب اليوم، في ظل رئيس وزراء كما الإله جانوس له وجهان؛ أحدهما يقابل به رؤساء العالم والمحدثين الغربيين، بوصفه صاحب مشروع تنموي لبلاده، فيها الوجه الآخر يختفي خلف قناع التطرف القومي الهندوسي.
والشاهد أن اختياره لأديتياناث، المنادي بتطهير الهند من الديانات الأخرى، الذي اقترح في عام 2014 أن تضم المساجد في الهند تماثيل الآلهة الهندوسية، وهو اقتراح يمضي في ازدراء وتحقير الديانة الإسلامية، ويطعن مسلمي الهند في صلب إيمانهم، بات حجر زاوية لأصولية هندوسية قاتلة آتية ولا شك!
أصولية أديتياناث، المعين حديثاً من قبل مودي، دعته كذلك لاتهام الراهبة المسيحية صاحبة «نوبل للسلام»، الأم تيريزا، بأنها تشارك في مؤامرة كبرى غرضها تحويل الهند إلى المسيحية، وقد شبه نجم بوليوود شاه روخ خان بالإرهابيين.
مثير جداً شأن الأصوليات حول العالم؛ إنها لا تتشابه فقط، بل تكاد تتطابق: خذ مثلاً الأصولية الأميركية، التي بلورت رؤاها عام 1997 عبر ورقة استراتيجية تسمى «PNAC»، وفيها رأى المحافظون الجدد من الأميركيين أن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرناً أميركياً بامتياز، بمعنى أن تبسط أميركا سطوتها ومنعتها، قوتها ونفوذها، على سائر البلاد وعموم العباد حول الكرة الأرضية.
وبالضبط هذا ما ينادي به أديتياناث، الذي يرى أن القرن الحالي يجب أن يكون قرن «الهندوتفا»، أي الهندوسية القومية، ليس في الهند وحدها، بل في باقي أنحاء العالم.
يذهب المراقبون للشأن الهندي إلى أن قرار مودي تعيين أديتياناث إنما جاء استجابة للتوجه الشعبوي بين الهندوس، باعتباره سياسياً يمتلك القدرة على تمثيل الهندوسي، غير أن التساؤل كيف فات مودي أنه بذلك يطلق شرارة الصدام الأصولي في بلاده، خصوصاً في ظل أحلام هندوسية لمؤسسات ومنظمات لا تداري ولا تواري رؤيتها الأحادية للهند من الناحية الدينية، وتطلق مشروعات تبشيرية هندوسية بهدف واضح، هو تحويل الهند إلى بلد هندوسي مائة في المائة؟
هنا، وكما في كل مكان، تتخفى الأهداف السياسية وراء القناعات الأصولية، وتحركها من وراء الستار، مهما كان الثمن على النسيج الاجتماعي وتماسكه، فمودي بدا واضحاً من خلال تعيينه الأخير أنه يكافئ أديتياناث على مساعدته لحزب بهاراتيا جاناتا وحلفائه على الفوز بـ325 من عدد مقاعد برلمان ولاية أوتار براديش، البالغ 403 مقعد.
لكن هذه المكافأة لم تضع في الحسبان تبعاتها واستحقاقاتها على حالة السلم الطائفي في ولاية تبلغ مساحتها حجم دولة البرازيل. مكافأة لرجل سعى، وما زال يسعى، لبناء معبد هندوسي في موقع المسجد الذي كان موضع جدل مطول على مدار عقود من الزمن، رجل جل همه حظر مطلق لإقامة مذابح للأبقار، وهي عمد الاقتصاد الذي يباشره المسلمون في الهند، فالأبقار مقدسة عند الهندوس، والوضع ليس على هذا النحو إسلامياً، رجل امتدح حظر الرئيس ترمب سفر المسلمين من 7 بلدان ذات أغلبية مسلمة، بل ورأى أن الهند لا بد أن تتبع هذا النهج نفسه.
السحب التي تتجمع فوق سماوات الهند تخبرنا أن الشتاء الأصولي الهندوسي في عهد مودي سيكون قارساً في تطرفه، لا سيما أن وراءه تاريخاً غير ناصع من العنف والرفض للمسلمين في الهند. ففي عام 2000، عندما كان ناريندرا مودي يتولى حكم الولاية، قتل عشرات من المسلمين خلال أعمال شغب، وهزت تلك المذبحة التي تعد واحدة من أفظع المذابح الهند. ولاحقاً، في فبراير (شباط) عام 2002، تسلق حشد من الهندوس الجدار الخارجي لمنطقة جولبارج السكينة في «أحمد آباد»، أكبر مدن جوجارت، قبل أن يحرقوا المنازل التي حوصرت داخلها عائلات مسلمة، واحترقت نساء وأطفال حتى الموت.
لا ينتظر المرء خيراً أو تغيراً إيجابياً في مقبل الأيام، سيما أن الإعلام الهندوسي الموجه لا ينفك يشيع أفكار ورؤى التعصب والرفض للمسلمين، بل باتت كذلك المنظمات الهندوسية القومية وحلفاؤها، من أمثال «المنظمة الوطنية القومية» و«حزب الشعب» و«جيش شيف» الهندوسي العالمي، منابر لزرع الكراهية والبغض تجاه المسلمين، ولصالح الأحزاب الهندوسية القومية المتعصبة، بغرض لا يخفى على أعين أحد، أي زيادة رصيد الأصوات الانتخابية، وهو ما يجري أمام أعين النظام وأجهزة الأمن هناك، وكأن في الأمر تواطؤاً واضحاً وفاضحاً.
في هذه الأجواء، تكاد تكون الهند العلمانية تتراجع إلى الوراء لصالح الهند الراديكالية، وتبدو المواجهات الطائفية، ومن ورائها الصراعات الأهلية، قائمة وآتية، ومع الأسف يبقى المسلمون هم الضحية الأولى، بالفعل والقول.
لم تكن قد مضت على تعيين أديتياناث بضعة أيام إلا وسقط القتلى، وأصيب الجرحى، إثر اندلاع أعمال عنف وشجار بين تلاميذ مدرسة مسلمين وهندوس في ولاية جوجارات، مسقط رأس رئيس الوزراء الهندي مودي، فقد هاجم نحو 5 آلاف شخص السكان المسلمين، وأشعلوا النار في عشرات المنازل والسيارات، في قرية فادافالى بمنطقة تاتان، بعدما اشتكى تلاميذ هندوس من سلوك تلاميذ مسلمين.
ولعل الكارثة الأكبر التي تنتظر الهند تتخفى الآن وراء ما يعرف بـ«فيلق الشباب الهندوسي»، الذي يعد الذراع الطويلة لتيار القومية الهندوسية، وقائده يدعى برامود كومار مال، ومهمته العمل من أجل الحركة القومية، وهو يقول: «إننا لا نريد أن يتفكك هذا البلد، فهناك كثير من الحركات التي ترغب في تفكيك النظام، ونحن نريد أن نوقفهم، ونجعل الناس يدركون هذا الأمر».
اللغة واللهجة الأصولية التي يتحدثها كومار تشير إلى اتجاهات الرياح بالنسبة للمسلمين بنوع خاص، وهى لا تختلف كثيراً عن تلك التي يتحدث بها رجالات اليمين العنصري الأصولي في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية.
يرى كومار أن كثيراً من المسلمين في الهند يعملون ضد المصالح الهندية، ويضيف: «تماماً كما اكتشف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الكثيرين منهم، سنكتشف نحن أيضاً في الهند الكثيرين»، وكأن في الأمر مطابقة، وليس فقط محاكاة.
لغة الاستعلاء الفوقي الأصولي ولهجته لا تبشر بأي خير مقبل لمسلمي الهند، فحين يتحدث عمن يسميهم الأقليات الدينية في الولاية يقول: «إن هذه البلاد تنتمي إليهم، ما داموا يشعرون بأنهم مواطنون لهذه البلاد، وبأنهم يجب أن يحترموا الدين القومي، تماماً كما تقبلت الهندوسية كثيراً من الأديان الأخرى».
الخطاب هنا عنصري بامتياز، فالحديث عن مسألة الدين القومي شمولية سلطوية واضحة تدفعنا للتساؤل: وماذا عن بقية الأقليات الدينية الأخرى في الهند، وعن أوضاعها في ظل هذه الأصولية الهندوسية المتصاعدة؟
الشاهد أن الأقلية المسيحية في الهند تأتي في المرتبة الثانية، من حيث العدد، وهي تعاني بدورها من ظلامية الأصولية الهندوسية، ورأس حربتها النافذ «فيلق الشباب الهندوسي» الذي بات الآن يحاصر كنائس المسيحيين، متهماً إياهم بالتبشير، وإخراج الناس عن الدين القومي للبلاد.
في شهادته أمام اللجنة الفرعية لشؤون أفريقيا والصحة العالمية وحقوق الإنسان، تحدث أخيراً محامي منظمة «اتحاد الدفاع عن الحرية»، ايهمنا أرورا، قائلاً: «إن الهند، على الرغم من تقليدها الطويل المعروف بالتسامح الديني، دخلت في العقود الأخيرة إلى معاناة الأصولية الدينية والعنف ضد الأقليات الدينية».
الهجومات ضد المسيحيين الهنود لا تختلف كثيراً عن ما يلاقيه المسلمون الهنود. وعبر السنوات القليلة الماضية، تنوعت ما بين الاعتداء على الكنائس وحرقها، وكذا تدنيسها، واختطاف وقتل المسيحيين، واغتصاب فتياتهم ونسائهم، من قبل الجماعات الهندوسية المغرقة في تطرفها. والإشكالية الأكبر التي تبين أن فيروس الأصولية قد نخر في عظام الدولة الهندية، تتمثل في أن الشرطة لا تتخذ الإجراءات المطلوبة لحمايتهم، ولا لمطاردة الجناة، والقبض عليهم، ومن ثم تسليمهم للعدالة.
هناك كذلك تعنت حكومي واضح وفاضح ضد المسيحيين الهنود، فالحكومات المتعاقبة، خصوصاً منذ أن جاء مودي إلى الحكم، تفرض تشريعات مغلظة وظالمة تتعارض مع أساسيات الديمقراطية، حجر الزاوية الرئيسي في بناء الهند التي عرفها العالم رمزاً للتنوير، ومع شرعة حقوق الإنسان الموقعة عليها منذ وقت طويل، وكذلك تفرض تشريعات غير إنسانية ضد المؤمنين المسيحيين، بادعاء مقاومة تحول الهنود من الهندوسية إلى المسيحية.
لقد بات المسيحيون الهنود تحت رحمة الجماعات الأصولية الهندوسية، خصوصاً جماعة كرست نفسها لمطاردتهم وملاحقتهم، ويطلق عليها اسم «Vishwa hindu parishad»، وأضحى على هؤلاء الاستغاثة بالشرطة من أجل تمكينهم من الصلاة، وإقامة شعائرهم الدينية، وكثيراً ما تتوانى الأخيرة عن نجدتهم.
يستدعي المشهد الهندي الحالي إعادة قراءة وتقييم لفكرة الدولة العلمانية الهندية، التي تتقلص مساحتها اليوم لصالح الدولة الأصولية، وهل كانت الهند دولة علمانية ديمقراطية بالمعنى الحقيقي أم أن هناك شكوكاً حقيقية تحوم حول المشهد.
بحسب الموسوعة البريطانية الأشهر، فإن الدولة العلمانية هي كيان سياسي، السلطة فيه محايدة تجاه مواطنيها، منزوعة الهوى الديني، بعيدة عن الحكم على الأفراد بحسب الهوية أو العقيدة أو الإيمان، وتعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم أو تفسيراتهم أو أفكارهم الدينية.
هذا التوصيف لا يتفق كثيراً مع الهند التي نراها اليوم، حيث التمييز على أساس ديني قائم، وللأسف آت، رغم أن الدستور الهندي يلغي الفروقات الطبقية منذ عهد الاستقلال، فقد أثار أخيراً مقطع مصور لمتشددين هندوس يهاجمون أفراداً من المسلمين الداليت (طائفة منبوذة مهمشة في أسفل الهرم الاجتماعي) غضباً واسعاً في صفوف أبناء هذه الطبقة الدنيا في الهند، مما يعنى أن نظام الطبقات لا يزال متجذراً في المجتمع الهندي.
هناك مفارقة كبيرة جداً في تعيين أديتياناث، أو ظهور «فيلق الشباب الهندوسي»، وهي أن الهندوسية لا يوجد لديها كتاب مقدس إلزامي يدعو للتبشير، أو إدخال الآخرين إلى حضنها أو حصنها، وعلى هذا فهي ليست موئلاً أو منبعاً للأصولية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ إنها تختلط وتلتقي بالآخر، وتكاد تنصهر معه، مما دعا كثيرين للإعجاب بـ«التعددية الداخلية الهندوسية» التي وصفت بأنها غريبة ومحيرة.
كان أفضل وصف قدمه جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، لبلاده هو أنها «لوحة قديمة نقشت عليها طبقة تلو طبقة من الفكر والأحلام، ومع ذلك لم تطمر أية طبقة لاحقة، أو تمحو، ما كتب سابقاً بصورة كاملة».
لكن أصوليي الهند، قديماً وحديثاً، من أمثال فاينك سافا ركار، يصرون على أن الهند «أمة هندوسية»، وإن كان يعيش بينها أقليات لها الحق في ممارسة دينها.
إنه التلاعب الأصولي نفسه بالكلمات والعبارات، وهو جزء واضح من ظاهرة إقليمية وعالمية، تتقلص فيها الـ«نحن» لصالح «الأنا»، وتتوازى فيها العلمانيات لصالح الأصوليات.
ما يجري في الهند اليوم انعكاس لا يقبل الشك لدعاوى مظلوميات هندوسية تاريخية تستحق إعادة القراءة، تذهب إلى أن الهندوس تم اضطهادهم من قبل المسلمين أولاً، ثم من قبل المسيحيين البريطانيين ثانياً، وأنهم لن يتعافوا إلا إذا تخلصوا من كل ما هو مسلم وبريطاني في تاريخهم.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.