ليس عشوائية الترجمة... بل سوؤها

ليس عشوائية الترجمة...  بل سوؤها
TT

ليس عشوائية الترجمة... بل سوؤها

ليس عشوائية الترجمة...  بل سوؤها

انتهينا للتو من قراءة «على قيد الحياة» للروائي الصيني يو هوا، وهي من ترجمة الدكتور عبد العزيز حمدي عبد العزيز.
في تقديم الرواية، يقول المترجم، إن «هذه الرواية أطلقت قنبلة الشهرة لصاحبها في الشرق والغرب، وأحدثت ضجة كبرى في الأوساط الأدبية والعالمية». وهي تستحق ذلك، من ناحية الموضوع الذي تعالجه في الأقل. فهي تعكس لنا، من خلال سيرة بطلها «فو قوي» وشخصياتها الفلاحية الشقية، التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الهائلة التي عرفتها الصين، خاصة ما بعد منتصف القرن العشرين، من دون أن يثقل الروائي نصه بأي تفاصيل مما اعتدنا أن نراه في الروايات «الواقعية».
لكن ليس موضوعنا أن نتحدث هنا عن الرواية ذاتها، بل عن ترجمتها إلى العربية. نحن لا نعرف الصينية لنحكم على لغة الكاتب الأصلية، ولكنا متأكدون أنها أرفع بكثير من لغة الترجمة، التي لا تنتمي في كثير من مواضعها إلى لغتنا العربية السليمة. هناك اختلاط عجيب للأزمنة، حيث يتجاور الماضي مع الحاضر في الجملة الواحدة، بل في السطر الواحد، ثم كارثة استخدام حروف العطف التي اختزلت كلها في حرف واحد هو «و»، وكأن العربية لا تعرف حروف عطف أخرى. هنا تصبح القراءة عبئا ثقيلا، تود أن تتخلص منه وتستريح بطرح الكتاب جانبا، ولكن كم رواية صينية تتاح لنا قراءتها؟
الرواية التي نتحدث عنها، أصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب الكويتي، «سلسلة إبداعات عالمية». ولهذه السلسلة مشرف عام، ومستشار للتحرير، وهيئة تحرير تضم ستة دكاترة، بالإضافة إلى مديرة تحرير، وسكرتير تحرير! وهناك مراجع للرواية اسمه على الغلاف الأمامي!
هذا مثال للأسف من عشرات الأمثلة، ولا يقتصر على هذه المؤسسة الحكومية أو تلك، ولا على هذه الدار أو تلك. بل يكاد يكون الأمر ظاهرة عامة. كتبنا قبل فترة عن ترجمة كتاب مهم يتضمن مراسلات اثنين من أهم العقول الفكرية والفلسفية في القرن العشرين، وهما مارتن هايدغر وحنا أرنت. وكان يمكن أن تكون ترجمة مثل هذا الكتاب، التي تأخرت كثيرا جدا، حدثا ثقافيا مهما، لكن الترجمة كانت كارثية بكل المقاييس، من دون أن تكلف دار النشر نفسها مراجعة وتدقيق الترجمة، ليس بالنسبة للغة الأصلية الألمانية، وإنما بالنسبة للعربية، التي استبيحت أيما استباحة.
ولا بأس أن نذكر هنا كتابا آخر، عرف في بلده الأصلي بريطانيا احتفاء كبيرا، وحقق أعلى المبيعات بالنسبة لمجموعة شعرية، وهو «رسائل عيد الميلاد» لشاعر البلاط البريطاني السابق تيد هيوز، الذي دارت قصائده كلها حول زوجته المنتحرة سيلفيا بلاث، بعد أن صمت عن ذكرها أكثر من ثلاثين سنة. كان إصدار الكتاب ليس حدثا بريطانيا فقط، بل عالميا. أولا، بعد اتهام هيوز بالتسبب بانتحار بلاث، وثانيا بسبب شهرة الشاعر نفسه. وربما يكون الاثنان، هيوز وبلاث، من أكثر الشعراء المعاصرين شهرة عند القارئ العربي. وكان متوقعا، أو من المفروض، أن تكون ترجمة «رسائل عيد الميلاد» حدثا ثقافيا عربيا أيضا، لكن الترجمة كانت للأسف كارثية، أقل ما يمكن أن نقول عنها إنها ليست لها علاقة بالشاعر هيوز.
لا نلقي اللوم هنا على المترجمين، كما أنه، وبشكل عام، ليس مطلوبا من المترجم أن يتقن اللغة التي ينقل إليها إتقانا تاما، لكن المسؤولية كل المسؤولية تقع على مؤسسات النشر الرسمية، وهي مؤسسات ثقافية بالدرجة الأولى، وأيضا على دور النشر الخاصة، التي من مهماتها التدقيق لغويا في الأقل، من حيث سلامة الكتب التي تصدرها وأمانتها، إن لم يكن حرصا على سمعتها واسمها، فاحتراما للقارئ المسكين.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.