إدارة ترمب والمواجهة مع «داعش»

شهادة الخبير والسفير السابق جيمس جيفري

قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
TT

إدارة ترمب والمواجهة مع «داعش»

قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)
قوات الخدمة الأرضية تجهز مقاتلات «إف 35» لطلعات تدريبية في يوتاه بأميركا الأسبوع الماضي ضمن مشاركة قوات التحالف في الحرب على «داعش» (أ.ف.ب)

أكد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب في الأول من مارس (آذار) الحالي في خطابه الأول أمام الكونغرس ما ذهب إليه كثيرون من الخبراء والمختصين في قضايا الإرهاب والشرق الأوسط؛ إذ كشف عن البدء في صياغة سياسة واستراتيجية جديدة تخص مواجهة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، وتكفلت وزارة الدفاع (البنتاغون) بهذه المهمة المرتبطة بالأمن القومي الأميركي. كذلك أكدت كلمة ترمب على استمرار العمل مع الحلفاء التقليديين من العالم الإسلامي، من أجل إلحاق الهزيمة بتنظيم «أبو بكر البغدادي» في الشرق الأوسط ومحوه من الوجود. وتأتي هذه المستجدات في أقل من شهر من عودة جيمس جيفري، الخبير في «معهد واشنطن» والسفير السابق لدى العراق وتركيا، لتقديم شهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم 7 فبراير (شباط) 2017 بخصوص مواجهة تنظيم داعش، بعنوان «خطة لهزيمة تنظيم داعش: قرارات واعتبارات رئيسية». وكان الخبير نفسه قد قدم يوم 12 فبراير من عام 2015 شهادة سابقة للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي.
يبدو أن صناعة الاستراتيجية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في مجال مكافحة الإرهاب، من أولويات الإدارة الأميركية الجمهورية الجديدة. وواضح أن توجهات الكونغرس تستحضر بقوة ضرورة تغيير السياسة القديمة التي أشرف عليها الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، وهي السياسة التي أدت إلى مزيد من التوسع الإيراني في المنطقة، رغم النجاحات النسبية التي تحققت في مواجهة «داعش»، خصوصا على أرض العراق.
وفي هذا السياق، استهل جيمس جيفري، الخبير في «معهد واشنطن» والسفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا، ورقته المقدمة أمام النواب، بالتأكيد على أن تنظيم داعش المتطرف «تهديد مطروح على الولايات المتحدة وشركائها وحلفائها بالشرق الأوسط مواجهته، ضماناً للاستقرار». وأن النجاح في تنفيذ هذه المهمة يتطلب اليوم الانتقال إلى مرحلة جديدة، وتفعيل استراتيجية تقوم على بذل جهود فورية ومكثفة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية «لتدمير هذه الآفة الإرهابية باعتبارها الأولوية الأكثر إلحاحاً في المنطقة» حسب قوله. ولقد أشارت تقارير منشورة وتصريحات للإدارة الأميركية إلى أن إدارة الرئيس الجديد دونالد ترمب تؤيد هذا الهدف تأييداً كاملاً.
بيد أن هذه الخطورة التي يمثلها تنظيم «أبو بكر البغدادي»، لا تنسي الولايات المتحدة أن هناك خطراً يتربص بالمصالح الأميركية العليا أولا، وباستقرار الشرق الأوسط ثانياً، وبتدفق الغاز والنفط ثالثاً. ذلك أن إيران وأنشطتها الحربية التوسّعية، تجد لها شريكاً حقق بدوره عودة قوية إلى المنطقة يتمثل في روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين؛ وبالتالي، يجب النظر إلى الشراكة الإيرانية - الروسية على أنها تشكل تهديداً مباشراً للمصالح القومية للولايات المتحدة.
ومن هنا يغدو «لجم إيران» هدفاً استراتيجياً أميركياً، خصوصاً أن ثمة مؤشرات تؤكد أن النفوذ الإيراني في العراق وصل إلى درجة من الحدة يمكن القول معها إنه بات «بنيوياً» و«مؤسساتياً» بحيث يصعب تجاوزه.
وبما أن الولايات المتحدة تواجه هذه الحقيقة على الأرض؛ فإن النظرة الاستراتيجية الجديدة لا يجب أن تنحصر بإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش وأشباهه فحسب، بل يجب أن تشمل أيضا وضع خطة للتعاون مع الجهات التي يمكن أن تساعد في تحقيق الهدف الأوسع والأبعد. ومن هنا يرى محللون أن على الإدارة الجمهورية الجديدة أن تتعاون مع تركيا في سعيها «لاستعادة مدينة الرقّة في سوريا»، وفي المقابل على أنقرة أن تعي أن الأهداف الأميركية الخاصة بإلحاق الهزيمة بتنظيم «البغدادي» قد تقضي بمشاركة لاعبين فاعلين لا يحضون بقبول أنقرة التام.
الحقيقة أن إلحاق هزيمة ساحقة ونهائية بالتنظيم الإرهابي المتطرف هدف طويل المدى، ولذا يرى البعض أن على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «تفهّم» مسألة إشراك ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، خصوصا بعد التصويت على الدستور في بداية أبريل (نيسان). وفي هذه المعركة بالضبط «وإذا رغبت الولايات المتحدة في تحقيق نصر سريع ضد (داعش) سيتوجب عليها على الأرجح إشراك قوات دعم إضافية وربما تشكيلات قتالية برية محدودة». وهذا بطبيعة الحال إن تم تنفيذه، سيمثل تحوّلاً مهماً في السياسة الأميركية ضد الإرهاب التي طبقها أوباما.
وعلى ما يبدو، فالواقع الحالي يفرض التسريع في تغيير الاستراتيجية القديمة، ذلك أن التحدي لا يكمن فقط في تدمير «داعش» وخلافته المزعومة في زمن «الهيمنة» الإيرانية والتوسّع الروسي في الشرق الأوسط، بل نلحظه كذلك في الصراع الجيو - سياسي القائم حول مَن سيقود عملية التحوّل المستقبلي المهم في الشرق الأوسط المنطقة بعد ضرب «داعش» وتصفيته. ذلك أننا في مرحلة انتقالية شبيهة بتلك التي حصلت بدخول أميركا إلى العراق، وقبلها، نشوب الثورة الإيرانية، والتحولات التي أنتجتها حرب 1973.
وبناءً عليه، من الطبيعي أن الصراع مع الإرهاب وإيران صراع جيو - سياسي، يضع المصالح الكبرى لأميركا على المحك. ومن هنا ثمة ضرورة للتفكير بوضع المنطقة في مرحلة ما بعد «داعش».
بكلام آخر، على الإدارة الأميركية الجديدة اختيار استراتيجيتها السياسية - العسكرية لضرب التنظيم وتصفيته ليس من وجهة نظر عسكرية فقط، بل أيضاً من وجهة نظر سياسية تشمل هدف وضع سيناريو «اليوم التالي» الذي يُبقي الولايات المتحدة في المنطقة، ويبعد الطموحات الإيرانية، ويتعامل بصورة صحيحة مع «الوجود الروسي الذي لا مفر منه».
* ضرب «داعش»
في هذا الإطار ينبه الخبير جيمس جيفري، لطبيعة تنظيم داعش باعتباره «خلافة» مزعومة، تدّعي الاستناد إلى أسس دينية، في جغرافية لها سكان واقتصاد وجيش وحكومة. وفي الوقت نفسه، ترتبط بتنظيم «أبو بكر البغدادي» فروع عدة، تستفيد من ضعف سيطرة بعض البلدان الإسلامية على كامل ترابها الوطني. ومن هنا، وجب التوجه رأسا إلى سحق «داعش» في «عاصمتيه» (الموصل والرقّة) في العراق وسوريا، لضمان تقليص التهديدات الإرهابية وتأثيرها على الولايات المتحدة والشرق الأوسط؛ إذ إن استعادة الرقّة والموصل تعني حتما القضاء على التنظيم الإرهابي المتطرف في صورته الحالية التي ظهر بها منذ 2012.
لكن كيف يمكننا إدارة هذه المعركة الحاسمة؟
يقترح السفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا «خريطة» تجمع بين متناقضات عدة لكنها تشكل رؤية جديدة تراعي مصالح تركيا والولايات المتحدة، كما تدعو إدارة ترمب لإيجاد صيغة جديدة للتعايش مع الروس في المنطقة، وتحديداً في سوريا. ذلك أن المعركة ضد الإرهاب تتطلب تنسيقاً عسكرياً وسياسياً من جميع الأطراف الفاعلة على الأرض، سواء تعلق الأمر بمعركة الرقّة أو معركة الموصل وما سيتبعهما.
في العراق، يبدو أن استعادة غرب الموصل قد تستغرق بعض الوقت رغم الجهود والتنسيق القائم بين التحالف الدولي والقوات العراقية. وفي حالة نجاح الخطة العسكرية سيتمركز تنظيم «البغدادي» في الحويجة قرب مدينة كركوك. ورغم أن هذه الأخيرة هدف سهل على ما يبدو، فإن الولايات المتحدة بحاجة «للمناورات الميدانية» التي ستنفذها على وجه الخصوص ميليشيات «البيشمركة» الكردية وميليشيات «وحدات الحشد الشعبي» الشيعية إلى حد كبير. وبالتالي، ستتطلب مشاركة حذرة من قبل الولايات المتحدة لتجنب المواجهات وتعزيز مصالح واشنطن في العراق على المدى الطويل.
* المشهد السوري
على المستوى السوري، يبدو الأمر أكثر تعقيدا وتشابكا. فرغم أن تقارير عدة تفيد بأن أميركا تجري استعداداتها الأخيرة للدخول في معركة الرقّة؛ فإن «داعش» ما زال يستفيد هناك من قوته في مناطق متفرقة، ومن تناقضات عسكرية وسياسية محيطة بأرض المعركة. وفي ظل هذا الوضع، يضع جيمس جيفري الولايات المتحدة أمام خمسة خيارات عسكرية لا تخلو من بعد سياسي:
- الخيار الأول: يعتمد على ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (التي يشكل الأكراد عمودها الفقري) وتضم 27 وحدة عسكرية بقيادة ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية. وهذا الخيار رفضته إدارة ترمب الجديدة. وأيضا من الناحية العسكرية لا يملك هذا الخليط من الميليشيات أسلحة ثقيلة ولا تقنيات «حرب المدن»، الشيء الذي يعني تقديم مزيد من تسليح «وحدات حماية الشعب» من طرف واشنطن. وهذا يعرقل التعاون والتنسيق الاستعلاماتي - الاستخباراتي مع أنقرة، ويحد من حركة أي قوات أميركية في سوريا لحاجتها الأساسية لاستعمال الأراضي، القواعد العسكرية التركية. بالإضافة إلى ذلك، يشير جيفري إلى مسألة مهمة أخرى، حيث يذكر في شهادته أمام الكونغرس، أنه «وفقاً لمسودة تقرير من قبل (معهد واشنطن)، فجميع القبائل العربية الرئيسية الأربع المنتشرة حول الرقّة على خلاف تتفاوت حدته مع الأكراد، ما يثير تساؤلات حول (اليوم التالي) في الرقّة إذا تم تحرير المدينة من قبل ميليشيات الأكراد أو (العناصر العربية التابعة لسيطرتهم). وهو يطرح بقوة إمكانية تعاون (وحدات حماية الشعب) مع إيران والنظام السوري الحالي».
- الخيار الثاني: التحالف التركي، ويقوده التحالف الدولي، باستخدام «الجيش السوري الحر» وقوات من مشاة الجيش التركي. ويبدو أن تركيا عاجزة بمفردها على تنفيذ هذا الخيار. إلا أن أهميته تكمن في قدرته القوية على النفاذ داخل محيط الرقّة الطائفي - العرقي المتكوّن من خليط من القوات السنّيّة ذات الغالبية العربية، ما يساعد بفعالية على سحب البساط من تحت تنظيم «الخلافة». ولأهمية هذا الاعتبار ينبه الخبير جيفري إلى التقرير المرتقب صدوره عن «معهد واشنطن» ويشير «إلى أن قبائل الرقّة ستكون أقل عدائية تجاه أي وجود تركي، إلا أن تنامي الدور العسكري التركي يمكن أن يمثّل مشكلة لكل من ميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية وتحالف الأسد وإيران وروسيا».
- الخيار الثالث: الدمج بين الخيارين السابقين، وهو أفضل خيار مطروح بالنسبة لإدارة ترمب من طرف جيمس جيفري؛ ويهدف إلى امتصاص مخاوف الأتراك الخاصة بالميليشيات الكردية الانفصالية ويجعل من «الجيش السوري الحر» مشاركاً في عملية تحرير الرقّة. إلا أن دمج الخيارين الأول والثاني، يحتاج لجهود دبلوماسية كبيرة لتحقيق نتائج في غاية الأهمية لا تنحصر في هزيمة «داعش» وخلق نوع من الثقة المتبادلة بين الأتراك و«وحدات حماية الشعب» والولايات المتحدة والجيش الحر. وهو ما سيسهل من الجهود السياسية الأميركية بشأن تصوراتها لمستقبل المنطقة من دون «داعش».
- الخيار الرابع: الدعم الروسي - الإيراني - النظامي، إلا أنه يشكل مشكلة في حد ذاته؛ فلا القوات الروسية الجوية دقيقة في عملياتها، ولا الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد يمكنها إحراز تقدم من دون مخاطر ناجمة عن رفض السكان السنة لمثل هذا التوغل في مناطقهم. ومن هنا يلزم تجنب اللجوء لمثل هذا الخيار، والاكتفاء بالتعاون الاستخباراتي؛ بالتنسيق في العمليات الجوية مع موسكو، ما يحقق مزيدا من التضييق على إيران.
- الخيار الخامس: استخدام قوات من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، ومعلوم أن الولايات المتحدة تمارس تساهلاً مهماً فيما يخص حركة السلاح والعتاد والخبراء في المنطقة. ويبدو أن وزارة الدفاع (البنتاغون) تسير في منحى يقوي هذه الاستراتيجية. «أما الخطوة الأكثر حسماً»، التي يطرحها جيفري فهي إشراك قوات من النخبة الأميركية تضمّ عدة آلاف من العناصر، أو من «ناتو»، في القتال المباشر ضد «داعش».
* ما بعد «داعش»
بعد استعادة الموصل والرقّة؛ ستجد المنطقة نفسها أمام تغيير مهم، ويجب على الولايات المتحدة ضمان مصالحها الطويلة الأمد في كل من سوريا والعراق؛ إذ إن تدمير دولة «الخلافة» المزعومة الذي أسسها «داعش» يتطلب العمل على تحقيق مصالح السكان، وترتيب الوضع بشكل يمنع أي عودة للمجموعات الإرهابية. هذا الهدف يتطلب تدخلاً أميركياً لضبط الوضع، وتجاوز التحديات التي تشكلها المجموعات المسلحة، والحفاظ على وحدة العراق، والحد من نفوذ إيران في كل من العراق وسوريا، ومواجهة التوسع الروسي وفصل روسيا عن إيران وسوريا.
كذلك يجب العمل على عقد مصالحة تاريخية بين ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية مع تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان، والإبقاء على إمكانية «تسليح الجيش السوري الحر». وبالتالي، يلزم أن يكون للولايات المتحدة وجود عسكري على الأرض داخل سوريا والعراق لتدريب ميليشيا «البيشمركة» الكردية وجنود الجيش العراقي؛ ودعم إقامة «منطقة حرة» حول الرقّة، وكذلك دعم «المنطقة التركية» في شمال سوريا.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟