اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

ارتياح أوروبي عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات العامة

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد
TT

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

كان الطقس بديعا للغاية. شمس مشرقة، ونسمة ربيع حانية، وطبيعة خلابة في هولندا، في يوم التصويت لاختيار أعضاء البرلمان، وهو طقس مخالف تماما لما كان عليه في اليوم الذي سبقه... وكأن الظروف المناخية أرادت أن تلعب دورا في تشجيع المواطنين على الخروج للتصويت. وبالفعل، سجلت نسبة إقبال كبيرة وصلت إلى 80 في المائة، وهي نسبة لم تسجل في هولندا منذ سنوات طويلة.
ومن ثم، حمل إعلان النتائج أخباراً جيدة للغاية، ليس فقط للهولنديين سواءً من سكان البلاد الأصليين، أو من المهاجرين من أصول إسلامية، بل أيضاً للأوروبيين. إذ فاز الحزب الليبرالي بقيادة رئيس الحكومة مارك روتي محتلاً المرتبة الأولى، بينما حل حزب الحرية اليميني المتطرف الذي يقوده خيرت فيلدرز المناهض للإسلام في المرتبة الثانية.
يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة في هولندا بعد الانتخابات العامة التي أجريت هذا الأسبوع مفاوضات صعبة وطويلة لتشكيل ائتلاف حكومي جديد. ولقد علق كثير من المراقبين على ما شهدته معركة الانتخابات من تطورات مختلفة.
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط» قال نور الدين العمراني، الإعلامي والباحث في قضايا الأقليات في هولندا، معلقاً: «لأول مرة في تاريخ الانتخابات الهولندية، ومنذ 30 سنة، فاقت نسبة مشاركة الناخبين نسبة الـ80 في المائة. ولأول مرة في التاريخ البرلماني شارك الشباب الهولندي بكثافة في عملية التصويت لاختيار نواب برلمانيين للظفر بالكرسي الأزرق بالبرلمان. وبالتالي، اختيار ممثلي الحكومة المقبلة». وتوقع العمراني أن تتقدم الأحزاب الفائزة إلى مشاورات أو مفاوضات «ماراثونية» لتشكيل حكومة ائتلافية سيكون مكوّنها الأكبر الحزب الليبرالي برئاسة روتي، المرشح الآن لفترة رئاسية ثالثة.
أمام التهويل السياسي والإعلامي المراهن على فوز المتطرف فيلدرز، الذي تقدم للانتخابات بورقة شعبوية كبرنامج انتخابي، اندفع الهولنديون إلى إعطاء أصواتهم لليبراليين في تصويت ضد الكراهية والتحريض. مع العلم بأن ورقة فيلدرز التحريضية كرّرت التعبير عن مواقفه الداعية إلى منع تداول القرآن الكريم، وإغلاق الحدود بوجه المهاجرين واللاجئين، والتصدي لما يسميه «أسلمة المجتمع الهولندي».
لقد قال الشعب كلمته، وتلقى الزعيم المتطرف صفعات متتالية ليلة إعلان النتائج. ولكن، في المقابل، كانت هذه الانتخابات قاسية جداً على حزب العمل (يسار الوسط) الذي فقد مقاعد كثيرة ودفع ثمناً سياسياً باهظاً نتيجة دعمه للإصلاحات السياسية والاقتصادية لليبراليين. أما حزب اليسار الأخضر الذي يقوده جيسه كلافر - ذو الأصول المغربية - فقد استطاع أن يعيد للحزب مكانته الطبيعية كمكوّن يساري يدافع عن المحرومين من هولنديين ومهاجرين على حد سواء. وحصل حزب «دينك» Denk ذو المرجعية الإسلامية والأصول المغربية والتركية على ثلاثة مقاعد، مستفيداً من دعم الناخبين من المهاجرين وبالذات المسلمين، وعلى رأسهم أولئك الذين غضبوا من حزب العمل، الذي كان أحد الأحزاب التي كانت تشكل التحالف الحكومي لسنوات عدة.
بيت فان در ليندن، رئيس «منتدى هولندا للجميع»، قال في مكالمة هاتفية ردا على سؤال يتعلق بقراءة النتائج: «إن الانتخابات كانت صعبة وعصيبة، وعلى الرغم من أننا لا نتفق وسياسة الحزب الليبرالي، فإننا نشكر الشعب الهولندي على اختياره أهون الشرين (السيئ لا الأسوأ). لقد قطع الشعب الهولندي الطريق على الشعبويين، وهذه إشارة واضحة للدول الأوروبية المقبلة على الانتخابات كألمانيا وفرنسا. إن على هذه الدول أن تأخذ الدرس من التجربة الهولندية».
من ناحية ثانية، وفق النتائج التي أوردتها وكالة الأنباء الهولندية، للمعركة الانتخابية البرلمانية، حصل الحزب الليبرالي بقيادة رئيس الوزراء روتي على 33 مقعدا، في حين حصل حزب العمل (يسار الوسط) الحليف والشريك في الائتلاف الحكومي على 9 مقاعد فقط، خاسراً ما لا يقل عن 29 مقعداً.
وفي تعليق على هذه الهزيمة المزلزلة، قال زعيم حزب العمل لودفيك آشر، إن ما حدث لحزبه «مأساة». وكان واضحاً حسب المحللين، أن الحزب فقد ولاء كثيرين من ناخبيه الطبيعيين، ولا سيما من المهاجرين، وبخاصة المغاربة الذين تذمروا من سياسة الحزب المحابية لليمين والمتعلقة بالمس بتعويضات الأرامل وتعويضات الأطفال في المغرب. ويشير المحللون إلى أن هذا الحزب عرف تاريخيا بوقوفه مع مصالح العمال، هولنديين وأجانب، بيد أنه في السنوات الأخيرة فقد هويته الاجتماعية الديمقراطية بعد انسحاب رموز تاريخية من قياداته، وتنكر القيادة الحالية لتاريخ الحزب ونضاله.
أما حزب الحرية بقيادة المتطرف فيلدرز، الذي كان يطمح لاحتلال الصدارة، فإنه حصل على 20 مقعداً فقط بزيادة 5 مقاعد فقط عما كان لديه في البرلمان السابق. وكان واضحاً أنه على الرغم من التهويل الإعلامي والسياسي لماكينة الحزب الدعائية، فإنه أخفق في كسب ثقة الناخبين. وعلقت الممثلة الهولندية المشهورة كارين بلومن على هزيمة فيلدرز وحزبه بالقول: «تقدم إلى الانتخابات بورقة انتخابية واحدة. إنه يستبلد الشعب الهولندي، وعلينا ألا نعيره أي اهتمام».
وبعكس متطرفي اليمين، عاد حزب اليسار الأخضر بقوة إلى الواجهة، ويعود جزء من الفضل إلى دور زعيمه جيسه فراس كلافر (والده مغربي) وعمره 30 سنة، ونجاحه في إقناع الشباب بممارسة حقهم الانتخابي، وهو ما لم يتحقق منذ ثلاثين سنة، حيث فاقت نسبة المشاركة 81 في المائة، وهذا رقم زرع الثقة في السياسة الهولندية التي كان ينظر إليها على أنها ستقع فريسة الشعبويين اليمينيين. ولقد حصل اليسار الأخضر على 14 مقعداً بزيادة 10 مقاعد عما كان لديه في البرلمان السابق.
أما المفاجأة الكبرى فهي حصول حزب «دينك» Denk – وتعني الكلمة «فكّر» باللغة الهولندية و«مساواة» باللغة التركية – الذي يدعمه المهاجرون الأتراك والمغاربة بثلاثة مقاعد لأول مرة في تاريخه. وذهب أحد المقاعد الثلاثة للمغربي فريد أزرقان. ووفق المحللين استطاع هذا الحزب، مثل حزب اليسار الأخضر، استمالة الناخبين الغاضبين الذين كانوا في السابق يصوتون لحزب العمل.
ويرى بعض المحللين أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وطالب فيه مواطنيه والمهاجرين المسلمين في هولندا بألا يصوتوا للحزب الحاكم أو للعنصريين المتطرفين، ساعد هذا الحزب الصغير على وضع اسمه على الخريطة السياسية.
وعلى صعيد آخر، توزّعت المقاعد الأخرى أحزاب تقليدية كالحزب الديمقراطي المسيحي (19)، وحزب الديمقراطيون «د 66» (19)، والحزب الاشتراكي (14)، وحزب الاتحاد المسيحي (5). أما الأحزاب الصغيرة فقد حصلت على ما يتراوح بين مقعد و4 مقاعد، كحزب الحيوانات، والشيوخ، ومنتدى الديمقراطيين. وثمة أحزاب أخرى يمينية ودينية كحزب «يحيا عيسى» لم تحصل على أي مقعد.
حضر لتغطية الانتخابات التشريعية 300 صحافي ومراسل وممثل لوكالات من كل القارات الخمس. وكان الإعلام المغربي هو الغالب الأكبر رغم وجود نحو 400 ألف مغربي عانوا الأمرين من التصريحات العنصرية التي كان وراءها المتطرف فيلدرز.
ولقد شارك أبناء الجالية المسلمة في هولندا في التصويت والترشح في القوائم الحزبية. أما عن كيفية التصويت ونوازعه فهناك معايير للاختيار من وجهة نظر البعض من المراقبين. ويقول نور الدين العمراني: «إن العاطفة تلعب دورا كبيرا في اختيارات الناخب المهاجر المتحدر من أصول إسلامية وعربية، وهو يعتمد على العامل الديني أو الثقافي في تحديد الاختيارات، في حين يصوت المواطن الهولندي العادي انطلاقا من التأثير السياسي والإعلامي».
من جهة أخرى، ليس خافياً أن البعض نظر إلى هذه الانتخابات على أنها اختبار للمشاعر المناهضة لمؤسسة الحكم وللهجرة، وجاءت وسط خلاف حاد مع تركيا، وشكوك حول مستقبل الاتحاد الأوروبي.
وأمام لجنة للتصويت في بلدية سلوتن مير، غرب العاصمة أمستردام، رصدت «الشرق الأوسط» آراء الناخبين بعد الإدلاء بأصواتهم. وكما قال العمراني، الناخبون المسلمون ركزوا على اختيار الأشخاص من العرب والمسلمين في قوائم الأحزاب، بينما اعتمد الناخبون الهولنديون الآخرون في اختياراتهم على برامج الأحزاب.
ناخب تركي في العقد الثالث من عمره، كان برفقته طفله الصغير (دون 3 سنوات) قال لنا: «جئت اليوم لأمارس دوري في التصويت بالانتخابات، واقترعت لمرشحة تركية». وقال رجل في الخمسين من عمره متحدر من أصل مغاربي: «صوتت لحزب العمل؛ لأنه يضم أشخاصا من أصول عربية وإسلامية ويعملون لمصلحة المسلمين في هولندا». وقال ناخب ثالث، وهو هولندي ستيني ليس من أصول عربية أو مسلمة، عندما سألناه: «الطقس جميل وساعد ذلك على إقبال أعداد كبيرة... وأنا أعطيت صوتي للحزب الاشتراكي لاقتناعي بأن برنامج الحزب يلبي طموحاتي». وأردف: «أتمنى ألا ينجح فيلدرز المتشدد». بينما قال رجل عربي يتحدث الهولندية: «أعتقد أن هناك تبايناً في المواقف. هناك بعض المساجد دعت إلى التصويت لحزب (دينك) الإسلامي لمواجه خطط اليميني فيلدرز».

ماذا يقول المرشحون؟
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت مرشحة من حزب «دينك»، عايشة غول كليتش: «حزبنا أسس قبل سنتين، ولدينا الآن ممثلون في البرلمان. ونحن ندعو إلى مجتمع مشترك يسمح لكل شخص بأن يحتفظ بهويته، ونرفض أن يكون هناك مقياسان. إننا ننادي بعكس ما ينادي به فيلدرز. وأرجو من المواطنين عدم التأثر بالاستطلاعات، واختيار المرشح حسب البرنامج الذي يطرحه».
ومن جهة أخرى حاولت «الشرق الأوسط» التعرف على تأثيرات الأزمة بين تركيا وهولندا على تصويت الناخبين، فقال لنا لوك ورينغا، رئيس «المركز الاجتماعي لملتقى العقائد» في أمستردام: «أي من الأحزاب الهولندية لم تشأ التورط في هذا الخلاف الذي وقع قبل أيام قليلة مع تركيا. وأنا كهولندي أرى أن (الرئيس التركي) إردوغان أراد عرض عضلاته بإرسال وزيرة شؤون الأسرة إلى هولندا، بعد رفض هبوط طائرة وزير الخارجية التركي في وقت سابق».

الارتياح الأوروبي
أما بالنسبة للمواقف الأوروبية، فأشارت التقارير الإعلامية الأوروبية في بروكسل، إلى أن معظم الأوروبيين تنفسوا الصعداء عقب الإعلان عن فوز روتي في الانتخابات الهولندية، لا سيما أنه كانت هناك مخاوف جدية لدى البعض من تحقيق فيلدرز مفاجأة على غرار تصويت «بريكست» في بريطانيا. وبالفعل، تلقى روتي التهاني من كثير من القيادات والعواصم الأوروبية. في حين قال روتي مساء الأربعاء، عقب انتهاء التصويت وإعلان النتائج: «في هذا المساء أيضا قالت هولندا، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانتخابات الأميركية: لا للنوع الخاطئ من الخطاب الشعبوي». ومن ثم، تلقى رسائل تهنئة من بعض الزعماء الأوروبيين وتحدث إلى بعضهم هاتفياً، بينما حقق «اليورو» مكاسب بعدما أشارت النتائج إلى انتصار روتي الواضح وهزيمة فيلدرز.
وكان في طليعة المرحبين الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، كما كتب وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت في تغريدة له: «أهنئ الهولنديين على وقف صعود اليمين المتطرف». وفي ألمانيا، كتب بيتر ألتماير، رئيس مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تغريدة على موقع «تويتر»: «هولندا... يا هولندا أنت بطلة! أهنئك على هذه النتيجة العظيمة».
هذا، ويمكن القول إن هذه الانتخابات شكلت اختباراً مهماً حول ما إذا كان الهولنديون يريدون إنهاء عقود من الليبرالية واختيار مسار قومي مناهض للمهاجرين. وكانت النتائج الإيجابية لدعاة الانفتاح مبعث ارتياح لأحزاب التيارات السياسية الرئيسية في أوروبا، خاصة في فرنسا وألمانيا، حيث يأمل اليمينيون القوميون في تحقيق مكاسب كبيرة في انتخابات البلدين هذا العام، وهو ما يمكن أن يمثل تهديدا لوجود الاتحاد.
وحسب الاستطلاعات، من المتوقع أن تصل مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية في مايو (أيار) المقبل، بينما يرجح أن يحصل حزب «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للمهاجرين والاتحاد الأوروبي على مقاعد في البرلمان الألماني للمرة الأولى خلال الانتخابات التي تجري في سبتمبر (أيلول) المقبل.
إلا أن الخبيرة بالشؤون الأوروبية، الباحثة لويز هون، في جامعة «بروكسل الحرة» ببلجيكا، قالت: «نحن نعتقد فعليا أن استخلاص العبر من الانتخابات الهولندية يفيد بأن الهولنديين يرفضون التطرف. غير أن هذه النتائج لا تعكس كل أوضاع المتطرفين في أوروبا، نسبة لما ذكرناه من دقة النسبية في القانون الانتخابي الهولندي. ولو كان الاقتراع منحصراً بين مارك روتي وخيرت فيلدرز فقط لربما كانت النتائج مغايرة تماماً. نعتقد أيضا أن الانتخابات الهولندية برهنت على أن أسئلة جديدة باتت في صلب الحملات الانتخابية، من بينها الهجرة واللجوء... وهذه الأسئلة طرحتها كل الأحزاب، التقدمية منها وغير التقدمية». وتابعت: «الخضر أيضا في هولندا أحرزوا تقدما كبيرا، بينما ضعف حزب العمل الذي لم يتناول إلا شؤونا قديمة التداول، ولاحظنا شبه غياب للأسئلة المتعلقة بالشأن الاقتصادي لهولندا. هذا يعني بالإجمال أن الموضوعات مركزة حول الهجرة واللجوء وأزمة اللاجئين. هذا يعني أن الأحزاب الشعبوية المتطرفة مثل حزب مارين لوبان وحزب البديل في ألمانيا، سيستخدمون بقوة هذه الموضوعات في حملاتهم الانتخابية».

وماذا الآن؟
أخيراً، لم يطل الوقت بعد إعلان النتائج في هولندا، حتى تحركت التخمينات بشأن شكل الائتلاف الحكومي الجديد. ذلك أنه عقب إعلان النتائج، قال رئيس الوزراء الفائز مارك روتي، إن عملية التفاوض حول تشكيل حكومي جديد ستكون صعبة، وربما تستغرق فترة طويلة، لكنه أبدى استعداداً للتحالف مع الديمقراطيين. أما فيلدرز فقال في تغريدة على «تويتر»، إن حزبه كان يحتل المرتبة الثالثة، واليوم يحتل المرتبة الثانية، وفي الانتخابات القادمة سيصل للمرتبة الأولى. وأضاف أنه كان يتوقع أن يحصل على 30 مقعداً، ولكنه يعتبر نفسه فائزاً لزيادة عدد مقاعد الحزب.
البعض تحدث عن إمكانية تشكيل ائتلاف من الديمقراطيين مع الحزب الليبرالي، ولكن مع دعم من حزب آخر، ربما يكون اليسار الأخضر أو الاتحاد المسيحي. وفي هذا السياق، قال رئيس حزب «الديمقراطيون 66» ألكسندر بيختولد، إن «الإمكانات كثيرة لتشكيل تحالف، لكن الأمور تتوقف على الحزب الليبرالي الذي له المبادرة، باعتباره صاحب العدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب». وأشار بيختولد إلى إمكانية تشكيل ائتلاف يضم حزبه مع الحزب الليبرالي، وأيضا الحزب الديمقراطي المسيحي، ومعهم يمكن إضافة اليسار الأخضر أو الاتحاد المسيحي لتحقيق الأغلبية المطلوبة في البرلمان. وهذا يعني ائتلافاً واسعاً، من دون أن يكون بالضرورة متجانساً.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».